الإيمان بالقدر

تحت قسم: الإيمان بالقدر


الحمد لله العلي الأعلى، الذي خلق فسوى، والذي قدّر فهدى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلـٰه إِلَّا اللَّهُ وحده لا شريك له، له الحمد في الآخرة والأولى، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله، بلّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الغمة، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجهم واقتفى، وسلَّم تسليمًا كثيرًا. أما بعد، عباد الله، اتقوا الله وعظّموه، وأطيعوه ولا تعصوه، واصبروا على فعل الطاعات، وعلى ترك المعاصي والسيئات، واعلموا أن الإيمان بالـقَدَر هو أحد أركان الإيمان التي لا يتم ولا يصح إلا بتحقيقه، والقدر هو ‏تقدير الله تعالى للكائنات حسَبَ ما سبق في علمه واقتضته حكمته.

  1. عباد الله، والإيمان بالقدر يقوم على أربعة أركان‏:‏ الإيمان بالعلم والكتابة والمشيئة والخلق، فأما العلم فهو الإيمان بأن الله تعالى عَلِمَ كُـــــلَّ شيء جملة وتفصيلاً، أَزَلاً[1] وأبدًا، سواء كان ذلك مما يتعلق بأفعاله، كالإحياء والإماتة وإنـزال الــمطر، أو بأفعال عباده‏ وأقوالهم، فكلها معلومة لله عز وجل، والدليل على هذا قوله تعالى ﴿وكان الله بكل شيء عليما﴾، وقوله تعالى ﴿وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين﴾ .

  2. معاشر المؤمنين، والركن الثاني من أركان الإيمان بالقدر هو الإيمان بالكتابة، أي الإيمان بأن الله كتب مقادير كل شيء إلى قيام الساعة في اللوح المحفوظ، كتب ذلك قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، ودليل الكتابة قوله تعالى ﴿قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا﴾، وقوله ﴿ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها﴾، أي من قبل أن نخلق الخليقة. 

وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال‏:‏ سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: ‏كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة.[2]

وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتُب. قال: ربِّ، وماذا أكتُب؟ قال: اكتُب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة. ثم قال عبادة لابنه: يا بني، من مات على غير هذا فليس مني.[3]

  1. أيها المسلمون، والركن الثالث من أركان الإيمان بالقدر هو المشيئة، ومعناها الإيمان بأن جميع ما يكون ويحصل في هذا الكون لا يكون إلا بمشيئة الله تعالى، أي بإذنه الكوني، سواء كان مما يتعلق بأفعاله، كالإحياء والإماتة وتدبير أمور الكـون، أو مما يتعلق بأفعال المخلوقين، من ذهاب ومجيء، وفعل وترك، وطاعة ومعصية، وغير ذلك من أفعال العباد التي لا تُعد ولا تحصى، قال تعالى فيما يتعلق بأفعاله ﴿‏وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَـاء وَيَخْتَارُ﴾‏، وقال‏ ﴿‏وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاء﴾.

وقال تعالى فيما يتعلق بأفعال المخلوقين‏ ﴿‏وَلَوْ شَاء اللَّه لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ‏﴾‏، ‏ فالاقتتال الذي هو فعل العبد لا يقع إلا بمشيئته، أي بإذنه الكوني، وقال‏ ﴿‏وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ‏﴾‏، وقال ﴿ولو شاء الله ما أشركوا﴾.

فلا يقع شيء في هذا الكون إلا بمشيئة الله تعالى وإذنه الكوني، سواء كان مما يتعلق بأفعاله أو بأفعال عباده، لأن هذا الكون ملك لله، فما دام الشيء ملكه فإنه لا يكون في ملكه إلا ما شاءه وأذِن به، سواء كان مما يرضاه كالطاعات، أو مما لا يرضاه كالمعاصي، ولا يكون في ملكه شيء بدون إذنه، ولو كان يقع شيء بدون إذنه لكان ملكه ناقصا، تعالى الله عن ذلك.

  1. أيها المسلمون، والركن الرابع من أركان الإيمان بالقدر هو الخلق، أي الإيمان بأن جـميع الكائنات خلقها الله تعالى بذواتها وصفاتها وأفعالها من العدم، قال الله تعالى ﴿‏اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ‏﴾‏، وقال‏ ﴿‏وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا‏﴾، وقال ﴿إنا كل شيء خلقناه بقدر﴾.

الخطبة الثانية

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد، فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن تقدير الله أنواع ثلاثة:

1.التقدير الأزلي[4] وذلك قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة عندما خلق الله تعالى القلم، فقال له: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة.[5]

2. النوع الثاني هو التقدير العُمري ويكون عند تخليق النطفة في الرحم، فيُكتب إذ ذاك ذكورتها أو أنوثتها، والأجل والعمل، والشقاوة أو السعادة، والرزق وجميع ما هو لاقٍ، فلا يُــزاد فيه ولا يُـــنقَص منه، ودليله حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهو الصادق المصدوق قال: إنَّ أحدَكم يُـجمع خلقُه في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مُضغة مثل ذلك، ثم يَبعث الله ملَكا ويؤمر بأربع كلمات، ويقال له: اكتب عمله ورزقه وأجله، وشقي أو سعيد، ثم يُنفخ فيه الروح ... الحديث.[6]

3.التقدير الحَولي (أو السنوي) ويكون في ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان من كل عام، ويُقَدَّر فيها ما يكون في السنة إلى مثلها في السنة المقبلة، ودليل ذلك قوله تعالى ﴿إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين * فيها يفرق كل أمر حكيم * أمراً من عندنا إنا كنا مرسِلين﴾. قال الشيخ عبد الرحمـٰن بن ناصر السعدي رحمه الله في تفسير هذه الآية:

أي يُفصَلُ ويُـميَّزُ ويُكتبُ كلُّ أمرٍ قدريٍّ وشرعيٍّ حَكَمَ اللهُ به، وهذه الكتابة والفرقان الذي يكون في ليلة القدر إحدى الكتابات التي تُكتب وتُـميَّز، فتُطابِقُ الكتابَ الأولَ الذي كتب الله به مقادير الخلائق وآجالِهم وأرزاقِهم وأعمالِهم وأحوالِهم.[7] انتهى.

المراجع

  1. الأزل هو القِدم. انظر «لسان العرب».
  2. رواه مسلم (2653).
  3. رواه أبو داود (4700) والترمذي (3319) واللفظ لأبي داود ، وصححه الألباني رحمه الله. 
  4. الأزل هو القِدم. 
  5. تقدم تخريج الحديث.
  6.  رواه البخاري (3208) ومسلم (2643). 
  7.  أي ما كان في التقدير الأزلي في اللوح المحفوظ.