البركة

تحت قسم: الإصلاح

الناس يسعون في هذِه الحياةِ الدنيا بِألوانٍ منَ الأعمالِ شَتّى، وكلُّ شيءٍ لا يَكونُ للهِ فبركتُه مَنزوعَة، والربُّ هوَ الذي يُبارِك وَحدَه، فالبركةُ كلُّها مِنه، والله جلّ وعَلا برَحمته يأتي بالخيرَات، وبفضَله يضاعِف البركات، وليس فضل العمل وسَعةُ الرّزق بكثرته، ولا زيادةُ العمر بتعاقُب الشهور والأعوام، ولكنْ سعةُ الرزقِ والعمُر بالبركة فيه.

 والبركةُ ما كانت في قليلٍ إلاَّ كثَّرته، ولا في كثيرٍ إلا نفَعَته، ولا غِنَى لأحدٍ عَن بركةِ الله، حتى الأنبياء والرّسل يطلبونها من خالقِهم، يقول النبيّ صلى الله عليه وسلم: ((بينما أيّوبُ يغتسِل عُريانًا، فخرَّ عليه جرادٌ من ذهَب، فجعل أيّوبُ يحتثي في ثوبِه، فناداه ربّه: يا أيّوب، ألم أكن أغنيتُك عمّا ترى؟! قال: بلَى وعزّتِك، ولكن لا غِنى بي عن بركتك)).

البركة: -هي تكاثرَ الخير ونماءه، واستقرارَه واستمراره، وثبوته وديمومته، فلا تفترق عن الشيء الموجودة فيه، بل تظل مرتبطة به.

والمصدر الذي لا تُلتمس البركة إلا منه هو الله وحده، فهو وحده الذي (تبارك) أي: كثُرت بركاته وتزايد خيره،

قال تعالى

﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ﴾ 

[الفرقان1]

وقال جل شأنه

﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ﴾ 

[الملك1]

وقال الله

﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾

[غافر64]

وقال

﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾

[المؤمنون14]

 لذلك علَّمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نلتمس البركةَ من الله، وأن نسأله إياها، فها هو -على سبيل المثال- كان إذا رأى باكورة الثمر، دعا الله سبحانه وسأله البركةَ؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُؤتى بأوَّل الثَّمر فيقول: ((اللهم بارك لنا في مدينتنا، وفي مُدِّنا، وفي صاعِنا، بركةً مع بركة))، ثم يعطيه أصغر من يحضُرُه من الولدان.

 إنها إن وُجدت وحلَّت، تتسع الأوقاتُ، وتتضاعف الطاقات، وتتحقق الإنجازات، ووقعت المعجزات، وإن فُقدت أو رحلت، فربما خرج الإنسانُ من هذه الحياة -مهما طال عمره، وكثُر سعيُه- بلا زاد قدَّمه، ولا أثر خلَّفه.

ولقد حلَّت هذه البركةُ الربانية على هذه الأرض قبل أن يستخلف اللهُ الإنسان فيها بملايين السنين،

فقال تعالى

﴿قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ* وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ﴾

[فصلت9-10]

 وبارك فيها؛ أي: جعلها مباركةً، قابلة للخير والبَذْر والغِراس.

وبصفة عامة وإجمال مختصر واضح، فالذين ينتفعون ينتفع ببركات الله في هذه الأرض هم الذين اتقَوا ربهم، وعمَروها بمنهج الله -عز وجل-

قال تعالى

﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾

[الأعراف96]

وعلى العكس من هذا، فإن التغييرَ والتبديل والإعراض عن منهج الله -تعالى -سبب لزوال البركة، وذهاب الخير؛ وقد قص اللهُ -تعالى- علينا نبأَ "سبأ" الذين أُبدلوا من بعدِ البركات والنماء مَحْقًا؛

قال تعالى

﴿لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ*فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ﴾

[سبأ15-16]

ولا شك أن كل منا يحتاج بشدة إلى مثل هذه البركة في كل شأن من شئون حياتنا، فإننا نحتاج إلى البركة في عمرنا حتى لا يضيع هباء، ومع وجود البركة في الأرض من قبل استخلاف الإنسان فيها، إلا أن كثيرا من الناس -وبعضهم مسلم للأسف -لا ينعَم بالبركة في حياته، فيفتقدها في كل مجالات الحياة، فلا يشعر بالبركة في المال والأولاد،

مع أن الله تعالى قال عنها

﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾

[الكهف46]

وكثير منا لا يَنعم بزوجته مع أن الله تعالي جعلها سكنًا ومودة ورحمة،

فقال - سبحانه

﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾

[الروم21]

فالزوجة خلقها الله للسكن،  فقوله تعالى ﴿لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا﴾؛ أي: تألفونها، وترتاحون وتطمئنون إليها، ولكن الزوجة عندَ البعض لا أُنسَ ولا مودة ولا رحمة، مشاكل وخِلافات، ومحاكم، لماذا؟ لأنَّه لم يُبارَكْ فيها.

إن البركةُ هِبةٌ من الله فوق الأسباب الماديَّة التي يتعاطاها البشرُ، فإذا باركَ الله في العُمر أطالَه على طاعته، وإذا باركَ الله في الصحة حفِظَها لصاحبِها، وإذا باركَ في المال نمَّاه وكثَّرَه، وإذا باركَ الله في الأولاد رزقَ بِرَّهم وهداهم وأصلَحَهم، وإذا باركَ الله في الزوجة أقرَّ بها عينَ زوجها.

إننا وللأسف نعاني من نزع البركة من حياة الناس، فقد نُزعت على مستوى الأفراد، وأدى ذلك إلى نزعها على مستوى الأمة، فالأمة اليوم كثيرة ولكن كثرة لا بركة فيها، وصدَق فينا قول المصطفى - صلى الله عليه وسلم -: ((يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كما تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إلى قَصْعَتِهَا فقال قَائِلٌ وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟ قال: بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ وَلَيَنْزَعَنَّ الله من صُدُورِ عَدُوِّكُمْ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ وَلَيَقْذِفَنَّ الله في قُلُوبِكُمْ الْوَهْنَ فقال قَائِلٌ يا رَسُولَ اللَّهِ وما الْوَهْنُ قال: حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ)).

والبركة في حياتنا تظهر بوضوح في مجالات محددة، وإلا فإن البركة في كل الأرض، وفي كل الكون، والناس لا يستغنون عنها، ولكن تكون محسوسة ملحوظة في:

فهذا الإمام البخاري رحمه الله جمع مائة ألف حديثٍ صحيح، وقد عاش خمسًا وستين سنةً فقط، وهذا سعد بن معاذ رضي الله عنه أسلم وعُمره ثلاثون، ومات وعمره ستٌّ وثلاثون، ولكن ((اهْتَزَّ العَرْشُ لِمَوْتِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ))

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خيركُم من طال عمره وحسن عمله)).

وهناك أوقات تكون فيها البركة؛ كما أخبر صلى الله عليه وسلم ودعا لها: ((اللهم بارك لأمتي في بكورها، فكان صخر الغامدي يبعث الغلمان بالتجارة في الصباح الباكر ويقول: أُريد أن تصيبني دعوة النبي صلى الله عليه وسلم))

والبركـة في الــرزق يفهمها بعض النـاس أنها الزيـادة والسعة في المال والربح والكسب فقط، وهذا فهم قاصر، فالعلم والأولاد وراحة البال والسكينة والطمأنينة ..........الخ، كل هذه أرزاق، ولا نشعر بها لأننا فقدنا البركة فيها.

فلنحرص على استجلاب البركات في أرزاقنا، ولنسع دوما إلى تجديد الطاقات الإيمانية في حياتنا.

كم مِنَ الناس مَن يسمع من المحاضرات ويتردد على مسامعه العلم والأحكام، لكن لا أثر له في حياته، مثل هذا يحتاج إلى طلب البركة في العلم الذي تعلمه حتى ينتفع به!

إذا بارك الله بالمال أصبح وفيرًا، وإذا بارك بالطعام أصبح هنيئًا.. إذا بارك الله في الشيء لم يفن، كثرة المال والولد من غير بركة قليل النفع ضئيل الفائدة..

إننا -ومع الأسف -نستطيع أن نقول وبكل ثقة أننا في زمان قلة فيه البركة، بل ومع البعض مُحقت البركة نهائيا، فلا بركة في المال، ولا بركة في الرزق، ولا بركة في الولد، ولا بركة في الزوجة، ولا بركة في الدار، ولا بركة في العمر، ولا بركة في الوقت وهكذا.

من الناس أيضا من يكون على النقيض من ذلك، فالبركة في كل شؤون حياتها، بركة في العمر وبركة في الوقت، وراحة البال، وزيادة في المال والعلم، تنام في رغد وخير وبر من الأولاد.

فإذا كان هذا حال الناس في هذه الأيام، فإنه من الواجب على المسلم ان يتعلم كيف يستجلب البركة ليعيش بها، فبما أننا فقدنا البركة من حياتنا فما السبيل لعودتها؟

ما هي سبل استجلاب البركة؟

إنه لسؤال مهم ويحتاج إلى فعل وأداء، لا لمجرد أقوال، وتأسف على الأحوال، فلكي تعود البركة لابد من: -

فالتزامنا بسنة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعدم الأكل من منتصف الطعام يجعل البركة تنزل في هذا الطعام.

وبالطبع إذا كان الطعام مباركاً فإن الطعام القليل يكفي الكثير من الأكلة، والطعام المبارك يفيد الأبدان ولا يمرضها.