(وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ)
خمس وأربعون رجلاً اجتمعن حول مائدة الطعام في بيت محمد عليه السلام
وبعد أن أنهوا طعامهم وشربوا شرابهم، وحينما بدأ النبي إخبارهم بسبب دعوتهم..
قام رجل -رغم أن وجهة يلتهب حمرة من شدة الجمال، إلا أن لسانه لا ينطق إلا بما هو سام -وهو ( أبو لهب) عمّ النبي بصوت أجش قام وقال :
يا محمد هؤلاء هم عمومتك وبنو عمك فتكلم ودع الصُّباة - أي الدين الجديد-، واعلم أنه ليس لقومك طاقة بالعرب قاطبة - يخوفه من تخلفهم عنه وخذلهم له.
فقد كان أبو لهب يعلم أن محمدا لا يعبد الأصنام، ويصلّي لله الواحد القهار ، ولم يعترض عليه من قبل لأنه ظن أنها عبادة فردية وسيتركها وينساها بعد مدة.
ثم أكمل أبو لهب بكلام شديد، وقال: ما رأيت أحداً جاء على بني أبيه بِشَرٍّ مما جئت أنت به.
ثم ذم محمدا وتكلم عليه وعلى دعوته.
في كل هذا بقيّ محمد صامتاً..
فلما انتهى أبو لهب من حديثه
سكت سيدنا محمد ولم يجادل عَمّه، فقط قام وفضّ المجلس. (1)
وكان هذا بعد أن أنزل عليه الله:
(وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ)
[الشعراء 214]
لم ييأس النبي من دعوة أهله بعدما حصل وبعد فترة قصيرة من الزمان.
قام وجمع أهله مرة ثانية إلى الطعام
ولكن هذه المرة تكلم قبل أن يتكلم أحد من الناس، فحمد الله وأثنى عليه ونطق الشهادتين .
ثم قال كلام لا يسمعه أحد إلا لان معه قلبه وانصاغ معه عقله:
" إِنَّ الرَّائِدَ لَا يَكْذِبُ أهْلَهُ ( فذكّرهم بحرصه عليهم وإرادته الخير لهم)
وَاللَّهِ لَوْ كَذَبْتُ النَّاسَ جَمِيعًا مَا كَذَبْتُكُمْ، ولَوْ غَرَرْتُ النَّاسَ جَمِيعًا مَا غَرَرْتُكُمْ، وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهُ إِلَّا هُوَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ خَاصَّةً، وَإِلَى النَّاسِ كَافَّة، وَاللَّهِ لَتَمُوتُنَّ كَمَا تَنَامُونَ، وَلَتُبْعَثُنَّ كَمَا تَسْتَيْقِظُونَ، وَلَتُحَاسَبُنَّ بِمَا تَعْمَلُونَ، وَلَتُجْزَوُنَّ بِالْإِحْسَانِ إِحْسَانًا، وَبِالسُّوءِ سُوءًا، وَإِنَّهَا لَجَنَّةُ أبَدًا أَوْ لَنَارٌ أَبَدًا، وَاللَّهِ يَا بَنِي عَبْدِ المُطَّلِبِ مَا أَعْلَمُ شَابًّا فِي العَرَبِ جَاءَ قَوْمَهُ بِأَفْضَلَ مِمَّا جِئْتُكُمْ بِهِ، إنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِخَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَقَدْ أمَرَنِي اللَّهُ تَعَالَى أَنْ أَدْعُوَكُمْ إِلَيْهِ، فَأَيُّكُمْ يُبَايِعُنِي عَلَى أَنْ يَكُونَ أخِي وَصَاحِبِي؟ "
مَا أَحَبَّ إِلَيْنَا مُعَاوَنَتَكَ، وَأَقْبَلَنَا لِنَصِيحَتِكَ، وَأَشَدَّ تَصْدِيقًا لِحَدِيثِكَ، وهَؤُلَاءِ بَنُو أبِيكَ مُجْتَمِعُونَ، وَإِنَّمَا أنَا أحَدُهُمْ غَيْرَ أنِّي أسْرَعُهُمْ إِلَى مَا تُحِبُّ، فَامْضِ لِمَا أُمِرْتَ بِهِ، فَوَاللَّهِ لَا أزَالُ أَحُوطُكَ، وَأَمْنَعُكَ غَيْرَ أَنَّ نَفْسِي لَاتُطَاوِعُنِي عَلَى فِرَاقِ دِينِ عَبْدِ المُطَّلِبِ .
ثم تكلم سائر القوم كلاماً لينا لم يعبر عن اعتراضهم
وعندما رأى ذلك أبو لهب قام وقال :
يَا بَنِي عَبْدِ المطلب هَذِهِ وَاللَّهِ السَّوْأَةُ، خُذُوا عَلَى يَدَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَ عَلَى يَدَيْهِ غَيْرُكُمْ، فَإِنْ أَسْلَمْتُمُوهُ حِينَئِذٍ ذَلَلْتُمْ، وَإِنْ مَنَعْتُمُوهُ قُتِلْتُمْ.
فخوّفهم من معاداة العرب وأن نتيجة خروجهم خارج قطيع الكفر قتلهم
وهنا تحدثت امرأة بكلام زاد قدرها عن كل الرجال الحاضرين
صفية عمة رسول الله فقالت لأبي طالب بعدما سمعت كلام أبي لهب :
أيْ أُخَيَّ! أيَحْسُنُ بِكَ خُذْلَانُ ابْنِ أَخِيكَ؟
فَوَاللَّهِ مَا زَالَ العُلَمَاءُ يُخْبِرُونَ أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ ضِئْضِئِ عَبْدِ المُطَّلِبِ نَبِيٌّ فَهُوَ هُوَ.
فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ ثائراً: هَذَا وَاللَّهِ البَاطِلُ وَالْأَمَانِيُّ
وقلّل من كلامها ثم خوّفهم مرة أخرى وقال:
إذَا قَامَتْ بُطُونُ قُرَيْشٍ، وقَامَتْ مَعَهَا العَرَبُ فَمَا قُوَّتُنَا بِهِمْ؟ فَوَاللَّهِ مَا نَحْنُ عِنْدَهُمْ إِلَّا أَكْلَةُ رَأْسٍ (أي قليل)
ولكن رغم ذلك أصر أَبُو طَالبٍ على موقفه وقال : واللَّهِ لَنَمْنَعَنَّهُ مَا بَقِينَا (2)
كل هذا جعل محمد يعلم قدر التحديات التي ستواجهه في قادم الأيام ومن سيعينه عليها ومن سيكثّرها عليه!
تم إنذار الأهل والمقربين
حان وقت الصدع بالدين بعدما أنزل الله قوله الكريم :
{فَٱصۡدَعۡ بِمَا تُؤۡمَرُ وَأَعۡرِضۡ عَنِ ٱلۡمُشۡرِكِینَ}
[الحجر 94]
بدأ هو وأصحابه رحلة إخراج الناس من ظلمات الجاهلية إلى نور الإسلام!
في الصباح الباكر و على جبل الصفا صعد رسول الله وأًصبح يصيح في أرجاء المكان :
يا معشر قريش يا معشر قريش.
بدأ الناس يلتفتون، من يا ترى الذي ينادي؟
فرأوا أنه محمد، إنه الصادق الأمين، إنه سيدٌ من سادات مكة
فعلموا بما أنه محمد فالأمر به شئ والخطب جلل، ثم بدأ محمد ينادي كل قبيلة بإسمها.
فنادى: يا معشر قريش، يا بني عبد مناف، يا بني عبد المطلب، يا بني هاشم.
اجتمعت القبائل جميعها وعلى رأسهم رؤسائهم ووقفت عند الصفا، لدرجة أن الذي لم يستطع أن يذهب، أرسل مكانه رجلاً يستطلع له الخبر.
فقال لهم محمد:
"لو أخبرتكم أن خيلاً خلف هذا الوادي، تريد أن تغير عليكم، أكنتم مُصدقي؟"
فطبعاً نصدّقك ونثق فيك ولا نكذبك ،فقال لهم محمد:
إني نذيرٌ لكم، بين يديّ عذابٍ شديد.
يا معشر قريش، يا معشر قريش، أنقذوا أنفسكم من النار لا أغني عنكم من الله شيئاً،
يا بني زهرة أنقذوا أنفسكم من النار لا أغني عنكم من الله شيئا،
يا بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار لا أغني عنكم شيئا.
ثم سمّى محمد قبيلةً قبيلة، حتى وصل إلى قبيلة أعمامه،
يا بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار لا أغني عنكم شيئاً.
ثم سمّى أعمامه واحداً تلو الآخر.
بعدها في النهاية، نظر إلى ابنته فاطمة وقال لها: يا فاطمة، يا فاطمة، سليني من مالي ما شئتِ أعطيكِ إيّاها ولكن أنقذي نفسك من النار لا أغني عنكِ من الله شيئا.
لقد كان محمد يتكلم وهو حزين وخائف على قومه من رفضهم دعوة الإيمان ومكوثهم في العذاب!
سكت أهل مكة، مذهولين مما سمعوا.
ولكن مع ذلك تحدث أعتى رجل، تحدث عمه الذي كان من المفترض أن يدعمه، تحدث أبو لهب.
بعد أن تغيّر وجهه وتحوّل إلى وجه يملؤه الغضب والكراهية،
فقال : تباً لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا؟
فأنزل الله عز وجل سورة المسد: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ}
[المسد 1]
وبالرغم ذلك….فإن نور الله أضاء وبان، ودخل إليه من الأسياد والغلمان والنساء والرجال!
وهنا بدأ كفار قريش يشعرون بالتهديد من محمد ودعوته التي بدأت تنتشر، ولكنهم كانوا مربوطي الإيدي، فأبو طالب لا يسمح لهم بأذيّة محمد
فأرسلوا وفداً إلى أبي طالب
وقالوا له: يا أبا طالب إن ابن أخيك، سبّ آلهتنا، وعاب ديننا، وسفّه أحلامنا وضلل آبائنا، فإما أن تكفه عنا أو أن تخلي بيننا وبينه فنكفيكه.
فرد عليهم رداً جميلاً ورفيقاً فذهبوا.
ثم عادوا إليه مرةً أخرى، فقالوا له: يا أبا طالب، قد جئناك وطلبنا منك أن تنهى ابن أخيك فلم تفعل، فإنه قد رأيت ما يفعل بنا، وبآلهتنا وديننا وبآبائنا، فيا أبا طالب إما أن تكفه عنا، وإما أن نعاديك معه، والحرب بيننا إما أن نموت أو تموتوا. (4)
فإذا بأبي طالب قد ضاق ذرعاً بما قالوا، فنادى على محمد.
فجاء محمد وجلس محمد عنده.
وقال له: يا ابن أخي، إن أهل قريش قد جاؤوني وقالوا لي كذا وكذا، وإني لا اريد أن أظهر العداوة بيني وبينهم، وأفرّق بيني وبينهم.
ففهم محمد أن عمه أبو طالب يطلب منه أن يتوقف عن دعوته أو أن يتنازل.
فرفع محمد بصره للسماء وقال له: يا عم، أترى الشمس؟
قال أبو طالب: نعم
فقال محمد: ما أنا بأقدر أن أدع ذلك منكم على أن تشعلوا منها بشعلة.
يعني: لو استطعتم أن تشعلوا من هذه الشمس شعلة، فأنا لا أستطيع أن أترك هذا الدين أو أتنازل عنه.
وتأثر محمد لموقف عمه، فبكى ومشى.
فناداه أبو طالب مرة أخرى وقال له: تعال يا ابن أخي.
فعاد محمد مرة أخرى
فاقترب أبو طالب منه ووضع يده اليمنى على كتف محمد وقال له: افعل وقل ما تحب، فوالله لن يمسّك أحدٌ بسوء ما دمت حيّاً.
فاستبشر محمد ومضى يبلغ دين الله جل وعلا. (5)
لقد كان أبو طالب مشركاً، مع ذلك لم يهن عليه ابن أخيه، فلن يدع أحداً أن يمسه بسوء.
ذهب كبار قريش إلى أولاد أبي لهب عتبة وعتيبة، فقالوا لهما: طلقا بنات محمد و نزوجكم أجمل بنات قريش والبلاد كلها.
ابن أبو لهب عتبة زوج رقية، قال: أن زوجتوني ابنة أبان بن سعيد المشهورة والجميلة سأقبل بطلاقها.
فقبلوا بذلك، فتركها عتبة وقد كان قد كتب كتابه عليها فقط، طلقها كرامةً لها وإهانةً له. (6)
ثم ذهبوا إلى أبي العاص، وقالوا له: يا أبا العاص، اذهب وطلق زينب بنت محمد وسنزوجك أجمل بنات قريش والبلاد كلها.
فقال أبو العاص: لا أرضى بديلاً عن زينب
لقد فعلوا ذلك ليحرقوا قلب محمد، وليضيقوا عليه ليتوقف عن دعوته
ولكنه لم يتزعزع عن معتقداته ولا هو ولا بناته.
بل زوّجهم بمن هم بأفضل من عتبة وعتيبة ذو النورين عثمان بن عفان واحدة تلو الأخرى.
فلما بدأت الدعوة تنتشر والناس يدخلون في دين الله
عقدت قريشا مؤتمرا لمناقشة الحال الذي صارت إليه مكة بعد دعوة الإسلام
فما هو هذا المؤتمر الذي أقامته قريش؟ وعلى ماذا اتفقوا فيه ؟
وكيف سقط كبار الكفار أمام إعجاز القرآن؟
وما هو الحدث الضخم الذي سيحدث في مكة الفترة القادمة
كل هذا ستعرفونه في الحلقة القادمة.. انتظرونا من برنامج طريق النور