قلب لا يخشى الطغاة

تحت قسم: برنامج طريق النور

السنا على حق؟! 

بعد أن غمر نور الإسلام قلب عمر بن الخطاب، شعر كأن الغشاوة التي كانت على عينيه قد زالت. وأصبح يرى الأمور بوضوح لم يعرفه من قبل. لقد عاش  حياته قبل الإسلام كرجل صلب، شجاع، لكنه كان محاصرًا  دائماً بالظلام الذي جلبته له عبادة الأصنام.

 فكان كالسيف الذي فقد لمعانه وسط الغبار، حتى جاء الإسلام ليزيل تلك الشوائب ويعيد لهذا المعدن بريقه الأصلي.

تلك القوة الجديدة التي شعر بها لم تكن مجرد شعور عابر، بل كانت يقينًا راسخًا حركة لمواجهة أطغى الطغاه 

سأل عمر النبي: "ألسنا على الحق؟" 

فرد النبي بثبات قائلاً: "بلى."

 فتساءل عمر: "ففيم الاختباء إذن؟"  

فبينما المسلمون يتجنبون أبا جهل، و يخفون إسلامهم خوفًا من بطشه، ذهب إليه عمر بنفسه وطرق بباب بيته 

ففتح أبو جهل الباب وقال له مُرحباً: مرحباً وأهلاً يا ابن أختي 

فقال عمر: جئت لأخبرك أني قد آمنت بالله وبرسوله محمد، وصدقت بما جاء به.

 في تلك اللحظة، تحوّل وجه أبي جهل من الرحابة به إلى الغضب بقدومة، وصرخ في وجهه قائلاً: "قبحك الله وقبح ما جئت به!"  (1)

وأغلق الباب في وجهه بعنف، ومع ذلك لم يتراجع عمر ولم يهتز، بل شعر بنشوة قهر العدو.

ولكن، لا زال هناك المزيد من الكفار، الذين لا يعلمون بخبر دخولي الإسلام؟

لقد وجدتها

عمر.. قاهر جموع المشركين

 توجه عمر إلى جميل بن معمر الجمحي، المعروف بنقله الأخبار. وجلس بجانبه وقال بهدوء : يا جميل، أسمعت الخبر؟ 

ثم قال له عمر: لقد أسلمت

فلم يجبه جميل وقام مباشرةً ، وانطلق كمن ينفث النار في سوق مكة، وعمر يسير خلفه، وأخذ يصيح: "يا معشر قريش"

 تجمع الناس بسرعة، تنتظر عيونهم الخبر بدهشة.

" يا معشر قريش، ابن الخطاب قد صبأ!"

فضربه عمر وقال له: كذبت، ولكني أسلمت

من الغل الذي حط بقلوبهم  حينها تجمعوا  حوله، وبدأوا ينهالون عليه بالضربات. كان الأمر أشبه بموجات بحرٍ متلاطمة تحاول أن تغرق صخرة قوية ولكن لا تستطيع، فكانوا كلما تهافتوا عليه بالضربات يزداد قوة وثبات و لم يكن هذا مجرد تحمل جسدي، بل كانت روح سامية جعلت كل هذا الألم يبدو تافهًا أمام ما يحمله من يقين. 

فبينما هو يضربهم ويضربونه إذا يقول لهم: افعلوا ما بدا لكم، فأحلف بالله أن لو كنا ثلاثمائة رجل لقد تركناها لكم أو تركتموها لنا.

في أول إسلامه يهدد المشركين، هذا هو عمر! 

تراجع الحشود وثبات الفاروق

عندما اشتدت الضربات على عمر، ووصل الأمر إلى ذروته، جاء العاص بن وائل، وهو رجل ذو مكانة عالية في قريش. ووقف أمام الحشود وأمرهم بلهجة حاسمة أن يتركوه فقال: "رجل اختار لنفسه دينًا، دعوه وشأنه!" (2)

وذلك بعد ان علم أن ما يراه من المسلمين ليس مجرد عناد، بل يقين لا يمكن مواجهته بالعنف. 

فبمجرد أن نطق بهذه الكلمات، تراجعت الحشود، بعدما أدركت أن ثبات عمر لا يمكن زعزعته. 

بعد هذا اليوم، لم يعد حال المسلمين كما كان، و بدأت رويدا شعائر الإسلام تُقام علنًا حول الكعبة، وكان عمر في واجهة النضال ضد الكفار.

 فأصبح الجميع يرونه ليس فقط كرمز للشجاعة، بل كدليل حي على قوة الإيمان. وكما قال عبد الله بن مسعود عن إسلام عمر:

 (إن إسلام عمر كان فتحا ، وإن هجرته كانت نصرا ، وإن إمارته كانت رحمة ، ولقد كنا ما نصلي عند الكعبة حتى أسلم عمر ، فلما أسلم قاتل قريشا حتى صلى عند الكعبة ، وصلينا معه) (3)

العودة المنتظرة والصدمة الكبرى  ( إشاعة كادت تُنهي أمر المسلمين! ) 

"كالعطشان في الصحراء يرى السراب فيظنه ماءً، عاد المسلمون إلى مكة بقلوبٍ عطشى للأمان، ليكتشفوا عند اقترابهم أن ما رأوه كان مجرد أوهام."

انتشرت إشاعة في قريش أن مكة قد آمنت بعد أن سجد المشركون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعندما سمع المسلمون المهاجرون في الحبشة هذا الخبر، استبشروا وظنوا أن الأمور قد تغيرت. و قالوا في أنفسهم: 

"لقد آمن حمزة وعمر رضي الله عنهما، وظهر المسلمون، وصاروا أعزة، حتى سجد المشركون مع رسول الله إيمانًا بما يقول، فمكة الآن مسلمة، فما الفائدة من البقاء هنا؟"

وبقلوب مفعمة بالأمل، قرروا العودة إلى بلادهم. ركبوا البحر مسافات طويلة، وقلوبهم ترقص فرحًا بقرب العودة إلى ديارهم التي ظنوا أنها أصبحت آمنة. ولكن، كانت الصدمة: ان الأمر لم يكن إلا إشاعة! فلم تُسلم مكة، ولم يتغير حالها.

وهنا عاد بعضهم سريعًا إلى الحبشة، بينما دخل آخرون مكة سرًا، وبعضهم دخلوا علانية تحت حماية واضحة. 

في ذلك الوقت، اشتد التعذيب على المسلمين المستضعفين. فكان على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأمر بالهجرة الثانية إلى الحبشة، وكانت هذه المرة أصعب بكثير من المرة الأولى.(4)

وذلك بعد أن أصبحت قريش أكثر يقظة، وأغلقت أبواب مكة، ووضعت الحراس عند كل مخرج ومدخل، مما جعل الخروج شديد الصعوبة.

ومع ذلك هاجر المسلمون مرة أخرى إلى الحبشة، لكن هذه الهجرة كانت أكبر وأصعب. 

هاجر 83 رجلاً و18 امرأة، ومعهم أطفالهم وأمتعتهم، فأصبح عدد المهاجرين يقارب المائة. وكان خروج هذا العدد الكبير من مكة بمثابة ضربة هزّت المدينة.

وعندما وصلوا إلى الحبشة عاشوا في أمان وسلام في حكم الملك النصراني المعروف بعدله وعدم ظلمه لأحد من الناس.

لكن قريش لم تكن لتتركهم ينعمون بالراحة، بل دبّرت مكيدة لهم للقضاء عليهم خارج مكة. فما هي تلك المكيدة؟ وهل ستنجح قريش في قتلهم؟ وكيف سيكون موقف النجاشي؟

هذا ما سنعرفه في الحلقة القادمة...من برنامج طريق النور

المراجع

  1. كتاب سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد - الصالحي الشامي - الجزء الثاني - صفحة 374 https://shamela.ws/book/1693/948#p1
  2. https://shamela.ws/book/38114/349#p1 كتاب اللؤلؤ المكنون في سيرة النبي المأمون - موسى بن راشد العازمي - الجزء الأول - صفحة 352 و 353 
  3.  كتاب سيرة ابن اسحاق = السير والمغازي - محمد بن إسحاق - صفحة 185 https://shamela.ws/book/9862/177#p1
  4. كتاب اللؤلؤ المكنون في سيرة النبي المأمون - موسى بن راشد العازمي - الجزء الأول - صفحة 324 و 325 https://shamela.ws/book/38114/321