1. المقالات
  2. الرسول المعلم وأساليبه في التعليم _ عبد الفتاح أبو غُدّة
  3. تعليمه صلى الله عليه وسلم بالمُمازَحةِ والمُداعَبة

تعليمه صلى الله عليه وسلم بالمُمازَحةِ والمُداعَبة

تعليمه صلى الله عليه وسلم بالمُمازَحةِ والمُداعَبة9

وكان صلى الله عليه وسلم يُداعِبُ أصحابَه في بعضِ الأحيانِ ويُمازِحُهم ، ولكنه ما كان يقولُ إلاّ حقاً10، وكان يُعلِّم كثيراً من أمورِ العلم خلال المُداعَبةِ والمُمازحةِ .

 

 

 

روى البخاري1، ومسلم2، وأبو داود3، والترمذي4، وابنُ ماجه5، واللفظُ لأبي داود ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَدخُل علينا ، ولي أخ صغيرٌ يُكنَّى أبا عُمَير ، وكان له نُغَرٌ يَلعَبُ به ، فمات ، فدخَلَ عليه النبي صلى الله عليه وسلم ذاتَ يوم فرآه حزيناً ، فقال : ما شأنُه؟ قالوا : مات نُغَرُه ، فقال : يا أبا عُمير ما فَعَل النُّغَير؟))6.

 

 

وروى أبو داود والترمذي7عن أنس رضي الله عنه قال : ((إنَّ رجلاً استَحمَلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم8: إني حامِلُك على وَلَدِ النّاقة ، فقال الرجل : يا رسول الله ، ما أصنَعُ بولدِ الناقة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وهل تَلِدُ الإبلَ إلاّ النّوقُ؟)) .

فأفهمه صلى الله عليه وسلم من طريق هذه المداعبة اللطيفة ، أن الجمَلَ ولو كان كبيراً يَحملُ الأثقال ، ما يَزالُ وَلَد الناقة9.

 

----------------------------------

9 ـ الدُّعابةُ اللطيفة تُروِّح عن الإنسان ، وتُلطِّفُ من ثِقَلِ المتاعِب التي تَنْتابُه أو تُصاحِبُه ، فإن الحياةَ لا تخلو من المرارة والمَكارِه ، فالدُّعابةُ تُخَفِّفُ من وَطأةِ ذلك على النفسِ . والمرءُ يَتعلَّمُ بالابتسامِ والبِشْر أكثرَ مما يَتعلَّمُ بالعُبوس والقُطوب .

وما أعذَبَ الدُّعابةَ المُعلِّمةَ ، والإحْماضَةَ الهاديةَ المُبَصِّرةَ ، فإن الجِدَّ الدائمَ يورِثُ رَهَق الذهنِ ، وكلَلَ الفِكرِ ، فالمزاحُ اللطيفُ الهادي بين الحين والحين ، يُعيدُ إلى الإنسانِ نشاطَه وانتباهَه ، فما أعْلَمَ هذا المُعلِّمَ الحكيمَ ، الوقورَ الرؤوفَ الرحيمَ صلى الله عليه وسلم .

قال العلاّمة ابنُ قُتَيبة رحمه الله تعالى : إنما كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يَمزَحُ ، لأنَّ الناسَ مأمورون بالتأسّي به والاقتداءِ بهَدْيه ، فلو ترك الطَّلاقةَ والبَشاشَةَ ، ولزم العُبوسَ والقُطوبَ ، لأخَذَ الناسُ أنفُسهم بلك على ما في مخالفةِ الغَريزة من المشقةِ والعَناءِ ، فمَزَح ليَمزحوا . وكان لا يقولُ إلاّ حقاً)) . انتهى من ((الفتوحات الربانية على الأذكار النووية)) للشيخ ابن عَلاّن 6 :297 .

وقال الإمام النووي في كتاب ((الأذكار)) ص29 : ((المِزاحُ المنهيُّ عنه هو الذي فيه إفراطٌ ، ويُداوَمُ عليه ، فإنه يورث الضحكَ ،وقسوةَ القلب ، ويَشغلُ عن ذكر الله تعالى ، والفكرِ في في مُهمّاتِ الدين ، ويَؤولُ في كثير من الأوقات إلى الإيذاء ويورِثُ الأحقاد ، ويُسقِط المَهابَةَ والوقار .

فأما ما سَلِم من هذه الأمور فهو المباحُ الذي كان رسولُ الله صلى الله عليه وسم يَفعَلُه في نادرٍ من الأحوال ، لمصلحةٍ وتَطييبِ نفسِ المُخاطَبِ ومُؤانَستِه ، وهذا لا مَنْعَ منه قطعاً ، بل هو سنة مستحبَّةٌ إذا كان بهذه الصفة ، فاعتمِدْ هذا ، فإنه مما يَعظُم الاحتياجُ إليه وبالله التوفيق)) .

10 ـ روى الترمذي 3 :241 في البر والصلة (باب ما جاء في المزاح) ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : ((قالوا : يا رسول الله ، إنك تُداعِبُنا؟ قال : إني لا أقولُ إلاّ حقاً)) .

قال الترمذي : ((هذا حديث حَسَنٌ ، ومعنى قولهم : (إنك تُداعِبُنا) إنك تُمازِحنا)) .

1 ـ 1 :526 في كتاب الأدب (باب الانبساط إلى الناس) و10 :582 (باب التكنية للصبي وقبل أن يولَدَ للرجل) .

2 ـ 14 : 128 في كتاب الآداب (باب جواز تكنية من لم يولد له وتكنية الصغير) .

3 ـ 4 :293 في كتاب الأدب .

4 ـ 2 :128 في كتاب الصلاة مختصراً (باب الصلاة على البُسُط) ، و8 :157 في البر والصلة (باب ما جاء في المِزاح) .

5 ـ 2 :1231 في كتاب الأدب ، مُقتَصِراً على ذكر الكنية .

6 ـ (النُّغَير) تصغير النُّغَر ، وهو طائر يُشبِهُ العُصفورَ أحمرُ المِنقار .

وفي حديث أنسٍ هذا من الفوائد والأمور التعليمية :

تخصيصُ الإمام بعضَ الرعية بالزيارة .

مخالطة بعض الرعية دون بعض .

جوازُ حَمْلِ العالم علمَه إلى من يستفيدُه .

جوازُ الممازحة وأن ممازحة الصبي الذي لم يُميِّز جائزة .

جوازُ تكنية من لم يولَد له ولد .

جوازُ لعب الصغيرِ بالطَّير دون تعذيب له ، وجواز تمكين الولي إياه من ذلك .

جواز إنفاقِ المال فيما يَتَلَهّى به الصغير من المباحات .

جوازُ إمساكِ الطير في القفص ونحوِه .

معاشرةُ الناس على قَدْر عقولِهم ومَدارِكهم .

جوازُ نداءِ الشخصِ باسمِه المصغَّر عند عدم الإيذاء به لقوله (يا أبا عُمَير) .

جواز السؤالِ عما السائلُ به عالم من غير أن يكون استهزاءً ، لقوله (ما فعل النُّغَير)؟ بعد علمه بأنه مات .

وبعضُ العلماء شرَح هذا الحديث في جزءٍ مستقل ، استخراج منه أكثرَ من ستين فائدةً كما في ((فتح الباري)) 10 :481 ، وبعضُهم أوصلَها إلى أكثر من ثلاث مئة فائدةٍ ، كما أشار إلى ذلك شيخُنا عبد الحي الكتاني رحمه الله تعالى في ((التراتيب الإدارية)) 2 :150 .

وقال العلاّمةُ المؤرِّخُ الأديبُ المَقَّري في ((نفح الطيب)) 6 :215 في (الباب الخامس) عند ذكر كلام لسان الدين ابن الخطيب في وصف مدينة (مكناسة) : ((أَملى ابن الصَّبّاغ بمجلسِ درسِه بمِكْناسة في حديث (يا أبا عمير ، ما فعل النغير) أربعَ مئةِ فائدة)) .

7 ـ أبو داود 4 :300 في كتاب الأدب(باب ما جاء في المزاح) ، والترمذي 8 :158 في كتاب البر والصلة (باب ما جاء في المزاح) ، وفي ((الشمائل)) للترمذي ص152 ، واللفظُ للترمذي .

8 ـ أي سأله أن يُعطِيَه بعيراً من إبل الصدقة ، ليَحمِل عليه مَتاعه .

9 ـ وفيه من الأمور التعليمية : تنبيه النبي صلى الله عليه وسلم المتعلِّمَ وغيرَه على أنه إذا سمع قولاً ينبغي له أن يتأمَّلَه ، وأن لا يُبادِرَ بردِّه . وهذا خُلقٌ هامٌّ جداً يتعيَّن سلوكُه على المتعلِّم ليُفلِح . وفيه أيضاً : أن الرسول المعلِّم صلى الله عليه وسلم يمزَحُ ولا يقول إلاّ حقاً ، إذ الإبلُ كلُّها وَلَدُ النّوق . وفيه لَفْتُ الذهن إلى إدراكِ المعاني الدقيقة .

المقال السابق المقال التالى
موقع نصرة محمد رسول اللهIt's a beautiful day