البحث
فتوى خامنئي وتوضيح لابد منه
لم تكن فتوى المرشد الأعلى للثورة الإيرانية علي خامنئي مفاجأة لمن يعرف كيف تسير الأمور في دهاليز الملالي، ويدرك معنى التقيَّة والتغييرات السياسية التي يمكنها أن تغيِّر من طبيعة الخطاب العقدي للطائفة الشيعية.
والذين توقعوا أن يلف الصمت القيادات والزعامات الدينية الشيعية أمام هذا البركان الثائر من الغضب الإسلامي الرافض لبذاءات وتطاولات بعض الرموز الشيعية في الخليج العربي وأوربا، لا سيما أن عنوان المرحلة هو "تقديم السياسة على العقائد" لدى قادة إيران، ومن اليسير استصدار فتوى بسيطة وغامضة في آنٍ معًا تمتص الغضب ولا يدفع الملالي لها ثمنًا، كانوا مخطئين ولو استندوا إلى أن آلاف الإساءات للصحابة وأمهات المؤمنين وعلماء المسلمين -ومنها إساءة رئيس الجمهورية الإيرانية نجاد لصحابيين من العشرة المبشرين بالجنة، وإساءة مجلة المنبر في غلافها بالكويت لأم المؤمنين قبل 6 سنوات- لم تحرك شعرة من رأس خامنئي من قبل؛ فالأمور هنا مختلفة، وتستدعي تحركًا ما يحبط الزخم التوعوي الذي رافق وأعقب جريمة المبطلين، ويخمد الاحتجاجات واسعة النطاق التي صدرت من جهات إسلامية كبيرة ومؤثرة..
ألم يكن لافتًا أن الفتوى لم تحظ بدعاية إيرانية لا في فضائية العالم وموقعها، ولا غيرها من الوسائل التابعة والموجهة للشيعة في إيران والعراق، واقتصر النشر والبث فيها على كلمات مقتضبة "تؤدي الغرض" دون صخب أو ضجيج؟!
في المقابل؛ فإن الاحتفاء كان هنا في قلب عالمنا الإسلامي (السني)، ولم يتردد رؤساء التحرير في بلادنا في نشر خبر "الفتوى"، ربما لأنهم اجتهدوا في تفسير قرار تنظيم الفتوى على أنه لا يشمل الفتاوى ذات الطابع السياسي، أو تلك الصادرة عن ديانات أو طوائف أخرى.. ربما.. ذاك لأنهم رأوا في الفتوى برهانًا لمن أراد الاتكاء عليها على أن الشيعة الإمامية ليسوا على اتفاق على لعن أو الإساءة لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وهو ما يطرب له كثيرون، بما يوحي بأن ثمة توجيهًا إعلاميًّا بارعًا للفتوى استهدف توجيه رسالة محددة، ليست للشيعة بالأساس بل للسنة بالأصالة.
أيًّا كان، فإن التعاطي الإعلامي ليس هو أهم ما يلفت النظر في هذه الفتوى، وإنما كلماتها الملتبسة التي لا تتضمن إلا مسألة التعرض لزوجات النبي فيما يخص الشرف دون قائمة الاتهامات العريضة واللعنات التي تكيلها الأدبيات الشيعية الجائرة لأمنا، أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها وأرضاها، وهو ما كان يستوجب توضيحًا مستفيضًا من أحد أكبر مرجعيات الشيعة في العالم، والذي يعتقد بعصمته طوائف من الشيعة في العالم.
خلت الفتوى من بيان كذب وافتراءات مراجع الشيعة المعتمدة الكبرى التي تحمل في طياتها الفريات ضد المبرأة الطاهرة، وهو لو فعل كان سينسف أسسًا وأصولاً قامت عليها هذه النحلة، وهو لم يفعل ولو على سبيل التقية، وإنما ضرب عدة عصافير بحجر واحد؛ فقد خدر البسطاء من السُّنَّة، ووجّه ضربة تحت الحزام لطائفة المهدويين الشيعية التي لها خصومة عقدية مع مرجعية خامنئي والسيستاني، ورفع قدر أنصاره وأظهر مرجعيته لهم في أوطانهم الخليجية.. وفي النهاية باسم التقية لم يخسر شيئًا.
كما قللت الفتوى من شأن جريمة الإساءة لأم المؤمنين والتجديف بالدين عبر اتهامها بافتراءات عليها، باعتبار كل ذلك يدخل في باب المعصية والحرام ليس أكثر، (والمعروف حتى لدى السنة أنفسهم أن التحريم قد يأتي لدفع الضرر أو بسبب منكر أكبر، كقوله تعالى: {وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108]، فما بالكم بمن تسعة أعشار دينهم في التقية على أهل السنة!!). كما أنها تجاهلت أن لأصحاب الافتراءات والتخرصات مكانة علمية ووجاهة بين طوائف من الشيعة في بريطانيا والعراق، ومن ثَم كان ينبغي الإشارة إليهم في تلك الفتوى المقتضبة القصيرة التي أشبه ما تكون ببرقية الأوتوجراف التي لم تأتِ في حقيقتها على اسم أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، شأنها شأن البيان الملتوي للمجمع العالمي لأهل البيت.
كما قلنا: لم يكن صدور فتوى كهذه مبعث دهشة، وإنما المدهش حقًّا هو في أولئك المقلدين من الأحساء الذين هرعوا إلى مرجعهم يطلبون منه أن يبرهن على أن أتباعهم ليسوا مجدفين ولا مهرطقين، وكأن الحديث عن عرض عائشة -رضي الله عنها- هو محل نظر وجدل من الأتباع والمقلدين يحتاج إلى كلمة فصل بعد 14 قرنًا من الزمان، ما جعله يحتاج إلى تجمع جمهرة من العلماء الشيعة ومثقفيهم في السعودية ليسألوا في أمرٍ يجهلونه ملتبسًا عليهم، لا يكفي علماء ولا طلاب السعودية من السنة أو حتى من الأقلية الشيعية لتبيانه للناس!!
مكسب سياسي، وتلاحم مقصود، وتعبير يستهدف تقديم رسالة محددة لشركاء الوطن عبر طرف خارجي، تشرعن المبادرة على أنه جدير بأن يقود هذا التجمع دينيًّا وربما سياسيًّا أيضًا، فالرجل هو الآمر الناهي بين جموع الشعب الإيراني، ودوره السياسي أظهر بكثير من دوره "الديني"، وبالتالي فالأمر يتجاوز حدود اللجوء إلى "عالم كبير" لاستصدار فتوى في نازلة فقهية عرفها بعض شيعة الشرقية للتو، وهي أن ثمة من يتطاول على الدين؛ فـ"هل يحرم التطاول على الدين يا نائب صاحب الزمان أم في المسألة قولان؟!".
المصدر: موقع المسلم.