البحث
شباب حائر - الجزء الثالث
شباب حائر - الجزء الثالث
آن الأوان بعد أن استعرضنا نماذج من حيرة الشباب و أسبابها لأن نتحدث عن أمور تساعد على تخفيف تلك الحيرة، وهي في الحقيقة كثيرة، لعل من أهمها:
1- الواقع أوسع من الخبرة وأوسع من التجربة، ولهذا فإن كل ما يُقال لنا يعبر عن بعض أجزاء الصورة، ويجب أن نتقبله على أنه ناتج اجتهاد. لا شك أن هناك أشياء قطعية كثيرة وخطوطًا متّفقًا عليها، لكن هذه الخطوط في مسائل تفسير التاريخ وفهم الواقع والتخطيط للمستقبل يميل معظمها إلى أن يكون ظنيًا تقديرًا.
2- حاول دائمًا أن تستشير، وتسأل وتناقش، وتستفيد من كل الخبرات المتاحة، لكن اتخذ القرار بملء إرادتك ومن غير تبعيّة لأحد، ودرِّب نفسك على ضرب الآراء ببعضها لتستخرج منها الرأي المعتدل والمتـزن، وحاذر من الانحراف مع الغلاة في أي اتجاه وفي كل شأن.
3- في مسألة اختيار التخصص حاول أن تتخصّص في علم أو فن أو مجال يتناسب مع ميولك وقدراتك. لك أن تتذكر في هذا السياق أن المهم كثيرًا ليس التخصص ونوعيته، وإنما موقعك في ذلك التخصص. إذا كنت من الأوائل المبرزين في تخصص غير مهم، فقد يكون ذلك أنفع لك وللناس من أن تكون شخصًا عاديًا أو أقل من عادي في تخصص مهم؛ جغرافي أو مؤرخ على مستوى عالٍ أفضل وأهم وأنفع من طبيب خامل وهكذا...
4- خدمة الدعوة إلى الله –تعالى- والمساهمة في الإصلاح العام قد يتمّان بطريقة مباشرة، كما هو الشأن في خطيب الجمعة والذي يوجه الشباب في حلقة دعوية .. وقد يتمان بطريقة غير مباشرة من خلال إتقان التخصص وتقديم خدمة متميزة للناس وتحسين اقتصاد البلد المسلم، وتقديم قدوة حسنة للناشئة، وقول كلمة الحق في المنشط والمكره وتربية الأولاد تربية حسنة ومساعدة العناصر الضعيفة في المجتمع... كل هذا من عمل البر والخير؛ والأمة محتاجة إلى كل هذه الألوان من الأنشطة. ونحن نعرف ما يُسمى بـ (الفروض الكفائية)، والقيام بهذه يُسقط الإثم عن مجموع الأمة، ويكون للمشارك في القيام بها الثواب والفضل العظيم. تصور معي مجتمعًا من غير أطباء أو مهندسين أو ممرضين أو معلمين أو تقنيين... إنه مجتمع مرتبك في شؤونه ومفتقر إلى معونة غيره، ومن خلال الحاجة إلى المعونة يكون الضعف والاستخذاء، ومعهما يتولد الشعور بالدونية والتخلف، ولهذا فإن الفضل والأجر لا يكونان في نفس الانتماء إلى تخصص أو في عين القيام بعمل معين، وإنما يكونان في مدى نفع ما يُقدَّم ومدى حاجة الناس إليه؛ وعلينا أن نتخلص من وهم الألقاب وضجيج الأسماء والشهادات.
5- بعض الشباب لديه تطلعات واسعة، ورغبة قوية في أن يحصل على الكثير الكثير من الأشياء؛ فهو يريد أن يكون داعية وتاجرًا ومفكراً وكاتبًا... ولا يعرف كيف يجمع بين كل هذه الأشياء. وأعتقد أن من المهم أن ندرك أننا لا نستطيع الحصول على كل شيء، ولأن نتقن بعض الأشياء، ونحصل عليها بجدارة أفضل من أن نتنازل عن أشياء أخرى. زماننا هذا زمان التخصص، ومن الصعب أن يصبح المرء بارعًا جدًا في أشياء عديدة. وأود هنا أن أشير إلى أن كثيرًا من الشباب لا يحقق نتائج عالية، ولا يلمع نجمه بسبب افتقاره إلى التركيز. التركيز هو أكبر مفتاح للإتقان اليوم. ولا شك أن التركيز سيحرمنا من ميزات الشمول، لكن علينا أن نتقبل ذلك؛ لأن ما سنحصل عليه من وراء التركيز أكبر بكثير مما نفقده. المهم دائمًا أن يصب التفوق الباهر في محيط تحقيق الغاية العظمى التي نسعى إليها، وهي الفوز برضوان الله تعالى.
6- ما من وضعية من أوضاعنا الفردية وأوضاع أمتنا إلا ولها إيجابيات كما أن لها بعض السلبيات، وهذا من سنن الله –تعالى- في الخلق. واستيعابنا لهذه السنة العظيمة يخفف من الشعور بالمرارة الذي ينتاب الكثير من الشباب. للفقر بعض الإيجابيات؛ إذ تتعزز روح التواصل والاعتماد المتبادل بين الناس، وله بعض السلبيات؛ فهو يثير الكثير من المشكلات والحزازات. وللثراء والرخاء إيجابيات أيضًا، فهو يساعد على توفير قدر من الهناء، كما يساعد على حل العديد من المشكلات، لكنه يضعف روح التواصل على المستوى الشعبي وينشر الاستقلال المرضي، ويصرف الناس عن تطوير الكثير من المهارات. عزة الأمة وتمكنها وسيطرتها العالمية، يفتح عليها باب الابتلاء بالترهل الذاتي والنزاعات الداخلية، أما الضغوط التي تواجهها أي أمة، فإنها تثير الخوف والانزعاج لكنها تقوّى شبكة العلاقات الداخلية، وتساعد على رصّ الصفوف، وتستنفر روح المقاومة والممانعة، وهكذا.... المهم هو أن نبحث عن مُرادات الله –تعالى- منا في الحالة التي نكون عليها حتى ننجح في مواجهة ابتلاءات السراء وابتلاءات الضراء.
7- لستَ مسؤولاً عن صلاح الأمة ولا عن تقدّمها، فلا تشغل نفسك كثيرًا بهذا الأمر، لكنك مسؤول عن صلاح نفسك وأسرتك، ومكلف بنصح جيرانك وإتقان عملك. وحين تقوم بهذه الأشياء على نحو جيد، فأنت ممن يساهم عمليًا في تقدّم الأمة وازدهارها. بعض الشباب يشغل نفسه وتفكيره بالأشياء الصعبة ويفرط في عمل الأشياء السهلة، وهذا من قلة التوفيق.
8- مظلة (أهل السنة والجماعة) تتسع لنا جميعًا: الذي يعمل ضمن جماعة والذي يعمل على نحو مفرد. والعمل الجماعي ليس غاية في حد ذاته، لكنه وسيلة لإنجاز ما لا يمكن إنجازه على نحو منفرد. والمهم دائمًا هو النتائج. بعض الناس يضيع الكثير من الواجبات وتفتر همته إذا عمل بمفرده، فهذا يسعى إلى التعاون مع غيره، مع أن عليه أن يكون يقظًا لأمراض العمل الجماعي من التحزّب والعصبية ومديح الذات وإثارة النـزاعات مع الجماعات الأخرى... وبعض الناس يستطيع أن يبدع إذا كان بمفرده، فلا حرج عليه في ذلك، لكن ليكن مستعدًا للتعاون مع غيره عند الحاجة وبذل النصح لمن يحتاجه. ولا مانع من أن يتعاون الإنسان مع عدد من الجماعات والجهات في آن واحد؛ لأن المطلوب ليس ارتباطًا يشبه الارتباط الأسري، لكن المطلوب هو تحقيق أفضل النتائج والعمل بفاعليّة وهمّة ونشاط.
لنجعل من اكتشاف أنفسنا واكتشاف محيطنا العمل الذي لا يتوقف، ولا نملّ منه، ومن خلال ذلك سوف نتخلص من الكثير من أشكال الحيرة. والله الموفّق.