البحث
النداء الخمسون : تحريم اتخاذ الآباء وغيرهم أولياء إذا اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ
النداء الخمسون : تحريم اتخاذ الآباء وغيرهم أولياء إذا اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23) قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24) } سورة التوبة
بَعْدَ أَنْ أَعْلَنَ اللهُ تَعَالَى بَرَاءَتَهُ ، وَبَرَاءَةَ رَسُولِهِ مِنَ المُشْرِكِينَ ، وَآذَنهم بِنَبْذِ عُهُودِهِمْ ، بَعْدَ أَنْ قَرَّرَ تَعَالَى أنَّهُمْ لاَ عُهُودَ لَهُمْ ، عَزَّ ذَلِكَ عَلَى بَعْضِ المُسْلِمِينَ ، وَتَبَرَّمَ مِنْهُ ضُعَفَاءُ الإِيمَانِ ، وَكَانَ مَوْضِعَ الضَعْفِ نُصْرَةُ القَرَابَةِ وَالعَصَبِيّةِ ، فَقَالَ اللهُ تَعَالَى : إنَّ فَضْلَ الإِيمَانِ وَالهِجْرَةِ وَالجِهَادِ لاَ يَتَحَقَّقُ ، وَلاَ يَكْتَمِلُ إلاَّ بِتَرْكِ وَلاَيَةِ الكَافِرِينَ ، وَإِيثَارِ حُبِّ اللهِ وَرَسُولِهِ وَالجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ ، عَلَى حُبِّ الوَلَدِ وَالوَالِدِ وَالأخِ وَالعَشِيرَةِ ، فَنَهَى اللهُ المُؤْمِنِينَ عَنْ مُوَالاَةِ الذِينَ يَخْتَارُونَ الكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ . وَتَوَعَّدَ مَنْ يَتَولاَّهُمْ مِنَ المُؤْمِنِينَ بِالعِقَابِ الشَّدِيدِ ، فِي هذِهِ الآيَةِ ، وَفِي آيَاتٍ أُخْرَى ، وَعَدَّ مَنْ يَتَولَّى الكُفَّارَ ، وَلُوْ كَانُوا آباَءً أَوْ إِخْوَاناً ، مِنَ الظَّالِمِينَ .
( وَكَثِيراً مَا عَبَّرَ اللهُ تَعَالَى عَنِ الكُفْرِ بِالظُلْمِ وَمَاثَلَ بَيْنَهُمَا ) .
ثُمَّ أَمَرَ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم بِتَوَعُّدِ مَنْ آثَرَ حُبَّ القَرَابَةِ وَالعَشِيرَةِ وَالأَهْلِ وَالتِّجَارَةِ وَالأَمْوَالِ وَالمَسَاكِنِ . . . . عَلَى حُبِّ اللهِ وَرَسُولِهِ وَالجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ ، بِأَنْ يَتَرَبَّصُوا أَمْرَ اللهِ فِيهِمْ ، وَيَنْتَظِرُوا عِقَابَهُ وَنَكَالَهُ بِهِمْ ، وَاللهُ تَعَالَى لا يَهْدِي الفَاسِقِينَ الخَارِجِينَ عَنْ طَاعَتِهِ سَوَاءَ السَّبِيلِ .
إن هذه العقيدة لا تحتمل لها في القلب شريكا ; فإما تجرد لها , وإما انسلاخ منها . وليس المطلوب أن ينقطع المسلم عن الأهل والعشيرة والزوج والولد والمال والعمل والمتاع واللذة ; ولا أن يترهبن ويزهد في طيبات الحياة . . كلا إنما تريد هذه العقيدة أن يخلص لها القلب , ويخلص لها الحب , وأن تكون هي المسيطرة والحاكمة , وهي المحركة والدافعة . فإذا تم لها هذا فلا حرج عندئذ أن يستمتع المسلم بكل طيبات الحياة ; على أن يكون مستعدا لنبذها كلها في اللحظة التي تتعارض مع مطالب العقيدة.
ومفرق الطريق هو أن تسيطر العقيدة أو يسيطر المتاع ; وأن تكون الكلمة الأولى للعقيدة أو لعرض من أعراض هذه الأرض . فإذا اطمأن المسلم إلى أن قلبه خالص لعقيدته فلا عليه بعد هذا أن يستمتع بالأبناء والإخوة وبالزوج والعشيرة ; ولا عليه أن يتخذ الأموال والمتاجر والمساكن ; ولا عليه أن يستمتع بزينة الله والطيبات من الرزق - في غير سرف ولا مخيلة - بل إن المتاع بها حينئذ لمستحب , باعتباره لونا من ألوان الشكر لله الذي أنعم بها ليتمتع بها عباده , وهم يذكرون أنه الرازق المنعم الوهاب : (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء - إن استحبوا الكفر على الإيمان -) . .
وهكذا تتقطع أواصر الدم والنسب , إذا انقطعت آصرة القلب والعقيدة . وتبطل ولاية القرابة في الأسرة إذا بطلت ولاية القرابة في الله . فلله الولاية الأولى , وفيها ترتبط البشرية جميعا , فإذا لم تكن فلا ولاية بعد ذلك , والحبل مقطوع والعروة منقوضة .
(ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون) . .
و(الظالمون) هنا تعني المشركين . فولاية الأهل والقوم - إن استحبوا الكفر على الإيمان - شرك لا يتفق مع الإيمان .
ولا يكتفي السياق بتقرير المبدأ , بل يأخذ في استعراض ألوان الوشائج والمطامع واللذائذ ; ليضعها كلها في كفة ويضع العقيدة ومقتضياتها في الكفة الأخرى:الآباء والأبناء والإخوان والأزواج والعشيرة [ وشيجة الدم والنسب والقرابة والزواج ] والأموال والتجارة [ مطمع الفطرة ورغبتها ] والمساكن المريحة [ متاع الحياة ولذتها ] . . وفي الكفة الأخرى:حب الله ورسوله وحب الجهاد في سبيله . الجهاد بكل مقتضياته وبكل مشقاته . الجهاد وما يتبعه من تعب ونصب , وما يتبعه من تضييق وحرمان , وما يتبعه من ألم وتضحية , وما يتبعه من جراح واستشهاد . . وهو - بعد هذا كله - "الجهاد في سبيل الله" مجردا من الصيت والذكر والظهور . مجردا من المباهاة , والفخر والخيلاء . مجردا من إحساس أهل الأرض به وإشارتهم إليه وإشادتهم بصاحبه . وإلا فلا أجر عليه ولا ثواب . .
(قل:إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها , وتجارة تخشون كسادها , ومساكن ترضونها , أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله . . فتربصوا حتى يأتي الله بأمره . . .)
ألا إنها لشاقة . ألا وإنها لكبيرة . ولكنها هي ذاك . . وإلا:
(فتربصوا حتى يأتي الله بأمره) .
وإلا فتعرضوا لمصير الفاسقين:
(والله لا يهدي القوم الفاسقين) . .
وهذا التجرد لا يطالب به الفرد وحده , إنما تطالب به الجماعة المسلمة , والدولة المسلمة . فما يجوز أن يكون هناك اعتبار لعلاقة أو مصلحة يرتفع على مقتضيات العقيدة في الله ومقتضيات الجهاد في سبيل الله
وما يكلف الله الفئة المؤمنة هذا التكليف , إلا وهو يعلم أن فطرتها تطيقه - فالله لا يكلف نفسا إلا وسعها - وإنه لمن رحمة الله بعباده أن أودع فطرتهم هذه الطاقة العالية من التجرد والاحتمال ; وأودع فيها الشعور بلذة علوية لذلك التجرد لا تعدلها لذائذ الأرض كلها . .
لذة الشعور بالاتصال بالله , ولذة الرجاء في رضوان الله , ولذة الاستعلاء على الضعف والهبوط , والخلاص من ثقلة اللحم والدم , والارتفاع إلى الأفق المشرق الوضيء . فإذا غلبتها ثقلة الأرض ففي التطلع إلى الأفق ما يجدد الرغبة الطامعة في الخلاص والفكاك .