البحث
خاتمة
بعد هذه الجولات السريعة في عظمة كتاب الله، وأسرار التدبر المهيبة؛ يتساءل كثير من الناس عن طريقة التدبر؟ وهل هناك وصايا مختصرة حول الموضوع؟
الحقيقة أنني رأيت كثيراً من المتخصصين في التفسير كتبوا رسائل رائعة في تدبر القرآن وتلاوته ووسائله، مثل:
1- قواعد التدبر الأمثل للشيخ عبد الرحمن حبنكة الميداني .
2- تحزيب القرآن للشيخ د.عبد العزيز الحربي.
3- تعليم تدبر القرآن الكريم للدكتور هاشم الأهدل.
4- فن التدبر للشيخ د.عصام العويد.
5- والمراحل الثمان لطالب فهم القرآن لنفس المؤلف.
وغيرها من الكتب الطيبة في هذا المجال ولم أقصد الاستيعاب، بل مجرد ذكر نماذج .
ولكن دعنا نتذاكر عدداً من المعالم العامة في هذا الموضوع،فوجهة نظري أنه/
أولاً: وقبل كل شيء يجب على الإنسان أن يتضرع إلى الله ويدعوه ويلح عليه أن يجعله من أهل القرآن، وأن يفتح عليه في فهم كتابه، والعمل به، وأن يجعله ممن قال عنهم: ﴿يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ﴾[البقرة:121]، فإن الإنسان لا يفتح عليه في العبودية بمجرد الجهود الشخصية والتخطيط للانجاز، وإنما فتوحات العبودية من بركات اللجأ إلى الله، وكل أبواب الخير من العلم والديانة إنما هي من باب الاستعانة ولذلك أعقب الله العبادة في سورة الفاتحة التي هي أعظم سورة في القرآن والتي أمرنا الله أن نكررها عشرات المرات يومياً (وهذا يعني أن مضامينها موضوعة بعناية وليست اتفاقاً) في هذه السورة العظيمة أعقب الله العبادة بالاستعانة، فالاستعانة بوابة العبادة، كما سبقت الإشارة إليه .
وثانياً : يحتاج المسلم إلى وضع حزب يومي للتدبر، وهو ما يسمى بتحزيب القرآن، والأصل فيه أمر النبي كما في البخاري أنه قال لعبد الله بن عمرو:" اقرأ القرآن في شهر " قلت: إني أجد قوة حتى قال: " فاقرأه في سبع ولا تزد على ذلك"[البخاري:5054].
فجعل النبي النطاق الزمن لتحزيب القرآن بين (شهر- أسبوع) فلا يكون أكثر من شهر ولا أقل من أسبوع،وكان الصحابة لهم أحزاب وأوراد قرآنية يومية، وكان جمهور الصحابة يحزب القرآن في سبعة أيام، اليوم الأول ثلاث سور وهي البقرة وآل عمران والنساء، وفي اليوم الثاني السور الخمس التي تليها وهكذا،كما في السنن أن أوس بن حذيفة قال: (سألت أصحاب رسول الله كيف يحزبون القرآن؟
قالوا: ثلاث، وخمس، وسبع، وتسع، وإحدى عشرة، وثلاث عشرة، وحزب المفصل وحده)[أبو داود: 1395].
وتلاحظ في تحزيب الصحابة للقرآن أنهم يستعملون السور، وليس الأجزاء أو الصفحات، ولذلك يقول الإمام ابن تيمية: ( فالصحابة إنما كانوا يحزبونه سوراً تامة، لا يحزبون السورة الواحدة) [ الفتاوى : 13/408] .
ومن الرائع أن لا يُغلب الإنسان على ورده من التدبر مهما كانت الظروف، والورد اليومي من القرآن كما سمعت أحد الصالحين يقول: في اليوم الأول كالجبل وفي الثاني كنصف الجبل وفي الثالث كلا جبل وفي اليوم الرابع مثل الغذاء الذي تتألم لفقده.
وثالثاً: أن يكون الأصل هو التدبر الشخصي، والتفسير معين، لا العكس كما يفعل البعض، وخصوصاً لمن لديهم خلفية شرعية عامة تؤهلهم لفهم جماهير الآيات، والقرآن كما قسمه ابن عباس أربع مراتب (التفسير على أربعة أوجه: تفسير لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير تعرفه العرب من كلامها وتفسير تعرفه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله) .. فأنت إذا استحضرت تقسيم ابن عباس العبقري عرفت أنه ليس كل القرآن يحتاج لتفسير .
فيقرأ الإنسان في المصاحف المهمشة بالتفاسير، ومنها:
التفسير الميسر الصادر عن مجمع الملك فهد، أو تفسير الجلالين، أو تفسير ابن سعدي، أو غيرها، فإذا أشكلت اللفظة أو المعنى الإجمالي راجع الهامش، لكنه يحاول هو أن يستكشف الدلالات العظيمة في هذا القرآن العظيم، فإذا لم يكن متأكدا من سلامة تدبره راجع كتب التفسير الموسعة.
وهذا الإمام العلامة أضخم مرجعية فقهية سنية معاصرة ابن عثيمين حي سئل عن طريقة طلب العلم وأولى العلوم بالعناية والاهتمام قال:
"نقول: ابدأ بالتفسير قبل كل شيء، لكن هذا لا يعني ألا تقرأ غيره، لكن ركز أولاً على علم التفسير..، فعليك بالتفسير، احرص عليه ما استطعت، وطريقة ذلك: أن تفكر أنت أولاً في معنى الآية، قبل أن تراجع الكتب، فإذا تقرر عندك شيء فارجع إلى الكتب، وذلك لأجل أن تمرن نفسك على معرفة معاني كتاب الله بنفسك، ثم إن الإنسان قد يفتح الله عليه من المعاني ما لا يجده في كتب التفسير، خصوصاً إذا ترعرع في العلم وبلغ مرتبة فيه فإنه قد يفتح له من خزائن هذا القرآن الكريم ما لم يجده في غيره" [الباب المفتوح، ل86]
فانظر إلى هذا الفقيه الإمام كيف يوصي طلابه بأن يقرؤوا الآيات ويستنبطوا منها ثم يراجعوا كتب التفسير، بل وكان يطبق ذلك عملياً فيعطيهم آيات ويطلب منهم أن يسهروا في الاستنباط منها ويأتون بها غداً .
ثم بعد ذلك يقرأ الإنسان في مطولات التفسير قراءة مستقلة، كتفسير الطبري وابن كثير وابن عطية ونحوها .
ورابعاً: من أجمل الأمور أن يضع الإنسان لأهل بيته برنامجا في التفسير فيقرأون ويتبارون في الاستنباط ثم يراجعون التفسيرات المختصرة، والأصل في ذلك قوله تعالى ﴿وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ﴾[الأحزاب : 34] .
فالنبي كان يتلو على نسائه القرآن، وهذا له أثر لا يتصوره الكثيرون في تحبيب الأهل في القرآن والإقبال على الاستنباط منه، بل وستجد أهلك يصبحون دائمي التساؤل حول بعض استنباطاتهم للقرآن وهدايات آياته، وأهم من ذلك كله ستجد في أهلك قوة على الطاعة ونظرة مختلفة للدنيا وزخرفها، فهذا القرآن عجيب عجيب في تصحيح المفاهيم وتزكية النظرات والتصورات.
وخامساً: لا أعلم درساً شرعيا في كل علوم الإسلام أسسه النبي وأصّله نظريا بنفسه إلا تدارس القرآن، فكل دروس الشريعة نوع من الاجتهاد في تنظيم العلم إلا تدارس القرآن فهو منصوص كما قال النبي في مسلم (ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده) [صحيح مسلم:2699].
هذا هو أعظم الدروس الشرعية التي يحبها الله، ولذلك ما أجمل أن يضع الإخوان لبعضهم برنامجا أسبوعيا يحضّر كل منهم من تفسير معين ثم يتدارسون معانيه، هذا البرنامج يزود المسلم بالطاقة الإيمانية والمنهجية التي تعينه على صعوبات الحياة .
والطرق متنوعة، والموضوع متشعب، والكتب المتخصصة كثيرة، والمقصر يخجل من مناصحة الآخرين، ولكنه التذاكر والتباحث في موضوع أخشى أننا لم نقدره قدره بعد.
ولقد تأملت سيرة الصحابة في سير أعلام النبلاء، وبعض طبقات ابن سعد، وبعض حلية أبي نعيم؛ فهالني والله ما رأيت من إقبالهم وتكثيف جهودهم في القرآن، وعلمت حينها ما الذي منح أولئك تلك المزية، بل انظر في أخبار أبي العباس ابن تيمية الذي كتب في التفسير رسائل كثيرة، كتفسير آيات أشكلت، وتفسير سورة الإخلاص، وجمع مطولات في تفسير السلف نسقاً على الآيات (أكثرها مفقود) وجلس سنة يفسر سورة نوح، ومع ذلك حين اعتقل المرة الأخيرة في قلعة دمشق وسحبت منه الكتب والأقلام أقبل على القرآن وقال:"قد فتح الله علي في هذه المرة من معاني القرآن ومن أصول العلم بأشياء كان كثير من العلماء يتمنونها وندمت على تضييع أكثر أوقاتي في غير معاني القرآن" [العقود الدرية:44].
هذا أبو العباس يندم على تضييع أكثر أوقاته في غير معاني القرآن، برغم أنه من أئمة التفسير أصلاً !
فماذا نقول نحن المقصرين مع كتاب الله.
اللهم اجعلنا من أهل القرآن، اللهم اجعل القرآن أنيسنا في ليلنا ونهارنا، اللهم شفع سورة تبارك فينا في قبورنا، اللهم اجعل البقرة وآل عمران غيايتان تحاجان لنا يوم القيامة، اللهم أحبنا بحبنا لسورة قل هو الله أحد، اللهم آمين، اللهم آمين..