التوازن بين حاجات الروح ومطالب الجسد
· جاء محمّد صلى الله عليه وسلم - بوحي من الله - بدين موافق للفطرة البشرية الطبيعية يراعي حاجات الروح ومطالب الجسد ويوازن بين العمل للدنيا والعمل للآخرة، يُهذب غرائز الإنسان ونوازعه ولا يكبتها أو يلغيها كما حصل في حضارات أمم أخرى أغرقت في المثاليات المخالفة للفطرة البشرية وحرمت الراغبين في التعبد والتنسك من حقوقهم الفطرية كالزواج ، ومن ردّات فعلهم البشرية الطبيعية على الاعتداء فدعتهم إلى عدم الردّ على المعتدين؛ مما أدى إلى نفور الغالبية من أبناء تلك الحضارة عن تلك التعاليم وإيغالهم في عالم المادية المجردة التي تلبي مطالب الجسد وتترك الروح في وحشة كبيرة .إن الذي أرسل محمّداً صلى الله عليه وسلم برسالة الإسلام هو الله خالق الناس أجمعين، العليم بما يصلح لهم، وما يوافق ما فطرهم عليه وما أودعه في تلك الفطرة من استعدادات وطاقات وحاجات، لا تستقيم تلك الفطرة إذا لم تشبعها، أو إذا أفرطت فيها، كما لا تستقيم إذا ووجهت بما يتصادم معها؛ وبانحراف تلك الفطرة وفسادها تفسد حياة الإنسان على هذه الأرض وتضطرب، فتظهر الأدواء النفسية والاجتماعية المستعصية، وهذا ما هو واقع في كثير من بقاع الأرض في المجتمعات التي فيها مخالفة للفطرة المستقيمة، كترك الزواج والاتجاه للرهبنة، وكالشذوذ الجنسي في العلاقات بين النساء بعضهن مع بعض، أو بين الرجال بعضهم مع بعض، وكترك عمارة الأرض والميل إلى الانعزال عن العالم، أو الانهماك التام في الماديات والإفراط في إشباع الرغبات الجسدية دون اهتمام بحاجات الروح ومتطلباتها... وغير ذلك من مظاهر الشذوذ عن الفطرة السليمة ومتطلباتها.
في حين يلحظ المتأمّل في تعاليم الدّين الإسلامي الذي جاء به محمّد صلى الله عليه وسلم من عند الله عزّ وجلّ التّوازن فيها بين مختلف الجوانب في الحياة الإنسانية؛ بين مطالب الجسد الماديّة من أكل وشرب وزواج وحقوق، وبين مطالبه الروحيّة من عبادة لله وتزكية للأخلاق، وبين مطالبه الفكرية والعقلية من حبّ للعلم والاطّلاع والاكتشاف.
فقد وازن الإسلام بين هذه المطالب كلّها في اتّساق لا طغيان فيه لجانب على جانب، بل أكّد على ذلك بالنهي عن الغلوّ والإفراط، كما نهى عن التفريط والإهمال، وأمر بالتوسّط والاعتدال في جميع الأحوال، ولم تأت الشريعة إلا بتنظيم تحقيق تلك المطالب، وبيان حدودها التي لا تتصادم مع فطرة الإنسان ووظيفته التي خُلق من أجلها ألا وهي عبادة الله وعمارة الأرض بالنافع والصالح، فأباحت الشريعة كل شيء فيه منفعة راجحة للإنسان، ونهت عن كل شيء فيه مفسدة ومضرة على حياة الإنسان أو عقله أو ماله أو جسده.
وهذه بعض نصوص الوحي الذي نزل على محمّد صلى الله عليه وسلم :
قال تعالى : " وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ " [الجاثية:13]، فلم يخلق الله تعالى هذا الكون ليبقى هملاً غير مستثمر، أو لينعزل عنه الخلق، والتعبير فيه معنى التذليل والتسهيل لاستكشاف هذا الكون والاستفادة من مكنوناته وكنوزه.
وقال الله تعالى : " وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ " [ القصص:77].
وقال تعالى : " رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ۙ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ " [النور:37]. فهم مع تجارتهم لم يهملوا الجانب الروحي والتعبدي والخلقي الذي يدفع إليه الإشفاق من الحساب بين يدي الله في الآخرة، فلنتصوّر كيف يكون سلوك مثل هؤلاء التجار بمثل هذه العقيدة وهذه الأخلاق، ثم لنتصوّر كيف تكون الحياة فيه أناس كهؤلاء في مجالات أخرى من مجالات الحياة.
وقد أثبت التاريخ أن أمثال هؤلاء التجار المسلمين كانوا سبباً في دخول الإسلام إلى بلدان شاسعة المسافات، كأندونيسيا والسودان وغيرهما، دون أن تكون هناك جيوش فاتحة كما يزعم بعض الذين لم يقرأوا التاريخ جيداً.
وقال تعالى : " ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا ۖ فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ ۖ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ " [الحديد:27].
وقد ضرب نبي الإسلام محمّد صلى الله عليه وسلم أروع الأمثلة العملية والتوجيهية في التوازن الروحي والمادي، حتى يصل إلى درجة الغضب الشديد ممن يخالف الفطرة البشرية وسنة الأنبياء والمرسلين، فقد بلغه – مرّةً – أن ناساً حلفوا - مبالغة في التعبدّ لله - بالامتناع عن النوم وعن الزواج وعن الأكل والشرب؛ فكان موقفه منهم حاسماً تحقيقاً لمنهج التوازن الذي بُعث به، فعن أنس ابن مالك رضي الله عنه قال: جاء ثلاث رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما أُخبِروا، كأنهم تقالّوها (أي: عدّوها قليلة )! فقالوا: أين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قد غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر. قال أحدهم : أمّا أنا فإني أصلي الليل أبداً، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا. فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: « أنتم الذين قلتم كذا وكذا ؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء؛ فمن رغب عن سنتي فليس مني » . رواه البخاري ومسلم.
كما رغّب في العمل والكدّ وجعل ذلك من أطيب ما يأكل منه الإنسان فقال صلى الله عليه وسلم : « ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده». رواه البخاري.
الأخوّة بين أجناس البشر
· قدّم محمّد صلى الله عليه وسلم للبشرية النموذج المتكامل في الأخوّة بين بني البشر وأخبر أنه لا فضل لجنس بشري على جنس آخر فكلهم متساوون في أصل الخلقة والحقوق والواجبات ، ولا فضل لأحد على أحد إلا بقدر إيمانه وخشيته لله تعالى، وأتاح الفرصة المتساوية بين أصحابه لخدمة الدين والانتماء إليه فكان منهم صهيب الرومي، وبلال الحبشي، وسلمان الفارسي جنباً إلى جنب مع إخوانهم من العرب.عاش محمّد صلى الله عليه وسلم في مجتمع خيّمت عليه الطبقية المبنية على الفوارق الاجتماعية والمادية والإثنية والعرقية، ولم تكن هذه الأوضاع خاصة بجزيرة العرب، بل كان هذا حال العالم كله آنذاك، وبهذا ندرك النقلة العظيمة التي نقل إليها محمّدٌ صلى الله عليه وسلم العرب وغيرهم من سكان الأرض بما جاء به من تعاليم أوحيت إليه من ربه سبحانه وتعالى، حيث دعا إلى الأخوة والتساوي بين بني البشر، وحدّد أن ما يميّز إنساناً عن آخر هو ما يتمتع به من تقوى وأخلاق ونفع وعمل صالح، وأن الصورة الظاهرة واللون والعرق كلها لا أثر لها في التميّز أو التفاضل أبداً.
فقد كان شأن العرب أنهم يسترقون الأحرار بحد السّيوف في المعارك، أو بالحيلة والغدر في أحوال أخرى. وما كان أحد يتحدث عن الرقيق إلا باعتبارهم متاعًا يحق لسيده فيه التصرف كما يحلو له، حتى إن أراد أن يزهق روحه لم يلمه في ذلك لائم، أو يعتب عليه عاقل، تكره الإماء على ممارسة البغاء؛ ليحصل سادتها الأجور، ويساق العبيد إلى العمل الشاق كما تساق البهائم والشاء، والأعجب من هذا كله ألا يسمع بين الرقيق صوت لمعارض أو ممانع!! كيف وهم يعلمون أنها قوانين الحياة وطبيعتها!
فكانت النقلة التي جاء بها محمّد صلى الله عليه وسلم في ذلك المجتمع حيث أعلن – بوحي الله تعالى – أنه لا اعتبار لتلك الفوارق المتعارف عليها في ذلك المجتمع، وأعلن ذلك على الملأ ولم يتوان في ذلك.
ومن وحي الله له في ذلك :
قول الله تعالى : " يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ " [ الحجرات: 13].
وبيّن أصل خلقة الإنسان في مواضع كثيرة من القرآن الكريم، من ذلك:
قوله تعالى : " هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَىٰ أَجَلًا ۖ وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ۖ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ " [الأنعام:2].
وقال نبي الله صلى الله عليه وسلم : «يا أيها الناس ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أسود ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى ». رواه الإمام أحمد.
وقال صلى الله عليه وسلم : « الناس بنو آدم، وآدم من تراب ». رواه الترمذي.
وختاماً : فكل نقطة من هذه النقاط العشر السابقة قابلة للبسط والتفصيل وذكر الشواهد التي تؤكد ما جاء فيها أكثر مما يحتمله هذا الإصدار، كما أن هناك الكثير مما قدمه محمّد صلى الله عليه وسلم للبشرية - بوحي من الله عز وجل – قد تكلّم عنه منصفون من الشرق والغرب بعدما درسوا سيرة هذا النبي العظيم صلى الله عليه وسلم ، فجاءت شهادتهم مبنية على العلم والبحث المتجرّد، وهذه هي طبيعة البحث العلمي الموضوعي التي توصل إلى النتائج الحقيقية دون زيادة أو نقصان.
وسيأتي ذكر هذه الشهادات القيّمة في الإصدار الثاني – إن شاء الله – من هذه السلسلة التعريفية بنبي الإسلام محمّد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ، والذي هو بعنوان : أقوال المنصفين في محمّد صلى الله عليه وسلم .
وللاستزادة من كل ذلك يمكن الرجوع إلى موقع البرنامج العالمي للتعريف بنبي الرحمة صلى الله عليه وسلم
وصلّى الله وسلم على نبينا محمّد وعلى إخوانه من النبيين وعلى آله وصحبه والتابعين.