البحث
قصر الأمل
عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمَنْكَِبيَّ فقال: «كُنْ في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل». وكان ابن عمر -رضي الله عنهما- يقول: " إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخُذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك" (رواه البخاري).
فهذا الحديث أصل في قصر الأمل في الدنيا، فإن المؤمن لا ينبغي له أن يتخذ الدنيا وطنًا ومسكنًا فيطمئن فيها، ولكن ينبغي أن يكون فيها كأنه على جناح سفر، وقد اتفقت على ذلك وصايا الأنبياء وأتباعهم، قال تعالى حاكيًا عن مؤمن آل فرعون أنه قال: {إِنَّمَا هَذِهِ الحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَار} [غافر: 39]. وكان صلى الله عليه وسلم يقول: «ما لي وللدنيا، إنما مثلي ومثل الدنيا كمثل راكب قال في ظل شجرة ثم راح وتركها». ومن وصايا المسيح -عليه السلام- أنه قال لأصحابه عن الدنيا: اعبروها ولا تعمروها.
ودخل رجل على أبي ذر -رضي الله عنه- فجعل يُقلّبُ بصره في بيته فقال: يا أبا ذر، أين متاعكم؟ فقال: إن لنا بيتًا نتوجه إليه. فقال: إنه لا بدَّ لك من متاع ما دمت ها هنا. فقال: إن صاحب المنزل لا يدعنا ها هنا.
ودخلوا على بعض الصالحين فقلَّبَوا بصرهم في بيته فقالوا: إنا نرى بيتك بيتَ رَجلٍ مرتحِلٍ، فقال: لا أرتحلُ، ولكن أُطردُ طردًا.
وكان علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- يقول: "إن الدنيا قد ارتحلت مدبرة، وإن الآخرة قد ارتحلت مقبلة، ولكلٍ منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغدًا حساب ولا عمل".
أخي الحبيب، وإذا لم تكن الدنيا للمؤمن دار إقامة ولا وطنًا، فينبغي للمؤمن أن يكون حاله فيها على أحد حالين: إمّا أن يكون كأنه غريب مقيم في بلد غربة همُّه التزود للرجوع إلى وطنه، أو يكون كأنه مسافر غير مقيم البتة، بل هو ليلَه ونهارَه يسير إلى بلد الإقامة، وهذا ما يبينه الحديث، فلقد شبَّه النبيّ صلى الله عليه وسلم الناسكَ السالك لطريق الآخرة بالغريب الذي ليس له سكن يؤويه، ولا مسكن يسكنه، ثم تَرقَّى وأضرب عنه إلى عابر السبيل! لأن الغريب قد يبقى في بلاد الغربة مدة، بخلاف عابر السبيل القاصد لبلد شاسع، وبينهما أودية مُردية، ومفاوزُ مهلكة، وقطاعُ طريقٍ، فإن من شأنه أن لا يقيم لحظة ولا يسكن لمحة.
سبيلك في الدنيا سبيلُ مسافرٍ *** ولا بُدَّ من زادٍ لكـل مسافـرِ
ولا بدَّ للإنسان من حَمْل عُدَّةٍ *** ولا سيما إن خاف صولة قاهـرِ
وقوله: «خذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك»؛ يعني: اغتنم الأعمال الصالحة في الصحة قبل أن يحول بينك وبينها السَقَمُ، وفي الحياة قبل أن يحول بينك وبينها الموت.
قال أبو حازم -رحمه الله-: إن بضاعة الآخرة كاسدة يوشك أن تَنْفَقَ، فلا يوصلُ منها إلى قليل ولا كثير، ومتى حِيل بين الإنسان والعمل لم يبق له إلا الحسرةُ والأسفُ عليه، ويتمنى الرجوعَ إلى حال يتمكن فيه من العمل فلا تنفعه الأمنية، قال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُون * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكَتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُون} [المؤمنون: 99، 100]، وقال تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأَتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلاَ أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا} [سورة المنافقون: 10، 11].
وفي الترمذي عن أبي هريرة مرفوعًا: «ما من ميت يموت إلا نَدِم». قالوا: وما ندامته؟ قال: «إن كان محسنًا نَدِمَ أن لا يكون ازداد، وإن كان مسيئًا نَدِمَ أن لا يكون استعتب». أي: رجع عن الإساءة وطلب الرضا.
فإذا كان الأمر على هذا، فيتعين على المؤمن اغتنامُ ما بقي من عمره، فاليومُ الذي يمضي لا يعود.
مضى أمسُك الماضي شهيدًا مُعَدَّلا *** وأعقبه يومٌ عليك جديدُ
فإن كنتَ بالأمسِ اقترفتَ إسـاءةً*** فَثَنِّ بإحسانٍ وأنتَ حميدُ
ومما أُثر عن لقمان الحكيم: "يا بُنيَّ، إن الدنيا بحر عميق، وقد غرق فيه ناسٌ كثير، فلتكن سفينتك فيها تقوى الله عز وجل، وحشوها الإيمان بالله تعالى، وشراعُها التوكل على الله عز وجل، لعلك تنجو، وما أراك ناجيًا".
أيا من عاشَ فـي الدنيـا طويـلاً *** وأفنى العمـر فـي قِيلٍ وقـالِ
وأتعـبَ نفسَه فيمـا سَيَفْنَــى *** وجَمَّعَ مـن حـرامٍ أو حـلال
هَبِ الدنيا تُقـاد إليـك عفــوًا *** أليـس مصير ذاك إلـى زوال؟
وما أحسن ما قال أحدُ الوعاظ: "هَبِ الدنيا في يديكَ، ومثلُها ضُمّ إليكَ، والمشرقُ والمغربُ جاءا إليكَ، فجاءك الموت، ماذا في يديك؟!".
وإذا كنا واثقين من هذا المصير، فلماذا لا نركب سفينة النجاة؟ ونكون ممن عناهم القائل بقوله:
إنَّ لله عبـادًا فُـطَنـا *** طَلَّقوُا الدنيا وخافُوا الفِتَنَا
نظروا فيها فلمَّا عَلِموا *** أنها ليست لِـحَىٍّ وَطَـنَا
جعلوها لُجَّةً واتخـذوا *** صالحَ الأعمالِ فيهـا سُفنا
وأما وصية ابن عمر -رضي الله عنهما- فهي مأخوذة من الحديث نفسه، وهي متضمنة لنهاية قصر الأمل، وأنّ الإنسان إذا أمسى لا ينتظر الصباح، وإذا أصبح لا ينتظر المساء، بل يَظنُّ أن أجله يُدرَك قبل ذلك:
وما أدري وإنْ أَمَّلْتُ عُمرًا *** لَعَلِّي حين أُصْبِحُ لَسْتُ أُمْسِي.
وفي الأثر أنّ نبي الله عيسى كان يسير في طريق فلقيه رجل، فقال له: أَسألُكَ الصحبة يا روح الله، فأَذِنَ له، وكان مع عيسى عليه السلام ثلاثة أرغفة، فأعطاه رغيفًا وأخذ رغيفًا وأبقى الثالث للحاجة. ثم ذهب عيسى لقضاء حاجة ورجع، فلم يجد الرغيف الثالث، فسأل صاحبه: أين الرغيف؟ فقال الرجل: لا أدري. ثم سارا فوجد عيسى ظبيًا، فدعاه فذبحه وشواه وأكلاه، ثم قال له: قم بأمر الله. فقام الظبي يجري، فقال عيسى: بالذي أراك هذه الآية، من صاحب الرغيف الثالث؟ فقال الرجل: لا أدري.
ثم مر عيسى بجبل فقال: كن ذهبًا بإذن الله فكان ذهبًا، فقال عيسى: بالذي أراك هذه الآية، من صاحب الرغيف الثالث؟ فقال الرجل: لا أدري. فقال عيسى: إذن نقسم الجبل ثلاثًا؛ ثلث لي، وثلث لك، وثلث لصاحب الرغيف الثالث. فقال الرجل: أنا صاحب الرغيف الثالث. فقال له عيسى: خذ الجبل كله، ولكن لا تصحبنا (فخسر الرجل صحبة نبي الله)، ثم طلع على الرجل قَاطِعَا طريقٍ فأرادا قتله، فقال لهما: لا تفعلا ولنقسم الجبل. ثم ذهب أحدهم ليأتي لهم بطعام وأضمر في نفسه أنْ يَسُمَّهما، وكذلك اجتمعا على قتله حين يرجع بالطعام، فلما رجع وثبا عليه فقتلاه ثم أكلا الطعام فماتا، فمر عيسى وحَوَارِيُّوه على هؤلاء الثلاثة، فقال لهم عيسى: هذه الدنيا فاحذروها.
فإذا علمنا هذا فينبغي ألاّ نطيل الآمال في الدنيا، ولنكن منها على حذر {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الغُرُور} [الحديد: 20].
ولقد أحسن من قال:
وَمَنْ يَذُقِ الدنيا فـإنِّي طَعِمْتُها *** وسِيقَ إلينا عَذْبُهـا وعَذَابُهـا
فلم أرَها إلا غُـرورًا وبـاطلاً *** كما لاَحَ في ظَهْرِ الفَلاةِ سَرابُها
وما هِيَ إلا جِِيفـةٌ مُستحيلَـةٌ *** عَليهـا كِـلابٌ همُّهنُ اجتذابُها
فإنْ تجَتنِْبها كُنتَ سِلْمًا لأهلهـا *** وإنْ تجتذبهـا نازعَتْك كِلاَبُهـا
فَدَعْ عنك فَضْلاتِ الأمورِ فإنها *** حَرامٌ على نَفْسِ التَّقيّ ارتكابُهـا
اللهم ارزقنا العلم وخير العمل، واجعل خير عمرنا آخره، وخير أعمالنا خواتمها، وأحسن قدومنا عليك.
هذا وبالله التوفيق.
المصدر: كتاب (قبس من نور النبوة).