البحث
شهادة زوجات الرسول على صدق نبوته
رسول الله وزوجاته
أمهات المؤمنين من المعلوم أن الزوجة هي أقرب الناس لزوجها؛ فهي تعلم سِرَّه قبل علنه، وتعلم حقيقة خُلُقه دون مواربة منه أو تَخَلُّق زائف، وهذا مع الزوجة الواحدة، فما بالُنا بزوجات كثيرات بلغْنَ التسع؟ فهل من المعقول أن تتواطأ تسعٌ من النساء الضرائر -وما يُعرف عنهن من الغيرة الشديدة- على تجميل وتحسين صورة زوجهن في حياته، وبعد مماته؟!
إن العقل ينقض هذا التصوُّر، فقد تحبُّ بعضهن زوجها، وقد تكرهه الأخريات؛ لسوء معاملته لهن، أو لتقريبه لبعضهنَّ دون الأخريات، فهل كان الأمر كذلك مع رسول الله ؟!
لقد كان الأمر مخالفًا لذلك تمام المخالفة بين رسول الله وزوجاته؛ فقد كُنَّ يتسابقن للقرب منه، كلُّهن يُحببنه حُبًّا شديدًا في حياته وبعد مماته، فقد كانت منهن الكبيرة العجوز، والصغيرة المتوقدة، ومنهن شديدة الغيرة، وسريعة الغضب، لكنهن قد اجتمعن على شيء واحد، ألا وهو حبُّهن للنبي محمد .
السيدة خديجة بنت خويلد
كانت أُولَى زوجات النبي السيدة خديجة بنت خويلد –رضي الله عنها- فقد عاش معها رسول الله خمسة وعشرين عامًا كاملة، لم تَرَ منه فيها إلاَّ كل جميل؛ لذلك فعندما نزل الوحي علي رسول الله ، وخاف خوفًا شديدًا ممَّا وجده من أثره في نفسه، وَقَفَتْ تُهَدِّئ من قلقه؛ فقالت له: "فوالله ما يخزيك الله أبدًا؛ إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ[1]، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ..."[2].
ولم يكن هذا التأييد من السيدة خديجة -رضي الله عنها- مجرد كلمات عابرة، بل كانت الحقيقة كاملة؛ فقد كانت هذه أخلاق رسول الله التي عَهِدَتْهُ عليها، فأضحت أخلاقه معها في بيته مطابقة لأخلاقه خارجه، وهذا دليل على صدق نُبُوَّتِه، وهو الأمر الذي جعل السيدة خديجة –رضي الله عنها- تشهد لرسول الله بطيب المعشر، وحُسْن الخُلق.
شهادة السيدة عائشة
وقد شهدت أصغر زوجات النبي السيدة عائشة -رضي الله عنها- بحُسن خُلقه وصدقه، وهي أعلم الناس به؛ فقد كان رسول الله يُحبُّها ويُجِلُّها، بل تُوُفِّيَ رسول الله في حجرها وبين يديها، فوصفتْ السيدة عائشة –رضي الله عنها- خُلُقَهُ قائلة: "خُلُق نَبِيِّ اللهِ كَانَ الْقُرْآنَ"[3].
شهادة أم حبيبة بنت أبي سفيان
ومن أَجَلِّ المواقف التي جاءت في كتب السيرة، التي تشهدُ احترام وتوقير أمهات المؤمنين لرسول الله ، ذلك الموقف العجيب الذي حدث بين أُمِّ المؤمنين أم حبيبة بنت أبي سفيان، ووالدها أبي سفيان بن حرب زعيم قريش، وأحد ساداتها، وكان ما زال على كفره، ولم يُسْلِمْ بَعْدُ.
فحينما نقضت قريش عهدها مع رسول الله الذي أبرمته في الحُديبية، وانقضَّتْ على قبيلة خزاعة، فقتلتْ وسَبَتْ، خافت قريش من رسول الله ؛ فأرسلوا أبا سفيان إلى المدينة مُسرعًا؛ ليُجَدِّد العهد بين الفريقين، لكن رسول الله رفض طلب التجديد وعزم على فتح مكة. وموطن الشاهد هنا هو ذلك الحوار العجيب بين الابنة وأبيها، فعندما قدم أبو سفيان إلى المدينة، ذهب لزيارة ابنته بعد فراق طويل، وأعوام عديدة مَرَّت على رحيلها؛ بدايةً من هجرتها إلى الحبشة فرارًا بدينها، ونهاية بقدومها إلى المدينة، فدخل على ابنته أُمِّ حبيبة زوج رسول الله ، فلمَّا ذهب ليجلس على فراش رسول الله طَوَتْهُ عنه، فقال: يا بنيَّة، ما أدري أرغبتْ بي عن هذا الفراش، أم رغبت به عنِّي؟ قالت: بل هو فراش رسول الله وأنت مشركٌ... فقال: والله لقد أصابك بعدي شَرٌّ[4].
إن هذا الموقف من أم المؤمنين أم حبيبة -رضي الله عنها- يعكس التربية الإسلامية لهذه الزوجة الصالحة؛ فهي تعلم تمام العلم أن محمدًا نبيٌّ صادقٌ، وأن أباها مشرك يعبد ما لا يضرُّ ولا ينفع، فأرادتْ بهذا الفعل أن تُوقِظَهُ من غفلته التي يحيا فيها أعوامًا عديدة، فطوت الفراش -وهو انعكاسٌ عما يجيش في صدرها من مقارنة محسومة لصالح زوجها الصادق محمد - ولم تكن أبدًا لصالح أبيها المشرك الذي طالما ناصب العداء لمحمد وصحبه!
شهادة أم المؤمنين صفية بنت أخطب
ومن أعظم الشهادات على صدقه شهادة أم المؤمنين صفية بنت حيي بن أخطب زعيم يهود بني قريظة، الذي أمر رسول الله بقتله لغدره وخيانته للعهد الذي تمَّ بينه وبين المسلمين؛ فها هي ذي –رضي الله عنها- تُحَدِّثُنَا عن خُلُقِهِ فتقول: "ما رأيتُ أحدًا قط أحسن خُلُقًا من رسول الله، لقد رأيته ركب بي في خيبر، وأنا على عجز ناقته ليلاً، فجعلتُ أنعس فتضرب رأسي مؤخرة الرَّحل، فيمسني بيده ويقول: يا هذه، مهلاً"[5].
ثم ها هي ذي تتمنَّى أن تُضَحِّيَ بنفسها فداءً لرسول الله ، وأن تتألم عِوَضًا عنه؛ فعن زيد بن أسلم أنه قال: "اجتمع نساؤه في مرضه الذي توفي فيه، فقالت صفية -رضي الله عنها-: إني والله يا نبي الله لوددتُ أن الذي بك بي... فقال النبي معلقًا على كلامها: "وَاللهِ! إِنَّهَا لَصَادِقَةٌ"[6]. بهذه الكلمات الرقيقة عَبَّرَتْ أم المؤمنين صفية بنت حيي بن أخطب عن مشاعرها تجاه النبي في وقتٍ لا تحتاج فيه إلى مداهنته، أو اتقاء شرِّه، ولكنها مشاعر امرأة آمنت بأنه نبي مرسل؛ ولذلك خاطبته بهذه الصفة قائلة: يا نبي الله. ومن عظمة الرسول أنه يشهد على صدق مشاعرها نحوه بعدما تغامز بها بعض أزواجه .
وكذلك عاشت كل زوجاته في كنفه؛ مؤمنات قانتات، عابدات لله ربِّ العالمين، كما تَعَلَّمْنَ من محمد الرسول قبل أن يكون الزوج.
د. راغب السرجاني
[1] الكَلّ: الثِّقْل من كل ما يُتكلَّف. انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة كلل 11/590.
[2] البخاري: كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله (3)، ومسلم: كتاب الإيمان، باب بدء الوحي إلى رسول الله (160).
[3] مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب جامع صلاة الليل ومن نام عنه أو مرض (746)، وأبو داود (1342)، والنسائي (1601)، وأحمد (24314).
[4] ابن القيم: زاد المعاد 3/350.
[5] أبو يعلى: المسند 13/29، 31، والطبراني: المعجم الأوسط 6/344، 345.
[6] عبد الرزاق: المصنف 11/431.