البحث
ليكن قلبك معلقًا بالمساجد!
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على النبي الأمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
يذكر أن شابًا أقبل على أبي الدرداء رضي الله عنه ذات يوم، وقال له: أوصني يا صاحب رسول الله.. فقال له: "يا بُني، اذكر الله في السراء يذكرْك في الضراء، يا بني، كن عالمًا أو متعلمًا أو مستمعًا، ولا تكن الرابع فتهلك، يا بني، ليكن المسجدُ بيتك، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «المسجدُ بَيْتُ كلِّ تَقِيٍّ»[1]. وقد ضمن الله عز وجل لمن كانت المساجد بيوته الروح والرحمة والجواز على الصراط".
"وحين تتقطع الصلات بالمساجد، تتقطع أواصر الإيمان، وتجف منابع الحكمة، وتعلو القلوب طبقات الران، وتسيطر الدنيا، وتفقد العبادة حلاوتها ونداوتها، وتغدو جسدًا لا روح فيه، وشكلًا لا جوهر له، وربما غدت حملًا ثقيلًا تئن تحت وطأته الأعضاء، وتشفق من حمله الروح.
فحتى تنجو من هذا كله، وتكن من الناجين، الفائزين بمقعد مريح في ظل يوم لا ظلَّ له.. ليكن المسجد بيتك!!"[2].
يقول الدكتور محمد العريفي: "أخبرني أحد الأطباء أنه دخل في غرفة الإنعاش على مريض، فإذا شيخ كبير على سرير أبيض، وجهه يتلألأ نورًا، قال صاحبي: أخذت أقلب ملفه فإذا هو قد أجريت له عملية في القلب، أصابه نزيف خلالها مما أدى إلى توقف الدم عن بعض مناطق الدماغ، فأصيب بغيبوبة تامة وإذا الأجهزة متصلة به، وقد وضع على فمه جهاز للتنفس الصناعي يدفع إلى رئتيه تسعة أنفاس في الدقيقة.
كان بجانبه أحد أولاده، سألته عنه، فأخبرني أن أباه مؤذن في أحد المساجد منذ سنين، أخذت أنظر إليه، حركت يده، حركت عينيه، كلمته، لا يدري عن شيء أبدًا؛ كانت حالته خطيرة، اقترب ولده من أذنه وصار يكلمه، وهو لا يعقل شيئًا، فبدأ الولد يقول: يا أبي، أمي بخير، وأخواني بخير، وخالي رجع من السفر، واستمر الولد يتكلم، والأمر على ما هو عليه، الشيخ لا يتحرك، والجهاز يدفع تسعة أنفاس في الدقيقة!
وفجأة قال الولد: والمسجد مشتاق إليك، ولا أحد يؤذن فيه إلا فلان ويخطئ في الأذان، ومكانك في المسجد فارغ..
فلما ذكر المسجد والأذان، اضطرب صدر الشيخ، وبدأ يتنفس فنظرت الجهاز فإذا هو يشير إلى ثمانية عشر نفسًا في الدقيقة.
الولد لا يدري، ثم قال الولد: وابن عمي تزوج، وأخي تخرج، فهدأ الشيخ مرة أخرى وعادت الأنفاس تسعة يدفعها الجهاز الآلي! فلما رأيت ذلك أقبلت إليه حتى وقفت عند رأسه.. حركت يده.... عينيه.. هززته.. لا شيء كل شيء ساكن.. لا يتجاوب معي أبدا.. تعجبت!
قربت فمي من أذنه ثم قلت: الله أكبر.. حي على الصلاة.. حي على الفلاح، وأنا أسترق النظر إلى جهاز التنفس.. فإذا به يشير إلى ثماني عشرة نفس في الدقيقة!
لله دُرّهم من مرضى بل والله نحن المرضى.. رجال قلوبهم معلقة بالمساجد، نعم: {رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ۙ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور:37].
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «سبعةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ تعالى في ظِلِّهِ يومَ لا ظِلَّ إلا ظِلُّهُ» وذكر من السبعة: «ورجلٌ قلبُهُ مُعَلَّقٌ في المساجدِ»[3].
فأنت يا سليمًا من المرض والأسقام.. يا معافى من الأدواء والأورام يا من تتقلب في النعم.. ولا تخشى النقم !! ماذا فعل الله بك فقابلته بالعصيان!! بأي شيء آذاك؟! أليست نعمه عليك تترا، وأفضاله عليك لا تحصى؟ أما تخاف أن توقف بين يدي الله غدًا، فيقول لك: عبدي ألم أصح لك بدنك.. وأوسع عليك في رزقك.. وأسلم لك سمعك وبصرك؟ فتقول بلى.. فيسألك الجبار: فلم عصيتني بنعمي.. وتعرضت لغضبي ونقمي؟! فعندها تنشر في الملأ عيوبك.. وتعرض عليك ذنوبك، فتبًا للذنوب.. ما أشد شؤمها.. وأعظم خطره[4].
فإن أردت الفوز والنجاة، والظل يوم اشتداد الحر فليكن قلبك معلقًا في المساجد، نسأل الله أن يلهمنا رشدنا، وأن يرزقنا شكره وذكره وحسن عبادته، والله أعلم، والحمد لله رب العالمين.
_____________
[1]- رواه الطبراني، برقم: [6143] وغيره، قال الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: "رواه الطبراني في الكبير والأوسط والبزار وقال إسناده حسن وهو كما قال رحمه الله تعالى".
[2]- موقع المختار الإسلامي
[3]- رواه البخاري؛ برقم: [1423]، ومسلم؛ برقم: [1031].
[4]- موقع المختار الإسلامي، نقلًا من كتاب (في بطن الحوت) بتصرف. للدكتور محمد العريفي