البحث
الإمام الشافعي والمواعظ
عرف الإمام الشافعي فقيهاً، وعرف محدثاً، وعرف أديباً. .
فهل كان واعظاً؟
لم يكن الإمام الشافعي واعظاً بالمعنى التقليدي، وإنما شأنه شأن العلماء في هذه الأمة، يرون في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجباً من واجبات هذا الدين.
فقيامهم بهذا الواجب يشكل أداءهم لمهمة الوعظ والنصيحة للمسلمين.
وقد كان للإمام الشافعي تلاميذ، فكانت إرشاداته لهم تسهم في إثراء هذا الجانب.
وكانت للإمام الشافعي نفس مرهفة، شديدة التأثر بالأحداث فهي نفس شاعر، ولذا كامن الحكمة تنساب على لسانه شعراً ونثراً.
كل هذه الأمور وغيرها ساعدت في أن يكون له دور في هذا الميدان، وإن كان مكانه الأول في ساحة الفقه والاجتهاد في مسائله وأصوله.
ومن استطلاع بعض مواعظه مما أمكن جمعه يمكن الإشارة إلى بعض الجوانب التي كانت تشغل بال الإمام، فكان تأكيده عليها متكرراً.
1- العقيدة
حذر الإمام الشافعي من علم الكلام، الذي انتشر في زمانه، ورأى فيه ذنباً من أعظم الذنوب فقال:
لأن يبتلى المرء بكل ما نهى الله عنه ما عدا الشرك به، خير من النظر في الكلام.
ودحض حجة أصحاب الكلام بأنهم يبحثون عن العقيدة الصحيحة بقوله:
محال أن نظن بالنبي صلى الله عليه وسلم أنه علم أمته الاستنجاء، ولم يعلمهم التوحيد، والتوحيد ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم: (أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) فَمَّا عُصِمَ بِهِ الدمُ والمال حقيقة التوحيد.
وبهذه الحجة الدامغة والمنطق السليم، والبيان المستند إلى السنة الصحيحة أبطل الشافعي أصل علم الكلام، ودل على الطريق الصواب، وتجاوز كل المصطلحات التي أتخمت بها بطون الكتب. ولقد كان يتم إسلام الإنسان زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنطق بالشهادتين. ثم يصبح واحداً من الصحابة. .
رحم الله الشافعي فقد كان بيانه شافياً في هذا الأمر.
2- العلم
كثرة هي المواعظ التي قالها الشافعي بشأن العلم، بل لعل معظم مواعظه كانت في هذا الميدان.
ففضيلة العلم لا تعدلها فضيلة.
وأفضل فروع العلم، هو الاشتغال بالحديث، ويقول في بيان ذلك:
إذا رأيت رجلاً من أصحاب الحديث، فكأني رأيت رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، جزاهم الله خيراً، هم حفظوا لنا الأصل، فلهم علينا الفضل.
والفقه سيد العلم، إذ به يفهم الحديث.
وكتابة العلم أمر مهم، إذ بها تحفظ النصوص، وتصان من العبث، وهذا ما أشار إليه الشافعي بقوله: لولا المحابر، لخطبت الزنادقة على المنابر.
وغاية العلم العمل به. فالعلم ما نفع، وليس العلم ما حفظ.
وللعلم آداب بعضها مرتبط بالعالم وبعضها مرتبط بالمتعلم.
وفي مقدمة ما يطلب من العالم الذي يعلم الناس: إصلاح نفسه، فإن أعين الناس معقودة به، تنظر إلى عمله أكثر مما تنظر إلى قوله.
وعليه أن يكون مخلصاً في عمله يبتغي الدار الآخرة.
ولا عيب بالعلماء أقبح من رغبتهم فيما زهدهم الله فيه.
وإذا كانت هذه بعض آداب العالم، فآداب المتعلم أكثر، وفي مقدمتها أدبه مع معلمه.
ويضرب لنا الإمام الشافعي مثلاً من سلوكه في حضرة أستاذه الإمام مالك رحمه الله فيقول:
كنت أتصفح الورق بين يدي مالك برفق، لئلا يسمع وقعها.
ومما يضيع العالم ويذهب بمكانته ألا يكون له إخوان.
بل ويرى الإمام الشافعي أنه ينبغي للفقيه أن يكون معه سفيه يدافع عنه عند الحاجة فيقول:
ينبغي للفقيه أن يكون معه سفيه ليسافه عنه.
وهو حريص على تبليغ العلم ونشره. فقد قال للربيع: لو قدرت أن أطعمك العلم لأطعمتك.
وقال: وددت أن الخلق يتعلمون هذا العلم، ولا ينسب إلي منه شيء. .
وهكذا فالإمام حريص على نشر العلم، حريص على شخصية العالم، حريص على تأدب المتعلم. .
3- الطلب
وإذا كان حديثنا في الفقرة السابقة عن العلم. فالطلب من العلم، فالعلم علمان: علم الأديان وعلم الأبدان.
وعلم الأديان هو الفقه.
وعلم الأبدان هو الطب.
وهما جانبان ضروريان لكل إنسان. ولهذا فهو ينصح أن يسكن الإنسان في بلد فيه عالم وطبيب، فيقول:
لا تسكنن بلداً لا يكون فيه عالم يفتيك عن دينك، ولا طبيب ينبئك عن أمر بدنك.
ويبدي الإمام الشافعي أسفه لترك المسلمين تعلم الطب، وقيام اليهود والنصارى بذلك فيقول:
ضيعوا ثلث العلم، ووكلوه إلى اليهود والنصارى.
وقال: لا أعلم علماً بعد الحلال والحرام أنبل من الطب، إلا أن أهل الكتاب غلبوناً عليه.
وهكذا كان الإمام رحمه الله ذا نظرة شاملة، فالإنسان المسلم بحاجة إلى نوعين من العلوم: علوم تبين له أمر دينه، وعلوم أخرى تساعده وتوفر له السعادة في أمر دنياه وفي مقدمتها الطب.
4- التصوف
بدأ التصوف يأخذ أبعاده كمذهب سلوكي في زمن الإمام الشافعي. ويبدو أن المذهب لم يقم على العلم ولذا كان قول الشافعي:
"لو ان رجلاً عاقلاً تصوف، لم يأت الظهر حتى يصير أحمق".
ولو كان هذا الرجل يضبط سلوكه على أساس من العلم لم يصر أحمق. وأمر آخر يأخذه الإمام على التصوف حيث يقول:
"أسس التصوف على الكسل".
ذلك أن كثيراً منهم يظن أن الاشتغال بالعبادة يقتضي ترك العمل والبعد عن الدنيا. . فيؤدي به ذلك إلى الكسل.
والولي - في رأي الشافعي - لا يكون ولياً عن طريق التصوف، وإنما عن طريق العلم فيقول:
"إن لم يكن العلماء العاملون أولياء الله، فلا أعلم لله ولياً".
وخوارق العادات ينبغي أن لا يغتر بها أحد، فليست دليلاً على الولاية، ولا يصح أن تتخذ الخوارق دليلاً على الولاية. بل الدليل هو التزام الكتاب والسنة.
قال الشافعي رحمه الله: إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء. ويطير في الهواء، فلا تغتروا به، حتى تعرضوا أمره على الكتاب والسنة.
وعلى أن الشافعي وهو يذكر هذه الحقائق لا ينسى أن يذكر ما استفاده منهم، فيقول:
صحبت الصوفية عشر سنين، ما استفدت منهم إلا هذين الحرفين: الوقت سيف، وأفضل العصمة أن لا تجد.
والأمر الأول: يدل على قيمة الوقت عندهم، والحرص على الاستفادة منه في الخبر.
والأمر الثاني: أن العصمة من الشبهات في المأكل والملبس. . هذه العصمة تتوفر لك إذا لم تجد، أي عند فقدان الأشياء التي تورث لك الشبهات.
5- ذكر الآخرة
مواعظ الإمام الشافعي التي تذكر بالآخرة كثيرة. وهي مبثوثة ضمن مواعظه ولعل من أفضلها ما جاء بشأن العصا.
فقد كان يكثر من إمساك العصا والاستعانة بها، وهو ليس بضعيف. فقيل له في ذلك فقال: لأذكر أني مسافر.
أجل كل إنسان مسافر، يقطع طريقه على مراحل منضبطة، وما الليل والنهار إلا الضوابط لهذه المراحل.
6- الحالة الاجتماعية
يرى الإمام الشافعي أن الترابط الاجتماعي بين الناس أصبح ضعيفاً. وإزاء هذا الوضع على الإنسان أن يعايش الواقع ويتكيف معه ما أمكن ذلك.
فليس بالأمر السهل المحافظة على الصديق، ما لم تخفض جناحك وتغضي عن كثير من الأمور. وللشافعي في ذلك درس مطول ألقاه على يونس بن عبدالأعلى.
والإنسان الذي تحتاج إلى مداراته ليس بأخ لك.
وإرضاء الناس أمر لا سبيل إليه، ولذلك فعليك بما ينفعك فالزمه.
وبهذه الوصايا وغيرها يرشد الإمام إلى كيفية التعامل مع الناس.
ولا يبخل الإمام بنصائحه في سبيل تبصير المسلم بكيفية أداء دوره في الحياة الاجتماعية بشكل فاعل ومنتج. . فهو ينصح بصحة النظر في الأمور، والعزم في الرأي، والروية والفكر ومشاورة الحكماء ثم يقول:
فكر قبل أن تعزم، وتدبر قبل أن تهجم، وشاور قبل أن تتقدم.
7- الأخلاق
ولتهذيب الأخلاق نصيب كبير في مواعظ الإمام الشافعي نثراً وشعراً.
فالعجب داء مهلك، ويصف الإمام العلاج لهذا الداء، فيقول: إذا خفت على عملك العجب، فانظر رضى من تطلب، وفي أي ثواب ترغب، ومن أي عقاب ترهب. . فإذا تفكرت في واحدة من هذه الخصال، حضر في عينك عملك.
والتواضع أمر مطلوب، وأرفع الناس قدراً من لا يرى قدره. ولكن التواضع إذا كان عند من لا يقدره فهو ظلم للنفس.
وتنزيه الأسماع عن سماع الخنا مطلوب، كما ينزه الإنسان لسانه عن النطق به، والسخاء والكرم يغطيان العيوب.
والصبر خلق كريم، به يتغلب الإنسان على كل العقبات.
والتكبر من أخلاق اللئام.
وهكذا تكثر نصائح الإمام في ميدان الأخلاق، وللمروءة مكانتها، وإن كان أهلها دائماً في جهد ولكنها خلق له الصدارة وفيها يقول:
لو علمت أن الماء البارد ينقص مروءتي، ما شربته إلا حاراً.
8- البدع
البدع مذمومة، وقد حصل - فيما يبدو - خطأ في فهم حدودها، والشافعي كإمام فقيه، تلفت نظره هذه الانحرافات في الفهم. ولذا فهو يوضح لنا ذلك بيان لا لبس فيه.
فالمحدثات - البدع - ضربان:
ما أحدث يخالف كتاباً أو سنة أو أثراً أو إجماعاً، فهذه البدعة الضلالة.
وما أحدث من الخير، لا خلاف فيه لواحد من هذه الأصول، فهذه محدثة غير مذمومة. فقد قال عمر في قيام رمضان: نعمت البدعة هذه.
وبهذا يضع الإمام حدوداً تميز البدعة عما سواها. فهي ما جاء مخالفاً لواحد من الأصول التي إليها المرجع في الفقه والتشريع، فإذا لم يكن الأمر كذلك وكان من الخير فليس ببدعة.
نكتفي بذكر هذه الجوانب، وغيرها كثير مما سيراه القارئ الكريم في مواعظه.