البحث
الطب النبوي
الطب النبوي
وقد أتينا على جمل من هدية في المغازي والسير والبعوث والسرايا والرسائل والكتب التي كتب بها إلى الملوك ونوابهم ونحن نتبع ذلك بذكر فصول نافعة في هديه في الطب الذي تطيب به ووصفه لغيره ونبين ما فيه من الحكمة التي تعجز عقول اكثر الاطباء عن الوصول إليها وأن نسبة طبهم إليها طب العجائز إلى طبهم فنقول وبالله المستعان ومنه نستمد الحول والقوة المرض نوعان مرض القلوب ومرض الابدان وهما مذكوران في القرآن ومرض القلوب نوعان مرض شبهة وشك ومرض شهوة وغي وكلاهما في القرآن قال تعالى في مرض الشبهة ( في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ) البقرة10 وقال تعالى ( وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا ) المدثر 31 وقال تعالى في حق من دعي إلي تحكيم القرآن والسنة فأبى وأعرض ( وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون )
وأما مرض الشهوات فقال تعالى ( يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض ) الاحزاب 32 فهذا مرض شهوة الزنى والله اعلم
فصل
وأما مرض الابدان فقال تعالى ( ليس على الاعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ) النور 61 وذكر مرض البدن في الحج والصوم والوضوء لسر بديع يبين لك عظمة القرآن والاستغناء به لمن فهمه وعقله عن سواه وذلك أن قواعد طب الابدان ثلاثة حفظ الصحة والحمية عن المؤذي واستفراغ المواد الفاسدة فذكر سبحانه هذه الأصول الثلاثة في هذه المواضع الثلاثة فقال في آية الصوم ( فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام اخر) البقرة 184 فأباح الفطر للمريض لعذر المرض وللمسافر طلبا لحفظ صحته وقوته لئلا يذهبها الصوم في السفر لاجتماع شدة الحركة وما يوجبه من التحليل وعدم الغذاء الذي يخلف ما تحلل فتخور القوة وتضعف فأباح للمسافر الفطر حفظا لصحته وقوته عما يضعفها وقال في آية الحج ( فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة او نسك ) البقرة 196 فأباح للمريض ومن به أذى من رأسه من قمل أو حكة أو غيرهما أن يحلق رأسه في الاحرام استفراغا لمادة الابخرة الرديئة التي اوجبت له الاذى في رأسه باحتقانها تحت الشعر فإذا حلق رأسه تفتحت المسام فخرجت تلك الأبخرة منها فهذا الاستفراغ يقاس عليه كل استفراغ يؤذي انحباسه والاشياء التي يؤذي انحباسها ومدافعتها عشرة الدم إذا هاج والمنى إذا تبيغ والبول والغائط والريح والقيء والعطاس والنوم والجوع والعطش وكل واحد من هذه العشرة يوجب حبسه داء من الاداء بحسبه وقد نبه سبحانه باستفراغ أداناها وهو البخار المحتقن في الرأس على استفراغ ما هو اصعب منه كما هي طريقة القرآن التنبيه بالأدنى على الأعلى وأما الحمية فقال تعالى في آية الوضوء ( وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط او لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا ) النساء 43 فأباح للمريض العدول عن الماء إلى التراب حمية له أن يصيب جسده ما يؤذيه وهذا تنبيه على الحمية عن كل مؤذ له من داخل أو خارج فقد أرشد سبحانه عباده إلى أصول الطب ومجامع قواعده ونحن نذكر هدى رسول الله في ذلك ونبين أن هدية فيه أكمل هدي فأما طب القلوب فمسلم إلى الرسل صلوات الله وسلامه عليهم ولا سبيل إلى حصوله إلا من جهتهم وعلى أيديهم فإن صلاح القلوب أن تكون عارفةبربها وفاطرها وبأسمائه وصفاته وأفعاله وأحكامه وأن تكون مؤثرة لمرضاته ومحابه متجنبة لمناهيه ومساخطه ولا صحة لها ولا حياة البتة إلا بذلك ولا سبيل إلى تلقية إلا من جهة الرسل وما يظن من خصول صحة القلب بدون اتباعهم فغلط ممن يظن ذلك وإنما ذلك حياة نفسه البهيمة الشهوانية وصحتها وقوتها وحياة قلبه وصحته وقوته عن ذلك بمعزل ومن لم يميز بين هذا وهذا فلبيك على حياة قلبه فإنه من الاموات وعلى نوره فإنه منغنس في بحار الظلمات
فصل
وأما طب الابدان فإنه نوعان نوع قد فطر الله عليه الحيوان ناطقة وبهيمة فهذا لا يحتاج فيه إلى معالجة طبيب كطب الجوع والعطش والبرد والتعب بأضدادها وما يزيلها والثاني ما يحتاج إلى فكر وتأمل كذفع الامراض المتشابهة الحادثة في المزاح بحيث يخرج بها عن الاعتدال إما إلى حرارة أو برودة او يبوسة أو رطوبة أو ما يتركب من انثين منها وهي نوعان إما مادية وإما كيفية أعني إما أن يكون بانصباب مادة أو بحدوث كيفية والفرق بينهما أن امراض الكيفية تكون بعد زوال المواد التي اوجبتها فتزول موادها ويبقى أثرها في المزاح المادة اسبابها معها تمدها وإذا كان سبب المرض معه فالنظر في السبب ينبغي أن يقع أولا ثم في المرض ثانيا ثم في الدواء ثالثا أو الأمراض الآلية وهي التي تخرج العضو عن هيئته إما في شكل أو تجويف أو مجرى أو خشونة أو ملامسة أوعدد أو عظم أو وضع فإن هذه الأعضاء إذا تألفت وكان منها البدن سمي تألفها اتصالا والخروج عن الاعتدال فيه يسمى تفرق الاتصال أو الامراض العامة التي تعم المتشابهة والآلية والأمراض المتشابهة هي التي يخرج بها المزاح عن الاعتدال وهذا الخروج يسمى مرضا بعد أن يضر بالفعل إضرارا محسوسا وهي على ثمانية أضرب أربعة بسيطة وأربعة مركبة فالبسيطة البارد والحار والرطب واليابس والمركبة الحار الرطب والحار اليابس والبارد الرطب والبارد اليابس
وهي اما أن تكون بانصباب مادة أو بغير انصباب مادة وإن لم يضر المرض بالفعل يسمى خروجا عن الاعتدال صحة وللبدن ثلاثة أحوال حال طبيعية وحال خارجة عن الطبيعية وحال متوسطة بين الامرين فالأولى بها يكون البدن صحيحا والثانية به يكون مريضا والحال الثالثة هي متوسطة بين الحالتين فإن الضد لا ينتقل إلى ضده إلا بمتوسط وسبب خروج البدن عن طبيعته إما من داخله لأنه مركب من الحار والبارد والرطب واليابس وإما من خارج فلأن ما يلقاه قد يكون موافقا وقد يكون غير موافق والضرر الذي يلحق الإنسان قد يكون من سوء المزاح بخروجه عن الاعتدال وقد يكون من فساد في العضو وقد يكون من ضعف في القوى أو الارواح الحاملة لها ويرجع ذلك إلى زيادة ما الاعتدال في عدم زيادته أو نقصان ما الاعتدال في تفرقه أو امتداد ما الاعتدال في اتقباضه أو خروج ذي وضع وشكل عن وضعه وشكله بحيث يخرجه عن اعتداله فالطيب هو الذي يفرق ما يضر بالانسان جمعه أو يجمع فيه ما يضره تفرقه أو ينقص منه ما يضره زيادته أو يزيد فيه ما يضر نقصه فيجلب الصحة المفقودة أو يحفظها بالشكل والشبه ويدفع العلة الموجودة بالضد والنقيض ويخرجها أو يدفعها بما يمنع من حصولها بالحمية وسترى هذا كله في هدي رسول الله شافيا كافيا بحول الله وقوته وفضله ومعونته
فصل
فكان من هديه فعل التداوي في نفسه والامر به لمن أصابه مرض من أهله وأصحابه ولكن لم يكن من هديه ولا هدي أصحابه استعمال هذه الادوية المركبة التي تسمى اقرباذين بل كان غالب ادويتهم بالمفرادات وربما أضافوا إلى المفرد ما يعاونه أو يكسر سورته وهذا غالب طب الامم على اختلاف اجناسها من العرب والترك وأهل البوادي قاطبة وإنما عني بالمركبات الروم واليونانيون وأكثر طب الهند بالمفردات
وقد اتفق الاطباء علىأنه متى أمكن التداوي بالغذاء لا يعدل عنه إلى الدواء ومتى أمكن بالبسط لا يعدل عنه إلى المركب
قالوا وكل داء قدر على دفعة بالاغذية والحمية لم يحاول دفعه بالادوية قالوا ولا ينبغي للطبيب أن يولع بسقي الادوية فإن الدواء إذا لم يجد في البدن داء يحلله أو وجد داء لا يوافقه أو وجد ما يوافقه فزادت كميته عليه او كيفيته تشبث بالصحة وعبث بها وأرباب التجارب من الاطباء طبهم بالمفردات غالبا وهم احد فرق الطب الثلاث والتحقيق في ذلك أن الادوية من جنس الأغذية فالأمة والطائفة التي غالب أغذيتها المفردات أمراضها قليلة جدا وطبها بالمفردات وأهل المدن الذين غلبت عليهم الاغذية المركبة يحتاجون إلى الأدوية المركبة وسبب ذلك أن امراضهم في الغالب مركبة فالادوية المركبة أنفع لها وأمراض أهل البوادي والصحارى مفردة فيكفي في مداواتها الادوية المفردة فهذا برهان بحسب الصناعة الطبية
ونحن نقول إن هاهنا أمرا آخر نسبة طب الأطباء إليه كنسبة طب الطرقية والعجائز إلى طبهم وقد اعترف به حذاقهم وأئمتهم فإن ما عندهم من العلم بالطب منم من يقول هو قياس ومنهم من يقول هو تجربة ومنهم من يقول هو إلهامات ومنامات وحدس صائب ومنهم من يقول اخذ كثير منه من الحيوانات البهيمية كما نشاهد السنانير إذا اكلت ذوات السموم تعمد إلى السراج فتلغ في الزيت تتداوى به وكما رؤيت الحيات إذا خرجت من بطون الارض وقد عشيت ابصارها تأتي إلى ورق الرازايانج فتمر عيونها عليها وكما عهد من الطير الذي يحتقن بماء البحر عند انحباس طبعه وأمثال ذلك مما ذكر في مباديء الطب وأين يقع هذا وأمثاله من الوحي الذي يوحيه الله إلى رسوله بما ينفعه ويضره فنسبه ما عندهم من الطب إلى هذا الوحي كنسبة ما عندهم من العلوم إلى ما جاءت به الانبياء بل ها هنا من الأدوية التي تشفي من الامراض ما لم يهتد إليها عقول أكابر الأطباء ولم تصل إليها علومهم وتجاربهم وأقيستهم من الأدوية القلبية والروحانية وقوة القلب واعتماده على الله والتوكل عليه والالتجاء إليه والانطراح والانكسار بين يديه والتذلل له والصدقة والدعاء والتوبة والاستغفار والاحسان إلى الخلق وإغاثة الملهوف والتفريج عن المكروب فإن هذه الادوية قد جربتها الامم على اختلاف اديانها ومللها فوجدوا لها من التأثير في الشفاء ما لا يصل إليه علم اعلم الاطباء ولا تجربته ولا قياسه
جربنا نحن وغيرنا من هذا امورا كثيرة ورأيناها تفعل ما لا تفعل الادوية الحسية بل تصير الادوية الحسية عندها بمنزلة ادوية الطرقية عند الاطباء وهذا جار على قانون الحكمة الالهية ليس خارجا عنها ولكن الاسباب متنوعة فإن القلب متى اتصل برب العالمين خالق الداء والدواء ومدبر الطبية ومصرفها على ما يشاء كانت له أدوية أخرى غير الادوية التي يعانيها القلب البعيد منه المعرض عنه وقد علم أن الارواح متى قويت وقويت النفس والطبيعة تعاونا على دفع الداء وقهره فكيف ينكر لمن قويت طبيعته ونفسه وفرحت بقربها من بارئها وأنسبها به وحبها له وتنعمها بذكره وانصراف قواها كلها إليه وجمعها عليه واستعانتها به وتوكلها عليه أن يكون ذلك لها من اكبر الادوية وأن توجب لها هذه القوة دفع الالم بالكلية ولا ينكر هذا إلا أجهل الناس وأغلظهم حجابا واكثفهم نفسا وابعدهم عن الله وعن حقيقة الانسانية وسنذكر إن شاء الله السبب الذي به أزالت قراءة الفاتحة داء اللدغة عن اللديغ التي رقي بها فقام حتى كأن ما به قلبة فهذان نوعان من الطب النبوي نحن بحول الله نتكلم عليهما بحسب الجهد والطاقة ومبلغ علومنا القاصرة ومعارفنا المتلاشية جدا وبضاعتنا المزجاة ولكنا نستوعب من بيده الخير كله ونستمد من فضله فإنه العزيز الوهاب
فصل
روى مسلم في صحيحه من حديث أبي الزبير عن جابر بت عبدالله عن النبي أنه قال لكل داء دواء فإذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله عز وجل
وفي الصحيحن عن عطاء عن أبي هريرة قال قال رسول الله ماأنزل الله من داء إلا أنزل له شفاء وفي مسند الامام أحمد من حديث زياد بن علاقة عن اسامة بن شريك قال كنت عند النبي وجاءت الاعراب فقالوا يا رسول الله أنتداوى فقال نعم يا عبادالله تداووا فإن الله عز وجل لم يضع داء إلا وضع له شفاء غير داء واحد قالوا ما هو قال الهرم وفي لفظ إن الله لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء علمه من علمه وجهله من جهله وفي المسند من حديث ابن مسعود يرفعه إن الله عز وجل لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء علمه من علمه وجهله من جهله المسند والسنن عنأبي خزامة قال قلت يا رسول الله أرأيت رقي نسترقيها ودواء نتداوى به وتقاة نتقيها هل ترد من قدر الله شيئا فقال هي من قدر الله فقد تضمنت هذه الأحاديث إثبات الأسباب والمسببات وإبطال قول من انكرها ويجوز أن يكون قوله لكل داء دواء على عمومه حتى يتناول الأدواء القاتلة والأدواء التي لا يمكن لطبيب أن يبرئها ولكن طوى علمها عن البشر ولم يجعل لهم إليه سبيلا لأنه لا علم للخلق إلا ما علمهم الله ولهذا علق النبي الشفاء على مصادفة الدواء للداء فإنه لا شيء من المخلوقات إلا له ضد وكل داء له ضد من الدواء يعالج بضده فعلق النبي البرء بموافقة الداء للدواء وهذا قدر زائد على مجرد وجوده فإن الدواء متى جاوز درجة الداء في الكيفية او زاد في الكمية على ما ينبغي نقله إلى داء آخر ومتى قصر عنها لم يف بمقاومته وكان العلاج قاصرا ومتى لم يقع المداوي على الدواء أو لم يقع الدواء على الداء لم يحصل الشفاء ومتى لم يكن الزمان صالحا لذلك الدواء لم ينفع ومتى كان البدن غير قابل لهأو القوة عاجزة عن حمله أو ثم مانع يمنع من تأثيره لم يحصل البرء لعدم المصادفة ومتى تمت المصادفة حصل البرء البرء بإذن الله ولا بد وهذا أحسن المحملين في الحديث والثاني أن يكون من العام المراد به الخاص لا سيما والداخل في المراد أن الله لم يضع داء يقبل الدواء إلا وضع له دواء فلا يدخل في هذا الاداواء التي لا تقبل الدواء وهذا كقوله تعالى في الريح التي سلطها على قوم عاد ( تدمر كل شيء بأمر ربها ) الاحقاف 25 اي كل شيء يقبل التدمير ومن شأن الريح أن تدمره ونظائره كثيرة
ومن تأمل خلق الاضداد في هذا العالم ومقاومة بعضها لبعض ودفع بعضها ببعض وتسليط بعضها على بعض تبين له كمال قدرة الرب تعالى وحكمته وإتقانه ما صنعه وتفرده بالربوبية والوحدانية والقهر وأن كل ما سواه فله ما يضاده ويمانعه كما أنه الغني بذاته وكل ما سواه محتاج بذاته
وفي الاحاديث الصحيحة الامر بالتداوي وأنه لا ينافي التوكل كما لاينافيه دفع داء الجوع والعطش والحر والبرد بأضدادها بل لا تتم حقيقة التوحيد إلا بمباشرة الاسباب التي نصبها الله مقتضيات لمسبباتها قدرا وشرعا وأن تعطيلها يقدح في نفس التوكل كما يقدح في الامر والحكمة ويضعفه من حيث يظن معطلها أن تركها أقوى في التوكل فإن تركها عجزا ينافي التوكل الذي حقيقة اعتماد القلب على الله في حصول ما ينفع العبد في دينه ودنياه ودفع ما يضره في دينه ودنياه ولا بد مع هذا الاعتماد من مباشرة الاسباب وإلا كان معطلا للحكمة والشرع فلا يجعل العبد توكلا ولا توكله عجزا وفيها رد على من انكر التداوي وقال إن كان الشفاء قد قدر فالتداوي لا يفيد وإن لم يكن قد قدر فكذلك وأيضا فإن المرض حصل بقدر الله وقدر الله لا يدفع ولا يرد هذا السؤال هو الذي أو رده الاعراب على رسول الله وأما أفاضل الصحابة فأعلم بالله وحكمته وصفاته من أن يوردوا مثل هذا وقد أجابهم النبي بما شفى وكفى فقال هذه الادوية والرقي والتقى هي من قدر الله فما خرج شيء عن قدره بل يرد قدره بقدره وهذا الرد من قدره فلا سبيل إلى الخروج عن قدره بوجه ما وهذا كرد قدر الجوع والعطش والحر والبرد بأضدادها وكرد قدر العدو بالجهاد وكل من قدر الله الدافع والمدفوع والدفع ويقال لمورد هذا السؤال هذا يوجب عليك أن لا تباشر سببا من الاسباب التي تجلب بها منفعى أو تدفع بها مضرة لأن المنفعة والمضرة إن قدرتا لم يكن بد من وقوعهما وإن لم تقدرا لم يكن سبيل إلى وقوعهما وفي ذلك خراب الدين والدنيا وفساد العالم وهذا لا يقوله إلا دافع للحق معاند له فيذكر القدر ليدفع حجة المحق عليه كالمشركين الذين قالوا ( لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ) الأنعام 148 و ( لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ) النحل 35 فهذا قالوه دفعا لحجة الله عليهم بالرسل وجواب هذا السائل أن يقال بقي قسم ثالث لم تذكره وهو أن الله قدر كذا وكذا بهذا السبب فإن أتيت بالسبب حصل المسبب وإلا فلا فإن قال إن كان قدر لي السبب فعلته وإن لم يقدره لي لم أتمكن من فعله قيل فهل تقبل هذا الاحتجاج من عبدك وولدك وأجيرك إذا احتج به عليك فيما أمرته به ونهيته عنه فخالفك فإن قبلته فلا تلم من عصاك وأخذ مالك وقذف عرضك وضيع حقوقك وإن لم تقبله فكيف يكون مقبولا منك في دفع حقوق الله عليك وقد روي في أثر إسرائيلي أن إبراهيم الخليل قال يا رب ممن الداء قال مني قال فممن الدواء قال مني قال فما بال الطبيب قال رجل أرسل الدواء على يديه
وفي قوله لكل داء دواء تقوية لنفس المريض والطبيب وحث على طلب ذلك الدواء والتفتيش عليه فإن المريض إذا استشعرت نفسه أن لدائه دواء يزيله تعلق قلبه بروح الرجاء وبردت عنده حرارة اليأس وانفتح له باب الرجاء ومتى قويت نفسه انبعثت حرارته الغزيرة وكان ذلك سببا لقوة الارواح الحيوانية والنفسانية والطبيعية ومتى قويت هذه الارواح قويت القوى التي هي حاملة لها فقهرت المرض ودفعته
وكذلك الطبيب إذا علم أن لهذا الداء دواء أمكنه طلبه والتفتيش عليه وأمراض الابدان على وزن أمراض القلوب وما جعل الله للقلب مرضا إلا جعل له شفاء بضده فإن علمه صاحب الداء واستعمله وصادف داء قلبه أبرأه بإذن الله تعالى
فصل
في هديه في الاحتماء من التخم والزيادة في الاكل على قدر الحاجة والقانون الذي ينبغي مراعاته في الأكل والشرب في المسند وغيره عنه أنه قال ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطن بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه فإن كان لا بد فاعلا فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه الامراض نوعان أمراض مادية تكون عن زيادة مادة افرطت في البدن حتى اضرت بأفعاله الطبيعية وهي الامراض الاكثرية وسببها إدخال الطعام على البدن قبل هضم الاول والزيادة في القدر الذي يحتاج إليه البدن وتناول الاغذية القليلة النفع البطيئة الهضم والاكثار من الأغذية المختلفة التراكيب المتنوعة فإذا ملأ الآدمي بطنه من هذه الأغذية واعتاد ذلك أورثته أمراضا متنوعة منها بطئ الزوال وسريعه فإذا توسط في الغذاء وتناول منه قدر الحاجة وكان معتدلا في كميته وكيفيته كان انتفاع البدن به أكثر من انتفاعه بالغذاء الكثير ومراتب الغذاء ثلاثة احدها مرتبة الحاجة والثانية مرتبة الكفاية والثالثة مرتبة الفضلة فأخبر النبي أنه يكفيه لقيمات يقمن صلبه فلا تسقط قوته ولا تضعف معها فإن تجاوزها فليأكل في ثلث بطنه ويدع الثلث الآخر للماء والثالث للنفس وهذا من أنفع ما للبدن والقلب فإن البطن إذا امتلأ من الطعام ضاق عن الشراب فإذا ورد عليه الشراب ضاق عن النفس وعرض له الكرب والتعب بحمله بمنزلة حامل الحمل الثقيل هذا إلى ما يلزم ذلك من فساد القلب وكسل الجوارح عن الطاعات وتحركها في الشهوات التي يستلزمها الشبع فامتلاء البطن من الطعام مضر للقلب والبدن هذا إذا كان دائما أو أكثريا
واما إذا كان في الاحيان فلا بأس به فقد شرب أبو هريرة بحضرة النبي من اللبن حتى قال والذي بعثك بالحق لا أجد له مسلكا وأكل الصحابة بحضرته مرارا حتى شبعوا والشبع المفرط يضعف القوى والبدن وإن أخصبه وإنما يقوي البدن بحسب ما يقبل من الغذاء لا بحسب كثرته ولما كان في الانسان جزء أرضي وجزء هوائي وجزء مائي قسم النبي طعامه وشرابه ونفسه على الاجزاء الثلاثية فإن قيل فأين حظ الجزء الناري قيل هذه مسألة تكلم فيها الاطباء وقالوا إن في البدن جزءا ناريا بالفعل وهو احد اركانه واسطقساته ونازعهم في ذلك آخرون من العقلاء من الاطباء وغيرهم وقالوا ليس في البدن جزء ناري بالفعل واستدلوا بوجوه أحدها أن ذلك الجزء الناري إما أن يدعي أنه نزل عن الأثير واختلط بهذه الاجزاء المائية والارضية أو يقال إنه تولد فيها وتكون والأول مستبعدلوجهين أحدهما أن النار بالطبع صاعدة فلو نزلت لكانت بقاسر من مركزها إلى هذا العالم الثاني أن تلك الاجزاء النارية لا بد في نزولها أن تعبر على كرة الزمهرير التي هي في غاية البرد ونحن نشاهد في هذا العالم أن النار العظيمة تنطفيء بالماء القليل فتلك الاجزاء الصغيرة عند مرورها بكرة الزمهرير التي هي في غاية البرد ونهاية العظم أولى بالانطفاء وأما الثاني وهو أن يقال إنها تكونت ها هنا فهو أبعد وأبعد لأن الجسم الذي صار نارا بعد أن لم يكن كذلك قد كان قبل صيرورته إما أرضا وإما ماء وإما هواء لانحصار الاركان في هذه الاربعة وهذا الذي قد صار نارا اولا كان مختلطا بأحد هذه الاجسام ومتصلا بها والجسم الذي لا يكون نارا إذا اختلط بأجسام عظيمة ليست بنار ولا واحد منها لا يكون مستعدا لأن ينقلب نارا لأنه في نفسه ليس بنار والأجسام المختلطة باردة فكيف يكون مستعدا لانقلابه نارا فإن قلتم لم لا تكون هناك اجزاء نارية تقلب هذه الاجسام وتجعلها نارا بسبب مخالطتها إياها
قلنا الكلام في حصول تلك الاجزاء النارية كالكلام في الأول فإن قلتم إنا نرى من رش الماء على النورة المطفأة تنفصل منها نار وإذا وقع شعاع الشمس علىالبلورة ظهرت النار منها وإذا ضربنا الحجر على الحديد ظهرت النار وكل هذه النارية حدثت عند الاختلاط وذلك يبطل ما قرر تموه في القسم الأول أيضا قال المنكرون نحن لا ننكر أن تكون المصاكة الشديدة محدثة للنار كما في ضرب الحجارة على الحديد أو تكون قوة تسخين الشمس محدثة للنار كما في البلورة لكنا نستبعد ذلك جدا في اجرام النبات والحيوان إذ ليس في اجرامها من الاصطكاك ما يوجب حدوث النار ولا فيها من الصفاء والصقال ما يبلغ إلى حد البلورة كيف وشعاع الشمس يقع على ظاهرها فلا تتولد النار البتة فالشعاع الذي يصل إلى باطنها كيف يولد النار الثاني في اصل المسألة أن الاطباء مجمعون على ان الشراب العتيق في غاية السخونة بالطبع فلو كانت تلك السخونة بسبب الاجزاء النارية لكانت محالا إذا تلك الاجزاء النارية مع حقارتها كيف يعقل بقاؤها في الاجزاء المائية الغالبة دهرا طويلا بحيث لا تنطفيء مع أنا نرى النار العظيمة تطفأ بالماء القليل الوجه الثالث أنه لو كان في الحيوان والنبات جزء ناري بالفعل لكان مغلوبا بالجزء المائي الذي فيه وكان الجزء الناري مقهورا به وغلبة بعض الطبائع والعناصر على بعض يقتضي انقلاب طبيعة المغلوب إلى طبيعة الغالب فكان يلزم بالضرورة انقلاب تلك الاجزاء النارية القليلة جدا إلى طبيعة الماء الذي هو ضد النار الوجه الرابع أن الله سبحانه وتعالى ذكر خلق الانسان في كتابه في مواضع متعددة يخبر في بعضها أنه خلقه من صلصال كالفخار وهو الطين الذي ضربته الشمس والريح حتى صار صلصالا كالفخار ولم يخبر في موضع واحد أنه خلقه من نار بل جعل ذلك خاصية إبليس ثبت في صحيح مسلم عن النبي قال خلقت الملائكة من نور وخلق الجان من مارج من نار وخلق آدم مما وصف لكم وهذا صريح في أنه خلق مما وصفه الله في كتابه فقط ولم يصف لنا سبحانه أنه خلقه من نار ولا أن في مادته شيئا من النار الوجه الخامس أن غاية ما يستدلون به ما يشاهدون من الحرارة في ابدان الحيوان وهي دليل على الاجزاء النارية وهذا لا يدل فإن اسباب الحرارة أعم من النار فإنها تكون عن النار تارة وعن الحركة اخرى وعن انعكاس الاشعة وعن سخونة الهواء وعن مجاورة النار وذلك بواسطة سخونة الهواء أيضا وتكون عن أسباب أخر فلا يلزم من الحرارة النار قال أصحاب النار من المعلوم ان التراب والماء إذا اختلطا فلا بد لهما من حرارا تقتضي طبخهما وامتزاجهما وإلا كان كل منهما غير ممازج للآخر ولا متحدا به وكذلك إذاألقينا البذر في الطين بحيث لا يصل إليه الهواء ولا الشمس فسد فلا يخلو إما أن يحصل في المركب جسم منضج طابخ بالطبع او لا فإن حصل فهو الجزء الناري وإن لم يحصل لم يكن المركب مسخنا بطبعه بل إن سخن كان التسخين عرضيا فإذا زال التسخين العرضي لم يكن الشيء حارا في طبعه ولا في كيفيته وكان باردا مطلقا لكن من الاغذية والادوية ما يكون حارا بالطبع فعلمنا أن حرارتها إنما كانت لأن فيها جوهرا ناريا
وأيضا فلو لم يكن في البدن جزء مسخن لوجب أن يكون في نهاية البرد لان الطبيعة إذا كانت مقتضية للبرد وكانت خالية عن المعاون والمعارض وجب انتهاء البرد إلى أقصى الغاية ولو كان كذلك لما حصل لها الاحساس بالبرد لأن البرد الواصل إليه إذا كان في الغاية كان مثله والشيء لا ينفعل عن مثله وإذا لم ينفعل عنه لم يحس به وإذا لم يحس به لم يتألم عنه وإن كان دونه فعدم الانفعال يكون أولى فلو لم يكن في البدن جزء مسخن بالطبع لما انفعل عن البرد ولا تألم به قالوا وادلتكم إنما تبطل قول من يقول الاجزاء النارية باقية في هذه المركبات على حالها وطبيعتها النارية ونحن لا نقول بذلك بل نقول إن صورتها النوعية تفسد عند الامتزاج قال الآخرون لم لايجوز أن يقال إن الارض والماء والهواء إذا اختلط فالحرارة المنضجة الطابخة لها هي حرارة الشمس وسائر الكواكب ثم ذلك المركب عند كمال نضجه مستعد لقبول الهيئة التركيبية بواسطة السخونة نباتا كان او حيوانا أو معدنا وما المانع أن تلك السخونة والحرارة التي في المركبات هي بسبب خواص وقوى يحدثها الله تعالى عند ذلك الامتزاج لا من أجزاء نارية بالفعل ولا سبيل لكم إلى ابطال هذا الامكان البتة وقد اعترف جماعة من فضلاء الأطباء بذلك وأما حديث إحساس البدن بالبرد فنقول هذا يدل على ان في البدن حرارة وتسخينا ومن ينكر ذلك لكن ما الدليل على انحصار المسخن في النار فإنه وإن كان كل نار مسخنا فإن هذه القضية لا تنعكس كلية بل عكسها الصادق بعض المسخن نار وأما قولكم بفساد صورة النار النوعية فأكثر الأطباء على بقاء صورتها النوعية والقول بفسادها قول فاسد قد اعترف بفساده أفضل متأخريكم في كتابه المسمى بالشفاء وبرهن على بقاء الاركان أجمع على طبائعها في المركبات وبالله التوفيق
فصل
وكان علاجه للمرض ثلاثة انواع احدها بالادوية الطبيعية والثانية بالادوية الالهية والثالث بالمركب من الأمرين ونحن نذكر الانواع الثلاثة من هديه فنبدأ بذكر الادوية الطبيعية التي وصفها واستعملها ثم نذكر الادوية الألهية ثم المركبة وهذا إنما نشير إليه إشارة فإن رسول الله إنما بعث هاديا وداعيا إلى الله وإلى جنته ومعرفا بالله ومبينا للأمة مواقع رضاه وآمرا لهم بها ومواق سخطه وناهيا لهم عنها ومخبرهم أخبار الأنبياء والرسل وأحوالهم مع أممهم وأخبار تحليف العالم وامر المبدأ والمعاد وكيفية شقاوة النفوس وسعادتها وأسباب ذلك وأما طب الابدان فجاء من تكميل شريعته ومقصودا لغيره بحيث إنما يستعمل عند الحاجة إليه فإذا قدر على الإستغناء عنه كان صرف الهمم والقوى إلى علاج القلوب والأرواح وحفظ صحتها ودفع أسقامها وحميتها مما يفسدها هو المقصود بالقصد الأول وإصلاح البدن بدون إصلاح القلب لا ينفع وفساد البدن معإصلاح القلب مضرته يسيرة جدا وهي مضرة زائلة تعقبها المنفعة الدائمة التامة وبالله التوفيق