البحث
الإيمان باليوم الآخر
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلـٰه إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
أما بعد، فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عباد الله، اتقوا الله تعالى وراقبوه، وأطيعوه ولا تعصوه، واعلموا أن الله حكيم في تشريعه، حكيم في تقديره، حكيم في جزائه، وإن من حكمة الله تعالى أن جعل لهذه الخليقة معادًا يجازيهم فيه على ما كلَّفهم به على ألسنة رسله،
قال الله تعالى
﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُون * فتعالى الله الملك الحق﴾
وسُمِّي يوم المعاد باليوم الآخِر لأنه لا يوم بعده، حيث يستقر أهل الجنة في منازلهم وأهل النار في منازلهم، كما سُمِّي هذا اليوم بيوم القيامة لأن الناس تقوم فيه لله جل وعلا،
كما قال تعالى عنه
﴿يوم يقوم الناس لرب العالمين﴾
أيها المؤمنون، إن الإيمان باليوم الآخر يتضمن ستة أمور، أولها النَّــــفخ في الصُّور، وثانيها حدوث أهوال القيامة، وثالثها بعث الخلائق، ورابعها حشر الناس في أرض المحشر، وخامسها الحساب والجزاء، وسادسها دخول الجنة والنار.
عباد الله، والنَّفخ في الصُّور يكون به الإيذان بيوم القيامة، والصُّور قَـــرنٌ ينفُخُ فيه مَلَكُ الصُّورِ – وهو إسرافيل - نفختين، ففي النفخة الأولى – وتسمى نفخة الفزع والصعق - يُصعقُ الخلائق كلهم ويموتون، وهي نفخة طويلة، يمدها إسرافيل حتى يموت الناس جميعا في مشارق الأرض ومغاربها،
دليلها قوله تعالى
﴿وما ينظر هؤلاء إلا صيحة واحدة ما لها من فَواق﴾
، أي: ما لها من إفاقة ورجوع للدنيا، ثم يُنفخ في الصور النفخة الثانية فيقومون من قبورهم، كما دل على ذلك قول الله تعالى ﴿فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم ينظرون﴾.
فبالنفخة الأولى يموت الأحياء، وبالنفخة الثانية يحيى الأموات.
وقد جاء في التـنزيل تسمية الصور بالناقور،
كما في سورة المدثر
﴿فإذا نقر في الناقور﴾.
2.ومما يدخل في الإيمان باليوم الآخر حدوث أهوال القيامة التي تتلو النفخ في الصور، ومن ذلك زلزلة الأرض،
كما في قوله تعالى
﴿إذا زلزلت الأرض زلزالها﴾
وقوله
﴿إذا رجت الأرض رجا﴾
ومن أهوال القيامة تَشقُّق السماء
كما قال تعالى
﴿فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدِّهان﴾
أي تكون كالجلد الأحمر، لأن الوردة حمراء، والدهان هو الجلد.
وفي آية أخرى شبَّه الله السماء في ذلك اليوم بالـمُهل في قوله ﴿يوم تكون السماء كالمهل﴾، أي الشيء الذائب.
وفي ذلك اليوم تُطحن الجبال طحنا فتتفتت حتى تكون كالرمل المتهايل أو الصوف المنفوش، وكلا الوصفين متقارب، فأما طحن الجبال فمذكور في قوله تعالى ﴿وبُسَّت الجبال بسا﴾، وأما تفتتها فمذكور في قوله تعالى ﴿وتكون الجبال كالعهن المنفوش﴾ وقوله ﴿وكانت الجبال كثيبا مهيلا﴾.
وفي ذلك اليوم تُسيَّر الجبال عن أماكنها حتى تُرى كالسَّراب، قال تعالى ﴿وسُيـــرت الجبال فكانت سرابا﴾، وقال تعالى ﴿وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب صنع الله الذي أتقن كل شيء﴾.
ومن أهوال القيامة تكوير الشمس، قال تعالى ﴿إذا الشمس كورت﴾، وتكوير الشمس هو لَـــفُّها فتكون كالعمامة، ثم تُرمى فيذهب ضوؤها.[1]
ومن أهوال القيامة انكِدار النجوم، أي تساقطها بعدما كانت عالية في السماء، قال تعالى ﴿وإذا النجوم انكدرت﴾.
ومن أهوال القيامة أيضا تسجير البحار فتكون نارا، قال تعالى ﴿وإذا البحار سُجِّرت﴾، فسبحان من بيده القدرة على قلب قوانين الطبيعة إلى خلافها بأمره الكوني القدري، قال تعالى ﴿إنما أمرنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون﴾.
3.عباد الله، ومما يدخل في الإيمان باليوم الآخر؛ الإيمان بالبعث، وهو إحياء الموتى حين ينفخ في الصور النفخة الثانية، والبعث حق ثابت، دل عليه الكتاب والسنة وإجماع المسلمين، قال الله
تعالى
﴿ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُون * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُون﴾
فعندئذ يقوم الناس لرب العالمين، حفاةً غير منتعلين، عراةً غير مستـتـِرين، غُـرلاً غير مـخــتــونين، بُهماً، أي ليس بهم شيءٌ من العاهات التي تكون في الدنيا كالعرج والعمى ونحوها، قال الله
تعالى
﴿كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِين﴾
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد، فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن مِن مقتضيات الإيمان باليوم الآخر الإيمان بحشر الخلائق إلى أرض المحشر، والحشر هو سَوقُ الخلائق بعد بعثهم من قبورهم وجمعهم في أرض المحشر،
ودليل الحشر قوله تعالى
﴿وهو الذي ذرأكم في الأرض وإليه تحشرون﴾
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قام فينا النبي (صلى الله عليه وسلم) يخطب فقال: يا أيها الناس، إنكم تُحشرون إلى الله حُفاة عُراة غُـــرْلاً.[2]
فيُحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء، عفراء[3]، ليس فيها مَعْلمٌ[4] لأحدٍ[5]، يُسمِعُهم الداعي[6] ويَنفُــــذُهُم البصر[7]، كما جاء ذلك في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه.[8]
وفي ذلك اليوم يُـحشر الإنس والجن والملائكة والبهائم، فأما حشر الإنس والجن فدليله عموم الآية المتقدمة، وأما حشر البهائم فدليله قوله تعالى ﴿وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون﴾، وقوله تعالى ﴿وإذا الوحوش حُـــشرت﴾.
وأما حشر الملائكة فدليله قوله تعالى ﴿وجاء ربك والـمَلَك صفا صفا﴾، فالملائكة يُـحشرون يوم القيامة بين يدي الرب صفوفا، ولكنهم لا يحاسبون، لأنهم مفطورون على القيام بما أمرهم الله تعالى به وعدم عصيانه، كما وصفهم الله تعالى بقوله لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.
وبعد عباد الله، فهذه أربعة مقتضيات من مقتضيات الإيمان باليوم الآخر، لا يتحقق الإيمان باليوم الآخر إلا بالإيمان بها على سبيل الإجمال، وسيأتي الكلام على المقتضى الخامس والسادس في الخطب القادمة بإذن الله.
ثم اعلموا رحمكم الله أن من أفضل أعمالكم يوم الجمعة وليلتها الصلاة على النبي (صلى الله عليه وسلم)، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض عن أصحابه الخلفاء، الأئمة الحنفاء، وارض عن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين، وانصر عبادك الموحدين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعلهم هداة مهتدين.
اللهم وفق جميع ولاة المسلمين لتحكيم كتابك، وإعزاز دينك، واجعلهم رحمة على رعاياهم.
اللهم إنا نسألك من الخير كله عاجله وآجله ما علمنا منه وما لم نعلم، ونعوذ بك من الشر كله عاجله وآجله، ما علمنا منه وما لم نعلم.
اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل.
اللهم اشف مرضانا، وارحم موتانا، وعاف مبتلانا.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله، إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولَذِكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
المراجع
- انظر تفسير ابن جرير رحمه الله للآية.
- رواه البخاري (6526)، ومسلم (2860).
- عفراء أي بيضاء بياضا ليس بالناصع. انظر «النهاية».
- معلم أي علامة، كعلامات الطريق ونحوه، وقيل: المعلم الأثر. انظر «النهاية» لابن الأثير رحمه الله.
- انظر صحيح البخاري (6521) ومسلم (2790)، عن سهل بن سعد رضي الله عنه.
- أي أنه إذا دعاهم داعٍ فإنهم يسمعونه كلهم لأن الأرض ليس فيها ما يمنع نفوذ الصوت من جدار ونحوه.
- أي أن البصر يبلغ أولهم وآخرهم لاستواء الأرض وعدم تَـكَـوُّرِها. انظر «فتح الباري» شرح حديث (4712).
- برقم (3361).