البحث
من حقوق المصطفي(صلي الله عليه وسلم)توفير صحابته
الخطبة الأولى
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلـٰه إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
أما بعد، فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى وراقبوه، وأطيعوه ولا تعصوه، واعلموا أن من أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة؛ توقيرَ أصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم) وبِــرَّهُم، ومعرفةَ حقِّهم والاقتداء بهم، وحسنَ الثناء عليهم، والاستغفارَ لهم، والإمساكَ عما شجر بينهم، ومعاداةَ من عاداهم، والإعراضَ عن الأخبارِ القادحة في أحد منهم، والتي نقلها بعض المؤرخين، وجهلة الرواة، وضُلّال الشيعة والمبتدعين، إذْ هم أهلٌ لئلا يُذكر أحد منهم بسوء ولا يُعاب عليه أمرٌ، بل تُذكر حسناتهم وفضائلهم وحمِيدُ سيرتهم، ويُسكتُ عما وراء ذلك.[1]
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ومن أصول أهل السنة والجماعة سلامةُ قلوبِـهم وألسنتِهم لأصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، كما وصفهم الله في قوله تعالى والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا[2]. انتهى.
الخصائص الأربع عشرة للصحابة رضي الله عنهم
أيها المؤمنون، من الدلائل على عِظَم قدر الصحابة على غيرهم من الناس أن الله اختارهم من بين سائر البشر لِصحبة نبيه (صلى الله عليه وسلم)، وخصَّهم في الحياة الدنيا بالنظرِ إليه وسماعِ حديثه من فمه الشريف، وتلقي الشريعة وأمور الدين عنه، والتربيةِ على يديه، وتبليغِ ما بُعث به من النور والهدى على أكمل الوجوه وأتمها.
ومن الدلائل على عِظَم قدر الصحابة حب النبي (صلى الله عليه وسلم) لهم.
ومن الدلائل على عِظَم قدر الصحابة أن لهم الأجر العظيم لِجهادهم مع النبي في سبيل نشر الإسلام والدعوة إليه، فصار لهم من الأجور مثل أجور من بعدهم، فإنه من المعلوم أن من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً.
ومن الدلائل على عِظَم قدر الصحابة حِفظهم للقرآن والسنة وتبليغهما للناس، وانتشارهما بسببهم في الآفاق إلى قيام الساعة.
أيها المسلمون، ومن الدلائل على عِظَم قدر الصحابة أن الله أثنى عليهم أحسن الثناء، ورفع ذكرهم في التوراة والإنجيل والقرآن، ووعدهم بالمغفرة والأجر العظيم، قال تعالى محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجراً عظيماً.
قال القرطبي رحمه الله في تفسير الآية: هذا مثلٌ ضربه الله تعالى لأصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم)، يعني أنهم يكونون قليلاً ثم يزدادون ويكثرون، فكان النبي (صلى الله عليه وسلم) حين بدأ بالدعوة إلى دينه ضعيفاً، فأجابه الواحد بعد الواحد حتى قَــــوِي أمره، كالزرع يبدو بعد البذر ضعيفاً، فيقوى حالاً بعد حالٍ حتى يغلُظَ ساقُه وأفراخُه، فكان هذا من أصح مثلٍ، وأوضح بيان. انتهى بتصرف يسير.
6.عباد الله، ومن الدلائل على عِظَم قدر الصحابة أن الله ألزمهم كلمة التقوى، وأخبر أنهم أحَـقُّ بها من غيرهم، وأنهم أهلُها، قال تعالى وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحقَّ بها وأهلَها، فأخبر أنه ألزمهم كلمة التقوى، وهي (لا إلـٰه إلا الله)، فألزمهم حقوقها والقيام بها، فالتزموها وقاموا بها، ثم أخبر أنهم أحَـقُّ بها من غيرهم، وأنهم أهلُها، أي أنهم استأهلوا أن يوصفوا بأنهم أهلٌ للتقوى، لِـما يعلم ما في قلوبهم من الخير.
7.ومن الدلائل على عِـظَـم قدر الصحابة ما أخبر الله به أن الناس إن آمنوا بمثل ما آمن به النبي (صلى الله عليه وسلم) والصحابة فقد اهتدوا، قال تعالى فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا.
وقال النبي (صلى الله عليه وسلم): ... وإنَّ بَني إسرائيل تفرَّقت على ثِنتينِ وسبعينَ ملَّةً، وتفترقُ أمَّتي على ثلاثٍ وسبعينَ ملَّةً، كلُّهم في النَّارِ إلَّا ملَّةً واحِدةً. قالوا: مَن هيَ يا رسولَ اللَّهِ؟ قالَ: ما أَنا علَيهِ وأَصحابي.[3]
ففي هذا الحديث أخبر النبي (صلى الله عليه وسلم) أن الأمة ستفترق إلى فرق كثيرة، عَــبَّــــرَ عنها بالملل، عددها ثلاث وسبعون، وأنه لن ينجو منها إلا الفرقة التي تسير على نهج النبي (صلى الله عليه وسلم) وصحابته الكرام، في العقيدة والشريعة والسلوك، جعلنا الله منهم، وفي هذا إثباتُ أن الصحابة كانوا على الهدى المستقيم.
8.ومن الدلائل على عِـظَـم قدر الصحابة أن الله تعالى شَهِد لهم بأنهم هم المؤمنون حقا، وكفى بالله شهيدا، قال تعالى والذين آمنوا وعملوا الصالحات وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقاً لهم مغفرة ورزق كريم.
9.ومن الدلائل على عِـظَـم قدر الصحابة ما ذكره الله في موطنين من القرآن من رِضاه عنهم، وهما قوله تعالى ﴿والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم﴾، وقوله تعالى ﴿لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنـزل السكينة عليهم وأثابهم فتحاً قريباً﴾.
10.ومن الدلائل على عِـظَـم قدر الصحابة أنهم أفقه الأمة بأمر دينها، وأن ما أجمعوا عليه فإنه لا يسع أحدٌ خلافه، لأنهم تربوا على عين النبي (صلى الله عليه وسلم)، وعاينوا التنزيل، وقد أخبر (صلى الله عليه وسلم) بأن للأربعة الـمُـــقَـــدَّمين منهم – وهم الخلفاء الراشدون – سنة متبعة، ينبغي على من أتى بعدهم أن يتبعها، قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة وإن عبدا حبشيا مُجدَّعا[4]، فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكـم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، فتمسكوا بها وعضُّوا عليها بالنواجذ[5]، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.[6]
11.عباد الله، ومن الدلائل على عِـظَـم قدر الصحابة أن الله تعالى أمر نبيه (صلى الله عليه وسلم) بمشاورتهم، فقـال وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله.
12.ومن الدلائل على عِـظَـم قدر الصحابة أن الله ندب من جاء بعدهم إلى الاستغفار لهم، وأن لا يجعلوا في قلوبهم غلاً عليهم، فقال والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم.
13.ومن الدلائل على عِـظَـم قدر الصحابة ما نص عليه النبي (صلى الله عليه وسلم) أنَّ قَــرنهم الذي عاشوا فيه هو خيرُ القرون، فقال: خيرُ الناسِ قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم.[7]
ولفظ مسلم: خير أمتي القرنُ الذي بُعثت فيهم.
14.ومن الدلائل على عِـظَـم قدر الصحابة ما أخبر به النبي (صلى الله عليه وسلم) من أنَّ أجرَهم مضاعفٌ على أجر من جاء بعدهم، قال (صلى الله عليه وسلم): لا تسبوا أصحابي، فلو أن أحدكم أنفق مثل (أُحُــدٍ)[8] ذهباً ما بلغ مُــــدَّ أحدهم ولا نَصِيفَه.[9]
والنَّصيف هو النصف، والمد هو ربع الصاع، يعني أن صدقة الصحابي لو كانت مُدَّا فإنها أعظم ثوابا مِن صدقة من أتى بعده ولو كانت كجبل أُحُـــــد.
وسبب التفاوت بين الصدقتين هو ما يُقارِن صدقة الصحابي من مزيد الإخلاص وصدق النية.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه كان للتوابين غفورا.
الخطبة الثانية – تفاضل الصحابة فيما بينهم في المنزلة
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، أما بعد، فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن الصحابة متفاوتون في مراتبهم وفضائلهم، فأهل السنة والجماعة يؤمنون بأن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي، ويُقدمون المهاجرين على الأنصار، لأن المهاجرين لهم السابقة في الإسلام، ثم جاء الأنصار فآووا النبي (صلى الله عليه وسلم) وصحابته المهاجرين ونصروهم، وأهل السنة يُفضلون من أنفق قبل الفتح [10]وقاتل، على من أنفق من بعده وقاتل، ويؤمنون بأن الله تعالى قال لأهل بدر – وكانوا ثلاثمائة وبضعة عشر – (اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)[11]، ويؤمنون بأنه لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة، أي شجرة الرضوان في الحديبية، وكانوا أكثر من ألف وأربعمائة، ويشهدون بالجنة لمن شَهِد له رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بالجنة، كالعشرة وغيرهم من الصحابة.
خلاصة في حقوق الصحابة على الأمة
أيها المؤمنون، وخلاصة القول إن للصحابة علينا حقوقا أربعة:
الأول: محبتهم والترضي عنهم، الثاني: الإيمان بأنهم خير الناس بعد النبي (صلى الله عليه وسلم)، الثالث: الكف عما شجر بينهم. الرابع: الذب عنهم مما قاله بعض المبتدعة فيهم، كالروافض ومن سلك مسلكهم.
ثم اعلموا رحمكم الله أن الله سبحانه وتعالى أمركم بأمر عظيم فقال (إن اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تسليما)، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض عن أصحابه الخلفاء، وارض عن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
عباد الله، إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
المراجع
- باختصار وتصرف يسير من «الشفا» للقاضي عياض، الفصل السادس: ومن توقيره وبره توقير أصحابه وبرهم.
- قاله في كتابه «العقيدة الواسطية».
- رواه الترمذي (2832)، وصححه الألباني.
- أي مقطع الأطراف.
- الناجذ آخر الأضراس، وللإنسان أربع نواجذ.
- رواه ابن حبان (1/179) واللفظ له، وأبو داود (4607)، والترمذي (2676)، وابن ماجه (42)، وأحمد (4/126 – 127)، وغيرهم، والحديث صححه الألباني رحمه الله.
- رواه البخاري (2652) ومسلم (2533) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
- أُحُـد جبل معروف بالمدينة، وهو أكبر جبالها.
- رواه البخاري (3673)، ومسلم (2541) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وفي الباب عن أبي هريرة رضي الله عنه، رواه مسلم (2540).
- أي فتح مكة.
- رواه البخاري (3007) ومسلم (2494) عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.