البحث
الناقض الخامس ( الاستهزاء بشيء من أمور الدين)
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلـٰه إلا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون)
.
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبا)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيما)
أما بعد، فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
توقير الدين من لوازم الإيمان
عباد الله، اتقوا الله تعالى وعظّموه، وأطيعوه ولا تعصوه، واعلموا أن من لوازم تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله؛ توقير الله تعالى، وتوقير نبيه (صلى الله عليه وسلم)، وتوقير دينه، سواء منه ما يعلق بالعقائد أو العبادات أو المعاملات أو السلوكيات، فهذا من علامات الصدق في تحقيق الشهادتين، ومن علامات الصدق في الإيمان، وقد قرن الله الإيمان به وبرسوله بتوقيره سبحانه وتوقير رسوله، وتوقير دينه، قال تعالى (إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا * لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا)، أي لتنصروا الله بنصرِ دينه، وتعظموه، وتسبحوه أول النهار وآخره.
الاستهزاء الدين من نواقض الإسلام
عباد الله، وضد توقير الدين الاستهزاء بشيء من شعائر دين الله أو رسله، أو ثوابه أو عقابه، فمن فعل هذا فقد كَــفَــر، ووجهُ كونِ الاستهزاء بالدين كفرًا أن الاستهزاء بالدين يلزم منه تنقص الـمُشرِّع له، وهو الله تعالى، وهذا كفر صريح، إذ الواجب في حق الله هو التعظيم لا التنقص، أما الاستهزاء فلا يصدر مِمَّن عَظَّم الله حق التعظيم، وعَظَّم نبيه (صلى الله عليه وسلم)، وعَظَّم دينه، بل لا يصدر إلا من قلبِ منافق، عياذا بالله، كيف وقد عُلِم أن من أشهر علامات النفاق الاستهزاء بالدين؟ قال ابن سعدي رحمه الله: إن الاستهزاء بالله ورسوله كفر مخرج عن الدين، لأن أصل الدين مبني على تعظيم الله وتعظيم دينه ورسله، والاستهزاء بشيء من ذلك مناف لهذا الأصل ومناقض له أشد المناقضة. انتهى.[1]
الأدلة الشرعية على كفر المستهزئ بالدين
عباد الله، وقد نص القرآن على كفر المستهزئ بشيء من شعائر الدين، قال تعالى ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون * لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم، فدلت الآية على كفر المستهزئ بشيء من أمور الدين، سواء كان الاستهزاء متعلقا بالله أو بآياته وهي القرآن، أو برسوله، وسواء كان المستهزئ جادا أم هازلا.
روى ابن أبي حاتم في تفسير هذه الآية عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: قال رجل في غزوة تبوك في مجلٍس يوما: (ما رأيت مثل قُـــرَّائنا [2]هؤلاء، (يعني أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم)، لا أرغبُ بطونا[3]، ولا أكذبُ ألسِنةً، ولا أجبنُ عند اللقاء). فقال رجل في المجلس: (كذبتَ، ولكنك منافق، لأخبرنَّ رسول الله (صلى الله عليه وسلم))، فبلغ ذلك النبيَّ (صلى الله عليه وسلم) ونزل القرآن، قال عبد الله: فأنا رأيته متعلقا بِـحَــقَــبِ ناقة[4] رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، تنكُــبُــهُ الحجارة[5]، وهو يقول: (يا رسول الله، إنما كنا نخوض ونلعب)، ورسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: (أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون).[6]
إجماع العلماء على كفر المستهزئ بالدين
أيها المؤمنون، والحكم بكفر المستهزئين بالدين من المسائل المجمع عليها بين علماء المسلمين، قال الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب رحمه الله فيمن هزل بشيء فيه ذكر الله أو القرآن أو الرسول؛ إنه يكفر بذلك، لاستخفافه بجناب الربوبية والرسالة، وذلك منافٍ للتوحيد، ولهذا أجمع العلماء على كفر من فعل شيئا مِن ذلك.
فمن استهزأ بالله أو بكتابه أو برسوله أو بدينه كَـــفَـــرَ، ولو هازلا لم يقصد حقيقة الاستهزاء، إجماعا[7]. انتهى.
الترهيب من الاستهزاء بالدين
فالواجب يا معاشر المؤمنين هو الحذر من زلات اللسان، فهو أكثر ما يدخل الناس النار، كما في حديث معاذ رضي الله عنه لما سأل النبي (صلى الله عليه وسلم): وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: ثَــــكِـــــلَــــتْــــكَ أمك[8] يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم – أو قال: على مناخِـــرِهم – إلا حصائد ألسنتهم؟![9]
وفي الحديث: إن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها في جهنم.[10]
وفي التنزيل ويل لكل همزة لمزة، وقوله ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد.
أمثلة تطبيقية على الاستهزاء بالدين
عباد الله، والاستهزاء بالعلماء والمصلحين وأهل الحسبة نوع من الاستهزاء بالدين، لأن العلماء ورثة الأنبياء، وهم حملة الدين، فمن استهزأ بعالم لكونه عالـما فقد كفر، أو استهزأ بمحتسب لأنه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فقد كفر، والواجب توقير العلماء والمحتسبين واحترامهم، لأن الله رفع قدرهم في القرآن، فيجب على المؤمن أن يوقر من وقره الله تعالى ورسولُه (صلى الله عليه وسلم)، قال تعالى يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات، وقال النبي (صلى الله عليه وسلم): ... إنه ليَستغفر للعالم من في السماوات والأرض، حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، إن العلماء هم ورثة الأنبياء، لم يورثوا دينارا ولا درهما، وإنما ورَّثوا العلم، فمن أخذ به أخذ بحظ وافر.[11]
معاشر المؤمنين، ويدخل في الاستهزاء بالدين الاستهزاء باتباع سنة النبي (صلى الله عليه وسلم)، ومن ذلك الاستهزاء بإعفاء اللحية أو تقصير الثوب إلى الكعبين أو التسوك بالسواك أو لبس الحجاب والعباءة ونحو ذلك.
ومن الاستهزاء أيضا؛ الاستهزاء ببعض الأمور الغيبية والاستخفاف بها، كالاستهزاء بالجنة أو النار، كقول: ما الجنة؟ ما النار؟ ونحو ذلك.
ومن الاستهزاء؛ الاستهزاء ببعض الأمور العقدية، كعدالة الصحابة، وعِفة عائشة رضي الله عنها، زوج النبي (صلى الله عليه وسلم)، وهذا كفر، لأنه يقتضي تكذيب القرآن، فقد أثنى الله تعالى على صحابته ورضي عنهم كما في سورة التوبة[12] وسورة الفتح[13] وسورة الحشر[14]، كما شهِد لعائشة أم المؤمنين رضي الله عنها بالعفاف، والبراءة مما قذفها به المنافقون، فهل بعد هذا يجوز أن يأتي من يأتي ويهزأ بالصحابة ويطعن في فراش النبي (صلى الله عليه وسلم)، وكأن الله اختار لنبيه أصحابا غير صالحين وزوجة غير صالحة؟ حاشا الله من ذلك!
أيها الناس، والاستهزاء يشمل الاستهزاء الصريح من كلام أو فعل أو كتابة في جريدة أو وسيلة من وسائل الاتصالات، ويشمل أيضا الاستهزاء الغير صريح، كالغمز بالعين، والإشارة باليد، وإخراج اللسان، ونحو ذلك.[15]
فالاستهزاء ليس له حد قليل يعفى عنه، فقليله كثير عياذا بالله، أيا كان ذلك الاستهزاء.
واجب المسلمين وولاة الأمور تُجاه من استهزء بالدين
أيها الناس، والاستهزاء بالله تعالى أو بنبيه (صلى الله عليه وسلم) أو دينه يوجب هدر دم فاعله من قِبَل ولي الأمر.
عباد الله، ويجب على من سمع أحدا يستهزئ بالله أو برسوله أو بدينه أن ينكر عليه ولا يسكت، أو يقوم ويفارق المجلس، لأن الجلوس إلى هؤلاء عن رضى موجب للكفر والخروج من الإسلام كما قال تعالى وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم إن الله جامع الكافرين والمنافقين في جهنم جميعا، فتأمل أيها البصير، فكما اجتمعوا في مجالس الدنيا على الاستهزاء بالدين؛ كانت عقوبتهم الاجتماع في الآخرة في جهنم عياذا بالله.
وبعد عباد الله، فهذه مقدمة نافعة في بيان وجوب توقير الشريعة، وتوقير مُــنَـــزِّلِــــها وهو الله، وتوقير ناقلها وهم الأنبياء، وتوقير حاملها وهم العلماء والمصلحون، فمن خالف هذا الطريق فهو على خطر عظيم.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الاستهزاء بالدين من صفات الكفار عموما، واليهود والمنافقين خصوصا
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد، فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن الاستهزاء بالدين من صفات اليهود، فهم الذين استهزءوا بالله تعالى وقالوا يد الله مغلولة، وقالوا إن الله فقير ونحن أغنياء، وغير ذلك.
كما أن الاستهزاء بالمؤمنين من صفات الكفار، وقد سَّمى الله استهزائهم إجراما فقال إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون * وإذا مروا بهم يتغامزون * وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين * وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون.
كما أن الاستهزاء بالمؤمنين من علامات النفاق، ومن صفات المنافقين، الذين يظهرون الإيمان، ويبطنون البغض لشريعة الرحمـٰن، ومنهم العلمانيون والليبراليون وأشباههم، وهم يستهزئون بالآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، ويستهزئون بالحجاب، ويستهزئون بالتداوي ببعض ما ورد في السنة النبوية كأبوال الإبل، وبحمد الله، فقد رد الله عليهم كيدهم لم ينالوا خيرا، فقد صدرت بحوث طبية معتمدة من هيئات طبية غربية غير مسلمة تشهد لصحة التداوي بأبوال الإبل كما جاء في السنة النبوية.
خاتمة الخطبة
ثم اعلموا رحمكم الله أن الله سبحانه وتعالى أمركم بأمر عظيم فقال إن اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تسليما، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض عن أصحابه الخلفاء، الأئمة الحنفاء، وارض عن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم إنا نسألك عيشا قارا، ورزقا دارا، وعملا بارا. اللهم إنا عوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وفجأة نقمتك وجميع سخطك. اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا ما أحييتنا، واجعلهن الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. اللهم صل وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
المراجع
- «تيسير الكريم الرحمـٰن في تفسير كلام المنان»، تفسير سورة التوبة: 65 .
- قوله (قُــرَّاء) جمع قارئ، وهو من يتلو القرآن، وُصِفوا بذلك لأنهم كثيرو التلاوة للقرآن.
- أي أكثرنا رغْبةً وحُباً للأكْل وملْء البُطون.
- حَـقَبُ الناقة هو الحبل المشدود عليها مما يلي الذيل.
- (تنْكِـــــبُهُ الحجارةُ) أي تُصيبُ قدميه.
- الحديث حسنه الشيخ مقبل الوادعي رحمه الله في «الصحيح المسند من أسباب النزول»، ص 126 .
- «تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد»، شرح باب: من هزل بشيء فيه ذكر الله أو القرآن أو الرسول.
- ثَـكِـلتكَ أمك أي فقدتك أمك، وهو من الألفاظ التي تجري على ألسنة العرب ولا يراد بها حقيقة الدعاء، وإنما تهويل الأمر وتفخيمه، وانظر «النهاية».
- رواه أحمد (5/231) وغيره، وصححه محققو «المسند» بشواهده برقم (22016).
- رواه البخاري (6478) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
- أخرجه أحمد (5/196) وغيره، وقال محققو «المسند»: حسن لغيره.
- آية 100 .
- آية 29 .
- الآيات 8 – 9 .
- قاله الشيخ حمد بن عتيق رحمه الله في كتابه «سبيل النجاة والفكاك».