البحث
الناقص السابع: الكهانة
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلـٰه إلا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
أما بعد، فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
تَــفَــرُّدُ الله بصفة علم الغيب
عباد الله، اتقوا الله تعالى وراقبوه، وأطيعوه ولا تعصوه، واعلموا أن توحيد الله يتضمن إفراده بتوحيد الأسماء والصفات، ومن تلك الصفات؛ صفة علم الغيب له جل وعلا، واختصاصه بعلم الغيب أمرٌ ثابتٌ بالكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب فقوله تعالى (قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الغَيْبَ إِلاَّ اللَّه). وأما السنة؛ فعن خالد بن ذكوان عن الرُّبـيِّع بنت مُعوِّذ أن النبيَّ (صلى الله عليه وسلم) سمع جارية[1] تقول: وفينا نبيٌّ يَعلمُ ما في غَدِ. فقال: أَمَّا هٰذَا فَلاَ تَقُولُوهُ، مَا يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ إِلاَّ اللَّه.[2]
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنَّ رسولَ الله (صلى الله عليه وسلم) قال: مفاتيحُ الغيب خمسٌ لا يعلمها إلاَّ الله: لا يَعلمُ ما في غَدٍ إلا الله، ولا يَعلمُ ما تَغِيضُ[3] الأرحامُ إلا الله، ولا يعلمُ متى يأتي الـــــــــــــــــــــمطرُ أحدٌ إلاّ الله، ولا تـدري نفسٌ بأيِّ أرضٍ تموت، ولا يعلمُ متى تقومُ الساعة إلا الله.[4]
فاختصاص الله بعلم الغيب صـفة ثابتة له وحده لا شريك له، لا يشاركه فيها أحد، لا ملك مُقرب ولا نبي مرسل، فمــــن ادَّعاها لنفسه أو لغيره فقد شرَّك بين الله وبين خلقه فيما هو من خصائص الله وحده، وشبَّهه به، ووقع في الشرك الأكبر، وقد قال إمام أهل السنة في زمانه نُعَيم بن حماد الخزاعي: من شبَّه الله بخلقه فقد كفر.
تعريف الكاهن والعراف
عباد الله، وقد ادعى أقوام مشاركة الله بصفة علم الغيب، تعالى الله عن ذلك، وهم الكهنة والعــــرَّافون، والكاهن هو الذي يدَّعي معرفة المغيَّبات في المستقبل، والعراف اسم عام للكاهن والمنجم والرَّمَّال ونحوهم، ممن يدَّعي معرفة الغيب، وكلمة العرَّاف صيغة مبالغة من (عَـرَفَ)، قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله: الكَهانة: فَعَالةٌ، مأخوذة من الكَـهْن، وهو التَّـــخَــرُّص والتماس الحقيقة بأمور لا أساس لها، وكانت في الجاهلية صَنعةً لأقوام تتصل بهم الشياطين وتسترق السمع من السماء وتحدثهم به، ثم يأخذون الكلمة التي نُقلت إليهم من السماء بواسطة هؤلاء الشياطين، ويُضيفون إليها ما يُضيفون من القول الباطل، ثم يُـحدِّثون بها الناس، فإذا وقع الشيء مطابقا لما قالوا اغتر بهم الناس، واتَّـخذوهم مرجعا في الحكم بينهم، وفي استنتاج ما يكون في المستقبل. ولهذا نقول: الكاهن هو الذي يخبر عن المغيَّبات في المستقبل. انتهى كلامه رحمه الله.
مصادر الكهان في ادعاء علم الغيب
أيها المؤمنون، والكاهن يسلك أحد طريقين في ادعاء علم الغيب؛ أما الطريق الأول فهو الأخذ عن الشياطين التي تسترق السمع من السماء من كلام الملائكة، ودليله ما جاء في صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها مرفوعًا: إن الملائكة تنـزل في العَنان، وهو السحاب، فتَــذْكُـــرُ الأمر قُضي في السماء، فتسترق الشياطين السمع فتسمَعه، فتوحيه إلى الكهان، فيكذبون معها مائة كذبة من عند أنفسهم.[5]
فالكاهن، عباد الله، يُبلِغ من أتاه من الناس تلك الكذبة، فإن كان في كلامه كلمةُ صدقٍ فهي من سرقاته وليس من اطلاعه على الغيب، وربما افتُتن من أتى الكاهن بتلك الكلمة الصادقة ولم يعتبر بما خلط معها من الكذبات، وإن كان كل كلامه كذبا فربما انطلى كل الكلام على السائل.
أما الطريق الثاني من طرق تلقي الكاهن فهو الاستعانة بالجن، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: سأَلَ أناسٌ رسولَ الله (صلى الله عليه وسلم) عن الكهان، فقال لهم: ليسـوا بشيء. قالوا: يا رسولَ الله، فإنهم يُحدِّثون أحياناً بالشيء يكون حقاً. فقال لهم: تلكَ الكلمةُ من الحقِّ يَـخطِــفُها الجني فيَقُـرَّها في أُذنِ وَليِّهِ[6] قرَّ الدجاجة، فيَخلِطون فيها أكثرَ من مائةِ كِذبة.[7]
فهذا دليل على أن الكهان يتصلون بالجن ، فإذا اتصل الإنسان بالكاهن وسأله عن ذلك المفقود أخبر الجني الشرير ذلك الكاهن بمكان تلك الضالة ، ثم يخبر الكاهن الإنسان بمكانها ويخلط معها مائة كذبة ، فإذا رأى الإنسان صدق ذلك الكاهن في تلك الكلمة الصادقة صدَّقه في كل ما قاله وظن أن عنده علما بالغيب.
ومن طرق تلقي الكاهن هو الاستعانة بالقرين من الجن، فإن لكل إنسان قريناً من الجن يأمره بالخير وقريناً من الجن يأمره بالشر، كما ثبت هذا في الصحيح عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : ما منكم من أحد إلا وقد وكَّـلَ الله به قرينه من الجن.[8]
وفي لفظ: وقد وُكِّل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة.[9]
فالكهان يستعينون بهم، لأنهم يخبرون الشخص بما يتعلق به من الأمور الخاصة التي يطَّلع عليها القرين، كمكان عمله واسم زوجـه وأمه واسم بلده وعنوان بيته، ونحو ذلك مما يعرفه القرين.[10]
عباد الله، والكاهن يعبد الشيطان الذي يتصل به في مقابل خدمته له، وهذا هو مبتغى الشياطين، فهي لا تبغي من وراء بني آدم إلا إغواءهم، لأن هذه هي وظيفتهم ورسالتهم، فيقع في شِراكِهِم السحرة والكهنة والعرافون، فهم شياطين الإنس، وأولئك شياطين الجن، نعوذ بالله من شرورهم.
عباد الله، ومن اللطيف أن بعض الذين يعالجون بالرقى الشرعية ويعرفون ألاعيب السحرة والكهنة يقولون: إذا أردت فضح الكاهن فاسأله عن شيء لا تعرفه أنت، فإنك إن لم تكن تعرفه أنت فلن يعرفه قرينك من الجن من باب أولى، ومن ثَم فلن يهتدي الكاهن إلى شيء، كأن تأخذ شيئا من الحصى من الأرض وتقبضه بيدك، ثم تسأل الكاهن: كم في يدي من الحصى؟ فعندها سيتهرب ولن يجيب، لأن قرينك من الجن لا يعرف فمن أين سيأتي الكاهن بالجواب؟!
فالحاصل أن الكهان يَفزَعون إلى الـجن في أمورهم، ويستفتونهم في الـحوادث، فيُلقون إليهم الكلمات، وقد يتوافق ما يُـخبِـر به الكاهن مع القدَر، فيظن مَن سمعه أن الكاهن قد كُشِف له شيء من الغيب، فيفتتن به، ويظنه الجاهل كشفاً وكرامة، وأن ذلك الكاهن ولــيٌّ من أولياء الله، وهو من أولياء الشيطان، كما قال تعـالى عنهم في سورة الشعراء (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنـزلُ الشَّيَاطِين * تَنـزلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيم * يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُون).
ممن يدَّعي علم الغيب المُنجِّــمون
معاشر الموحدين، وممن يدَّعي علم الغيب المنجمون، والمنجم هو الذي يستدل على معرفة الحوادث المستقبلية بحركة النجوم بزعمه، كأوقات هبوب الرياح ومجيء المطر وظهور الحر والبرد وتغير الأسعار ونحو ذلك، فهم يزعمون أنهم يعرفون ذلك بسير الكواكب في مجاريها، وباجتماعها واقترانها، وأن ذلك له تأثير في السُّفليات، وهذا ما يسمى بعلم التأثير، ومدَّعيهُ ربما سُــمِّي بالحازي، والمنجم في هذه الحالة يخاطب النجوم، فيصور له الشيطان صورة يستدل بها على ما تقدم، وهذا كله من الخرافة.
عباد الله، ويدخل في التنجيم استخدام الحروف الأبجدية (أبا جاد) مربوطة بسير النجوم لمعرفة الحوادث المستقبلية، وهو الذي عناه ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: إن قوما يحسِبون (أبا جاد)، وينظرون في النجوم، ولا أرى لمن فعل ذلك من خَلاَق.[11].[12]
ومن مظاهر التنجيم؛ ما يدعيه بعض الفلكيين من المنجمين من معرفة ما سيحدث للإنسان في المستقبل، وينشرون هذا في الصحف والمـجلات، فيزعمون أن من وُلِد في برج كذا من بروج النجوم، كبرج العقرب مثلاً، فطالِـعُه نحسٌ، أي حظه نحس، ومن وُلِد في برج الميزان – مثلا - فطالعه سعيد، وهَلمَّ جَـرَّا.
عباد الله، وحكم التنجيم داخل في حكم السحر، فالجامع بينهما الاتصال بالشياطين،
والدليل على ذلك حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال
قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): مَنِ اقْتَبَسَ عِلْماً مِنَ النُّجُومِ؛ اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنَ السِّحْرِ، زَادَ مَا زَاد.[13]فقوله (اقتبس) أي تعلَّم، وقوله (شعبة من النجوم) أي طائفة من علم النجوم ويُسمى علم التأثير، أي تأثير حركة النجوم في الحوادث الأرضية، وقوله (فقد اقتبس شعبة من السحر) أي أنه وقع في نوع من أنواع تعاطي السحر، وقوله (زاد ما زاد): أي أن فاعل ذلك – أي التنجيم - قد زاد في تعلم شعب السحر بمثل ما زاد من اقتباس علم النجوم.
أدلة النهي عن إتيان الكهنة والعرافين والمنجمين
عباد الله، إن من خصائص الشريعة الإسلامية أنها تنفي الشرك والخرافة والدجل، فلهذا حرمت الذهاب للكهان لِما يترتب على إتيانهم من المفاسد الدينية العظيمة، ورتبت الوعيد الشديد في حق من أتى عرافاً أو كاهنًا ولو لمجرد السؤال، فقد روى مسلم عن صفية رضي الله عنها عن بعض أزواج النبي (صلى الله عليه وسلم) عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: مَنْ أتىٰ عَرَّافاً فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلاَةُ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً.[14]
فالوعيد الوارد في هذا الحديث منطبق على من أتى العراف فسأله مجرد سؤالٍ دون أن يُصدِّقه، فهذا لا تقبل له صلاة أربعين يوما، ولكنه لا يكفر.
وأما من سأل الكاهن والعراف وصدقهما فقد كفر وخرج من ملة الإسلام، لأنه لما صدقهما اعتقد لزاما أنهما شاركا الله تعالى في شيء من صفاته الخاصة به وهي صفة علم الغيب، فكذَّب القرآن، فكفر عياذا بالله، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: من أتى كاهنًا أو عرافًا فصدقه بما يقول؛ فقد كفر بما أُنـزل على محمد (صلى الله عليه وسلم).[15]
وعن عمران بن حصين رضي الله عنه قال
قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): ليس منا من تَـطـيَّر أو تُطُــيِّرَ [16]له، أو تَــكهَّــنَ أو تُــكُـهِّنَ له، أو سَحَرَ أو سُحِرَ له، ومن أتى كاهناً فصدَّقه بـما يقول فقد كفر بما أُنـزل على محمد (صلى الله عليه وسلم).[17]
بيان من أكثر من تنتشر بينهم الكهانة
عباد الله، وأكثر من تنتشر بينهم الكهانة هم الصوفية، فأكثر مشايخهم ما بين كاهن وعراف، لأنهم قوم يدَّعون الولاية والكرامة لمشايخهم، وادِّعاء علم الغيب عندهم من مستلزمات الولاية والكرامة، ويسمونه بـ «الكشف»، ولا يسـمونه ادِّعاءً لعلم الغيب لئلا يُفتضـح أمرهم.
وبعد عباد الله، فهذه مقدمة نافعة في بيان وجوب الحذر من الوقوع في الكهانة، عملا أو تعاطيا أو مجرد رضًا قلبيٍّ بالفعل، وبيان كفر الكاهن والعراف ومن أتى إليهما.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية في بيان ما يلتحق بالكهانة
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد، فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن مما يَلتحق بالكهانة الطَّرق، وهو ضرب من ضروب الكهانة التي كان العرب يتوصلون بها لمعرفة المغيبات بزعمهم، والطَّــــــرْق مِن الطريق، مِن طَرَقَ الأرض يطرقها إذا سار عليها، فهم يخطون خطوطا عليها كأنهم يَطرقونها أي يمشون عليها، ثم يخبرون من أتاهم بما يدعونه من علم الغيب بحسب ما ظهر لهم من تلك الخطوط المرسومة على الأرض - بزعمهم.
ومما يلتحق بالكهانة ما يُسمى بالرَّمل، وفيه أن الكاهن يخط بيده على الرمل، ثم يدعي معرفة الغيب عن طريق ذلك، ويسمى (الرَّمَّال).
ومما يَلتحق بالكهانة أيضا الضرب بالحصى، فإذا سُئِل الكاهن عن حادثة أخرج حصيات معه، فضرب بها على طريقة مخصوصة، فيتبين له – بزعمه الكاذب – جواب السؤال.
ومما يُلحَق بالطرق في هذا الزمان «زهر الطاولة»، و «الدومينو»، وهـٰذان يقومان على التنبؤ بما سيكون في المستقبل عن طريق الأرقام المكتوبة على الزهر، ومن ذلك أيضا قراءة «الكوتشينة» والضرب بحبات الفول.
ومن أنواع الكهانة قراءة الفنجان، أي فنجان القهوة، فإن الكاهن يعتمد على ما بقي فيه من القهوة، فيرسم بـها على جوانب الفنجان خطوطا، ثم يتنبأ بـما فيه، ويزعم أنـه سيكون كذا وكذا.
ومن أنواع الكهانة قراءة النار، فإن الكاهن ربما استدل بزعمه على ما سيقع في المستقبل بصور الجمر وتَـلَهُّبِ النار.
ومن أنواع الكهانة أيضا قراءة الكف، والتي يعتمد فيها الكاهن على خطوط الكف، وما فيها من تقاطعات وتعرجات واتصالات، ثم يزعم أنه سيكون كذا وكذا.
ومما يُلحق بالكَهانة؛ العِيافة، وهي خصوص زجر الطير، فإذا انبعث الطائر يمينا تفاءلوا، وإذا انبعث شمالا تشاءموا، وهذا من التكهُّن.
ولا شك أن العيافة باطلة، حيث أن الطير خلقٌ من خلق الله، ليس له تأثير ولا تدبير، بل هو مُدبَّر مربوب، كما قال تعالى ﴿ألم تر إلى الطير مسخرات في جو السماء ما يمسكهن إلا الله﴾، وقال عز وجل ﴿أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن ما يمسكهن إلا الرحمـٰن إنه بكل شيء بصير﴾.
ومما يُلحق بالكَهانة؛ الطِّـيرة، وهي عموم التشاؤم، سواء كان من مرئي أو مسموع، والطيرة في الأصل من التطير، وهو التفاؤل أو التشاؤم من اتجاه الطير إذا زجروه، فإذا انبعث يمينا تفاءلوا، وإذا انبعث شمالا تشاءموا، فالطيرة في أصلها اللغوي هي العيافة، ثم توسع مفهومها فتضمنت عموم التشاؤم، حتى تشاءموا من أشياء كثيرة، من طيور وحيوانات وآدميين وأرقام، كالتشاؤم من رؤية البوم والغراب، ومن رقم 13، وتشاءموا من رؤية الأعور والأحول والأعرج، فإذا رأى أحدهم أعورا أو نحوه قال هذا يوم سوء، فأغلق دُكانه، ولم يبع ولم يشتر ذلك اليوم، وكأنه تيقن بحدوث بلاء عليه ذلك اليوم، وإذا أصابت الإنسان حِكَّةٌ في يده اليمنى قالوا سيحصل كذا، وإذا أصابته في اليسرى قالوا سيحصل كذا، وغير ذلك من الأمور التي لم يجعل الله فيها شؤما فجعلوها شؤما، وصيروا يومهم ذاك شؤما وتعاسة، بينما لم يجعله الله كذلك، وكأنهم ادَّعوا مشاركة الله في معرفة ما سيكون في ذلك اليوم اعتمادا على أمور جعلوها أسبابا وهي في الحقيقة ليست أسبابا لحصول ذلك الأمر المكروه الذي توقعوا حصوله.
والطيرة حرام بل شرك، يدل لهذا حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): من ردَّته الطيرة عن حاجته فقد أشرك. قالوا: يا رسول الله، ما كفارة ذلك؟ قال: أن يقول أحدهم: اللهم لا خير إلا خيرك، ولا طير إلا طيرك، ولا إلـٰه غيرك.[18]
ومن أدلة بطلان التطير أيضا قول النبي (صلى الله عليه وسلم): لا عدوى ولا طيرة ولا هامَة ولا صفَر. فقوله (ولا طيرة) دليل صريح على نفي حقيقة الطيرة.
فالحاصل أيها المؤمنون أن أنواع الكهانة كثيرة، إلا أن الكهان تجمعهم دعوى علم الغيب، وتتفرق بهم طرقه، وبعضهم يكون عنده اتصال حقيقي بالشياطين، وبعضهم يدعي ذلك مجرد دعوى لِـيُـغَـرِّر بالناس، عافانا الله من شرهم.
ثم اعلموا رحمكم الله أن الله سبحانه وتعالى أمركم بأمر عظيم فقال إن اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تسليما، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض عن أصحابه الخلفاء، الأئمة الحنفاء، وارض عن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. اللهم احفظ علينا عقيدتنا، واحفظ علينا أمننا، واحفظ علينا رزقنا.
اللهم إنا نعوذ بك من شر الأشرار، ومن كيد الفجار، ومن طوارق الليل والنهار، إلا طارقا يطرُق بخير يا رحمـٰن.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
سبحان ربنا رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين. اللهم صل وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
المراجع
- الجارية هي البنت الصغيرة.
- رواه ابن ماجه (1897)، وصححه الألباني رحمه الله، وأصله في البخاري (5147).
- الغيضُ هو النقص، والمقصود هو أن الله متفرد بعلم ما نقص من حمل المرأة عن تسعة أشهر، وهو يعلم كذلك كم يزيد حملها عن تسعة أشهر إن حملت، قال تعالى الله يعلم ما تحمل كل أثنى وما تغيض الأرحام وما تزداد، انظر تفسير الآية في «تفسير القرآن العظيم» لعماد الدين ابن كثير رحمه الله، سورة الرعد.
- أخرجه البخاري (4797).
- رواه البخاري (3210).
- أي وليه من الكهان، سمي وليا لكونه يواليه.
- رواه البخاري (6213) ومسلم (2228)، واللفظ للبخاري.
- رواه مسلم (2814).
- المصدر السابق.
- انظر ما قاله ابن حجر رحـمه الله في «فتح الباري» ، شرح حديث (5758) ، وكذا ما قاله الشيـخ سليمان بن عبد الله بن مـحمد بن عبد الوهاب رحمهم الله جميعًا في «تيسير العزيز الحميد» ، باب ما جاء في الكهان ونحوهم.
- خلاق أي نصيب ، يعني نصيب في الآخرة ، ومعنى الكلام أن فاعل ذلك قد هلك لوقوعه في الكفر.
- رواه عبد الرزاق في «مصنفه» برقم (19805) واللفظ له، والبيهقي في «السنن الكبرى» (8/139).
- رواه أحمد (1/311)، وأبو داود (3905)، وابن ماجه (3726)، وحسنه الألباني كما في «الصحيحة» (793).
- رواه مسلم (2230).
- رواه أحمد (2/429) وغيره، وحسنه محققو «المسند».
- التطير في الأصل هو التفاؤل أو التشاؤم من اتجاه الطير إذا زجروه، فإذا انبعث يمينا تفاءلوا، وإذا انبعث شمالا تشاءموا، ثم توسع مفهومها فصارت تعني عموم التشاؤم.
- رواه البزار كما في «كشف الأستار» (3044)، و الطبراني في «الكبير» ( 18/162)، ولفظه: عن عمران بن حصين أنه رأى رجلا في عضده حلقة من صُفْرٍ (أي النحاس الأصفر)، فقال له: ما هذه؟ قال: نُـعِـــتت لي من الواهنة. قال: أمَا إن مِتَّ وهي عليك وُكِلت إليها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس منا من تطير أو تطير له ... الحديث. قال الهيثمي: رواه البزار ورجاله رجال الصحيح خلا إسحاق بن الربيع وهو ثقة. انظر «مجمع الزوائد» (5/117). ورواه البزار أيضًا عن ابن عباس رضي الله عنهما كما في «كشف الأستار» (3043)، وصححه الألباني في «صحيح الجامع الصغير» (5435) و «السلسلة الصحيحة» (2195).
- رواه أحمد (2/220)، وحسنه محققو «المسند».