البحث
الناقض التاسع_ اعتقاد جواز الخروج عن شريعة الإسلام
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلـٰه إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون)
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبا)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيما)
أما بعد، فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
شريعة الإسلام عامة لجميع الثقلين
عباد الله، اتقوا الله تعالى وراقبوه، وأطيعوه ولا تعصوه، واعلموا أن شريعة الإسلام عامة لجميع الثقلين؛ الإنس والجن، إلى يوم القيامة، قال تعالى لنبيه قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا، وكلمة الناس تشمل الإنس والجن.
وقال (صلى الله عليه وسلم): أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أحَدٌ قَبْلِي؛ وذكر منها: وكانَ النبيُّ يُبْعَثُ إلى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وبُعِثْتُ إلى النَّاسِ عامة.[1]
أخَذ الله الميثاق على جميع الأنبياء باتباع النبي (صلى الله عليه وسلم) إن أدركوه والدخول في شريعته
معاشر المؤمنين، لقد أخذ الله الميثاق على الأنبياء كافة بأنهم إن أدركوا النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) أن يتبعوا شريعته وينصروه، قال تعالى وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما أتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال ءأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين * فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون * أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون.
ورأى النبي (صلى الله عليه وسلم) في يد عمر رضي الله عنه أوراقا من صُحُفِ أهل الكتاب فغضب وقال: والذي نفسي بيده، لو أن موسى حيا ما وسِعَه إلا أن يتبعني.[2]
وثبت في السنة الصحيحة أن عيسى ابن مريم إذا نزل في آخر الزمان فإنه سيكون متبعا لشريعة الإسلام، حاكما بها.[3]
شريعة الإسلام ناسخة لما قبلها من الشرائع
عباد الله، وشريعة الإسلام ناسخة لما قبلها من الشرائع، أي مُـلغِـية للأحكام الواردة في الشرائع التي قبلها إلا ما أقره القرآن، قال تعالى وأنزلنا إليك الكتاب مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه، أي: وأنزلنا إليك أيها الرسول القرآن، وكل ما فيه حقّ يشهد على صدق الكتب قبله، وأنها من عند الله، مصدقًا لما فيها من صحة، ومبيِّنًا لما فيها من تحريف، ناسخًا لبعض شرائعها.
تأصيل أن شريعة الإسلام ممتدة إلى قيام الساعة
عباد الله، والشريعة الإسلامية ممتدة من بعثة النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) إلى قيام الساعة، بخلاف الشرائع السابقة، فإنها مؤقتة إلى حين ظهور الشريعة التي بعدها، ثم تنسخها، وهكذا.
خلاصة في ختم الشريعة بالإسلام، والأنبياء بمحمد، والكتب بالقرآن
وخلاصة القول إن الشرائع مختومة بالإسلام، والأنبياءَ مختومون بمحمد (صلى الله عليه وسلم)، والكتبَ مختومة بالقرآن، وأممَ الإجابة مختومون بأمة الإسلام.
اعتقاد جواز الخروج عن شريعة الإسلام من نواقض الإسلام
عباد الله، وبناء على ما تقدم من الأدلة، فإن الدخول في دين الإسلام والانقياد له يعتبر من الأمور المعلومة من الدين بالضرورة، لا يسع أحدا قطُّ جهلُها، فمن ظن أن أحدا يسعه الخروج عن شريعة الإسلام فهو كافر، ولو صلى وصام وزعم أنه مسلم، فمن قال إنه يجوز للإنسان أن يتعبد الله باليهودية أو بالنصرانية أو بغيرها؛ فقد كفر عياذا بالله، لأنه عارض الأمر الإلـٰهي، ورد الخبر القرآني، ودليل هذا الناقض قوله تعالى (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: فأما محمد بن عبد الله بن عبد المطلب فهو رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلى جميع الثقلين، الجنِّ والإنس، عربِـهم وعجمِهم، دانيهِم وقاصيهِم، ملوكِهم ورعيتِهم، زهادِهم وغير زهادِهم، وهو خاتمُ الرسل، ليس بعده نبي ينتظر ولا كتاب يرتقب، بل هو آخر الأنبياء، والكتاب الذي أُنزِل عليه مصدقٌ لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه، فمن اعتقد أن لأحد من جميع الخلق خروجا عن اتباعه وطاعته وأخذِ ما بُعث به من الكتاب والحكمة؛ فهو كافر. انتهى كلامه باختصار.[4]
وقال أيضا رحمه الله: فإن ظن أن غير هدى النبي (صلى الله عليه وسلم) أكمل من هديه، أو أن من الأولياء من يسعه الخروج عن شريعة محمد؛ فهذا كافر يجب قتله بعد استتابته. انتهى باختصار.[5]
بيان بعض من انحرف من الطوائف ووقع في هذا الناقض
عباد الله، وقد وقع في هذا اللون من الاعتقاد، أي اعتقاد أن أحدا يسعه الخروج عن شريعة الإسلام؛ بعض طوائف الصوفية، الذين استزلهم الشيطان فجوَّزوا لبعض رموزهم ترك اتباع النبي (صلى الله عليه وسلم) إذا بلغ مرتبة معينة من المعرفة بالله – بزعمهم -، ولا شك أن قولَـهم هذا باطل، فالأنبياء هم أعرف الخلق بالله، وكذلك الصحابة الكرام، ومع ذلك فإنهم عبدوا ربهم حتى جاءهم الموت، ولم يترك أحد منهم الفرائض البتة، ولم يستحل المحرمات، بل بعضهم قد مات راكعا أو ساجدا أو صائما أو ذاكرا أو قارئا للقرآن، وهذا هو معنى سؤالهم الله حسن الخاتمة، نسأل الله ذلك.
ومن الأدلة على بطلان قولهم أيضا قوله تعالى واعبد ربك حتى يأتيك اليقين، واليقين هو الموت، كما فسره بذلك المفسرون.
بل إن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قد غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ومع هذا فلم يترك التكاليف، وكان يتزود من الطاعات مع أنه أتقى الناس لله وأعبدُهم له، فقد كانَ يُصَلِّي حتَّى تَرِمَ قَدَمَاهُ، فيُقَالُ له، فيَقولُ: أفلا أكُونُ عَبْدًا شَكُورًا.[6]
عباد الله، ومما ينبغي أن يُفطن له أنه يدخل في هذا الناقض الذين يقولون: (إن الشريعة إنما هي للزمان الماضي، أما الوقت الحاضر فلا تصلح له الشريعة، لأنها حدثت معاملات وجدّت أمور لا تتناولها الشريعة)، وهذا معناه أن الشريعة عندهم قاصرة، وهذا كلام باطل، فشريعة الإسلام صالحة لكل زمان ومكان إلى أن تقوم الساعة، ليس فيها قصور ولا نقص ولا خطأ، لأنها من لَـدُن حكيمٍ خبيرٍ بمصالح خلقه، رحيمٍ بهم، وقد حكم الله سبحانه وتعالى للشريعة الإسلامية بالكمال فقال (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا)، ومن كمالها أنها صالحة لكل زمان ومكان، فالذي يتهم الشريعة بالنقص يلزم من كلامه تنقص مُـشَـرِّعها وهو الله سبحانه، تعالى الله عن ذلك، كما أن الذي يتهم الشريعة بالنقص لم يؤمن بما تدل عليه الآية الكريمة، فالآية تقول إن الشريعة كاملة وهو يقول إنها ناقصة، فيكون كافرا عياذا بالله.[7]
وبعد عباد الله، فهذه مقدمة نافعة في وجوب لزوم شريعة الإسلام، وبطلان اعتقاد جواز الخروج عليها.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه كان للتوابين غفورا.
الخطبة الثانية
الإيمان ببعض الشرائع والكفر ببعضها داخل في الخروج عن شريعة الإسلام
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد، فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن الإيمان ببعض الكتاب والكفر ببعضه، أي الإيمان ببعض الشرائع والكفر ببعضها، أو الإيمان ببعض الرسل والكفر ببعض؛ يعتبر من الخروج عن شريعة الإسلام، ولو زعم فاعلُ ذلك أنه لم يخرج عن الشريعة كلها، فقد أنزل الله الكتب وأرسل الرسل ليؤمن الناس بها كلها بقلوبهم، فمن رد شيئا منها فقد كفر، قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَٰلِكَ سَبِيلًا * أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا).
عباد الله، ويدخل في ذلك من قال إنه يؤمن بالقرآن ولا يؤمن بالسنة النبوية، فهذا من نواقض الإسلام، لأن من رد الوحيين أو أحدهما فقد كفر، أو قال إنه يؤمن بالقرآن ولا يؤمن بما فيه من عدالة الصحابة وطهارة زوجات النبي (صلى الله عليه وسلم)، أو نادى بما ينادي به العلمانيون من وجوب فصل الدين عن مناحي الحياة، وقولهم إن الناس يسعهم الخروج عن الشريعة في السياسة والمعاملات، والاكتفاء بالعبادات الخمس، فهذا من الإيمان ببعض الشرائع والكفر ببعضها، فمن وقع في هذا فقد انتقض إيمانه وخرج من ملة الإسلام عياذا بالله، ولو صلى وصام وزعم أنه مسلم، لأن حقيقة اعتقاده مصادمة الشريعة، ومعاندة رب العالمين، وإن لم يصرح بذلك بلسانه، فالعبرة بما انطوى عليه القلب من الاعتقاد.
بيان أن الجهل والكبر هما الداءان اللذان أوقعا هاتين الطائفتين في اعتقاد جواز الخروج عن شريعة الإسلام
عباد الله، والذي أوقع أصحاب هذه المقالات من المتصوفة والعلمانيين فيما وقعوا فيه هو إما الجهل أو الكِــبر، فأما الجهل فدواؤه العلم، وأما الكِــبر فدواؤه تذكر عظمة الله، واستشعار أن الإنسان مقبل على الله لا محالة، وسوف يحاسبه على تكبره عن الانقياد لشريعته.
ثم صلوا رحمكم الله على خير البرية وسيد البشرية محمد بن عبد الله، صاحب الحوض والشفاعة، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض عن أصحابه الخلفاء، الأئمة الحنفاء، وارض عن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم احفظ علينا عقيدتنا، واحفظ علينا أمننا، واحفظ علينا رزقنا.
اللهم إنا نعوذ بك من شر الأشرار، ومن كيد الفجار، ومن طوارق الليل والنهار، إلا طارقا يطرُق بخير يا رحمـٰن.
اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، ومتعنا اللهم بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا ما أحييتنا، واجعلهن الوارث منا.
اللهم لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.
اللهم إنا نسألك من الخير كله عاجله وآجله ما علمنا منه وما لم نعلم، ونعوذ بك من الشر كله عاجله وآجله، ما علمنا منه وما لم نعلم.
اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل.
اللهم إنا عوذ بك من مضلات الفتن ونزغات الشيطان.
اللهم اصلح أحوال المسلمين في كل مكان.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
سبحان ربنا رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
اللهم صل وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
المراجع
- رواه البخاري (335) ومسلم (521)، وفي الباب عن أبي هريرة، رواه مسلم (523).
- رواه أحمد (3/387) عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما، وحسنه الألباني في «إرواء الغليل» (6/34).
- انظر قصة نزول المسيح وقتله للدجال في «صحيح مسلم» (2897) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وكذا في (156) عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما، وكذا في (2937) عن النواس بن سمعان الكلابي رضي الله عنه.
- انظر «مجموع الفتاوى» (27/59).
- انظر «مجموع الفتاوى» (27/58-59)، وانظر «مجموع الفتاوى» (11/401) وما بعدها.
- انظر صحيح البخاري (1130) ومسلم (2819) عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.
- قاله الشيخ صالح بن فوزان الفوزان في كتابه: «شرح نواقض الإسلام»، ص 183 ، الناشر: مكتبة الرشد – الرياض
.