البحث
كان النبي ﷺ يحفظ المعروف لأهله من النساء ويراعيه
عن عمران بن حصين رضى الله عنه قال :
كنا في سفر مع النبي ﷺ ، وإنا أسرينا (1) حتى كنا في آخر الليل وقعنا وقعة ، ولا وقعة أحلى عند المسافر منها . فما أيقظنا إلا حر الشمس ، وكان أول من استيقظ منا أبو بكر ، ثم فلان ، ثم فلان ، ثم عمر بن الخطاب الرابع . وكان النبي ﷺ إذا نام لم يوقظ حتى يكون هو يستيقظ ، لأنا لاندرى ما يحدث له في نومه (2). فلما استيقظ عمر ورأى ما أصاب الناس ، وكان رجلاً جليداً أجوف (3). فكبر ورفع صوته بالتكبير ، فما زال يكبر ويرفع صوته بالتكبير حتى استيقظ بصوته النبي ﷺ . فلما استيقظ شكوا إليه الذى أصابهم ، قال : " لا ضير ، ارتحلوا " (4). فارتحل ، فسار غير بعيد ، ثم نزل ، فدعا بالوضوء ، فتوضأ ، ونودى بالصلاة ، فصلى بالناس . فلما انقتل من صلاته إذا هو برجل معتزل لم يصل مع القوم ، وقال : " ما منعك يافلان أن تصلى مع القوم ؟ " . قال : أصابتنى جنابة ولا ماء . قال : " عليك بالصعيد ، فإنه يكفيك " . ثم سار النبي ﷺ ، فاشتكى إليه الناس من العطش ، فنزل ، فدعا فلاناً (5) ودعا علياً ، فقال : اذهبا فابتغيا الماء . فبينما نحن نسير إذا نحن بامرأة سادلة رجليها بين مزادتين (6). من ماء على بعير لها . فقلنا لها : أين الماء . قالت : أيها أيها (7).لا ماء لكم . قلنا : فكم بين أهلك وبين الماء . قالت : مسيرة يوم وليلة . قالا لها : انطلقى إذا . قالت : إلى اين . قالا : إلى رسول الله ﷺ . قالت : الذي يقال لى الصابىء . قالا : هو الذي تعنين ، فانطلقى . فجاءا بها إلى النبي ﷺ وحدثاه الحديث ، فأخبرته مثل الذي أخبرتنا ، وأخبرته أنها موتمة لها صبيان أيتام . قال : فاستنزلوها عن بعيرها ، ودعا النبي ﷺ بإناء ، ففرغ فيه من أفواه المزادتين ، وأوكا أفوههما ، وأطلق العزالى (8) . ونودى في الناس : اسقوا ، واستقوا . فشرنبا ونحن أربعون رجلاً عطاش حتى روينا ، وملأنا كل قربة معنا وإداوة ، غير أنا لم نسق بعيراً ، وهي تكاد تنضرج (9) من الماء يعنى المزادتين . وكان آخر ذاك أن أعطى الذي أصابته الجنابة إناء من ماء ، قال : " اذهب فأفرغه عليك " . وهى قايمة تنظر إلى ما يفعل بمائها . وايم الله لقد أقلع عنها ، إنه ليخيل إلينا أنها أشد ملأة منها حين ابتدأ فيها . قال النبي ﷺ : " اجمعوا لها " . فجمعوا لها من بين عجوة ، ودقيقة ، وسويقة ، حتى جمعوا لها طعاماً كثيراً ، فجعولها في ثوب ، وحمولها على بعيرها ، ووضعوا الثوب بين يدها . قال لها : " اذهبي فأطعمى عيالك ، واعلمى أنا لم نززأ من مائك شيئاً ، [ أى لم ننقص من مائك شيئاً ] ، ولكن الله هو الذى اسقانا " . فأتت أهلها ، وقد احتبست عنهم ، قالوا : ما حبسك يافلانة . قالت : العجب ، لقيني رجلان ، فذهبا بي إلى هذا الذى يقال له الصابئ ، ففعل كذا وكذا ، فوالله إنه لأسحر الناس من بين هذه وهذه ، وقالت بإصبعيها الوسطى والسبابة ، فرفعتهما إلى السماء تعنى السماء والأرض ، أو أنه لرسول الله حقاً .
فكان المسلمون بعد ذلك يغيرون على من حولها من المشركين ، ولا يصيبون الصرم الذى هى منه (10).
فقالت : يوماً لقومها : ماأرى أن هؤلاء القوم يدعونكم عمداً ، فهل لكم في الإسلام ؟ فأطوعوها ، فدخلوا في الإسلام (11).
فقد حفظ النبي ﷺ لهذة المرأة المعروف الذى قدمتة لهم ، فراعى ذلك فيها ، فقدم لها طعاماً كثيراً ، وراعى ذلك في قومها أيضاً حفظاً لمعروفها .
قال العينى : " حفظ النبي ﷺ هذه المرأة في قومها وبلادها ، فراعى فى قومها ذمامها " (12).
من فوائد الحديث :
فيه : أن من فاتته صلاة فإنه إذا ذكرها ، ولو بعد خروج وقتها .
وفيه : أن الحاجة إلى الماء إذا أشتدت أخذ حيث وجد ويعوض صاحبه منه ، كما عوضت المرأة .
وفيه : من دلائل النبوة ومعجزات الرسول ﷺ أن توضأ أهل الجيش ، وشربوا ، واغتسل من كان جنباً مما سقط من العزالى ، وبقيت المزادتان مملوءتين .
وفيه : مراعاة ذمام الكافر والمحافظة به كما حفظ النبي ﷺ هذه المرأة فى قومها وبلادها .
فراعى في قومها ذمامها ، وإن كانت من صميمهم ، فهى من أدناهم ، وكان ترك الغارة على قومها سبباً لإسلامها ، وإسلامهم وسعادتهم .
وفيه : بيان مقدار الأنتفاع بالاستئلاف على الإسلام ؛ لأن قعودهم عن الغارة على قومها كان استئلافا لهم ، فعلم القوم قدر ذلك ، وبادروا إلى الإسلام ؛ رعاية لذلك الحق . (13)
المراجع
- السري سير عاملة الليل .
- كانو يمتنعون من إيقاظه ﷺ ، لما كانوا يتوقعون من الإيحاء إليه في المنام ، فكانوا يخافون من إيقاظه قطع الوحى فلا يوقظونه لا حتما ل ذلك .
- الجليد : القوى ، وأجوف أى رفيع الصوت ، يخرج صوته من جوفه بقوة .
- وفيه : تأنيس لقلوب الصحابه لما عرض لهم من الاسف على فوات الصلاة في وقتها بأنهم لا حرج عليهم إذ لم يتعمدوا ذلك .
- هو عمران بن حصين .
- المزادة معروفة وهى أكبر من القربة .
- هو بمعنى هيهات هيهات ، ومعناه البعد من المطلوب واليأس منه ، كما قالت بعده : لا ماء لكم ، أى : ليس لكم ماء حاضر ولا قريب .
- العزالى جمع عزلاء وهى مصب الماء من الرواية ، ولكل مزادة عزالان من أسلفها .
- أى : تنشق لكثرة امتلائها .
- الصرم : أبيات مجتمعة من الناس .
- رواه البخارى [ ٣٤٤ ] واللفظ له ، ومسلم [٦٨٢ ] .
- عمدة القارى [٣٢/٤ ] .
- شرح صحيح البخارى [ ٤٨٧/١ ] لابن بطال .