1. المقالات
  2. الإعراض عن لجاهلين
  3. الإعراض عن الجاهلين

الإعراض عن الجاهلين

65 2024/09/03 2024/12/18

لا ينكر أحد علينا إن وصفنا زماننا بأنه زمان التَّحرِيشِ والتَّصنِيفِ والتَّقسيمِ، وقد فشت في هذا الزمان المشَاكِلُ وكثُرت فيه العَداواتُ، ورَسائِلُ التَّواصُلِ والاستفزازاتُ!

ولكل هذا قد يضطر الإنسان لمخالطة الجاهلين، أو يصادف أحد السفهاء التافهين، فلابد عليه أن يتحلى بمكارم أخلاق الدين، ويتعامل معه بما يرضي الله رب العالمين، وقد ذكر الله لنا آية ليس في القرآن أَجمَع لمكارمِ الأخلاقِ مِنها ألا

وهي قول الله تعالى

{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}

[الأعراف:199]

.

إنها آية جامعةٌ لحسنِ الخُلُقِ مع الناسِ، وما ينبغي في معاملتِهم، فالذي ينبغي أن يُعامِلَ به النَّاسَ، أن يأخذَ العفو، وهو ما سَهُلَ عليهم من الأعمال والأخلاقِ، وَيشكُرَ من كلِّ أحدٍ ما قَابَلَهُ بِهِ، من قولٍ وفعلٍ جميلٍ، وأنْ يَتجاوزَ عن تَقصِيرِهم ويَغُضَّ طَرفه عن نَقصِهم ولا يتكبَّرُ على صَغيرٍ لِصغَرِهِ، ولا ناقصِ عقلٍ لِنقصِهِ، ولا لِفَقِيرٍ لِفقرِهِ، بل يعاملُ الجميعَ بالُّلطفِ والمُقَابَلَةِ بِما تَنشَرِحُ لُه صُدُورُهم. وهذه الآيةُ العظيمةُ تُعدُّ بَلْسَمَا لكثيرٍ مِن الأَدواءِ التي يُبتلى بها كثيرٌ مِن العُقلاء؛ حيثُ يُبتلَون بِمَن لا خلاقَ لهم مِن السفهاءِ الذين يُثيرونَ حولهم الغُبار، ويُسيؤون إليهم بالكلامِ البذيءِ المؤذي، وخَيرُ علاجٍ لتلك الإساءاتِ هو الإعراضُ عن الجاهلين؛ فمَن أَعْرَضَ عنهم حمى عِرْضَه، وأَرَاحَ نفسَه، وسَلِم مِن سَماعِ ما يؤذيهِ.

إننا وبحق نحتاجُ إلى التَّرفُّعِ عن مُجارَاةِ السُّفهاءِ الجاهِلينَ. ومُجاراةِ الحمقى والمُغَفَّلينَ؛ ولهذا كان من وصف عباد الرحمن في سورة الفرقان

قوله تعالى

{وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا}

[الفرقان:63]

فهذا هو الوصف الثاني لهم بعد التواضع بالمشي على الأرض هونا وتواضعا لا بطرا وكبرا، فيأتي المظهرُ الخارِجِيِّ الثاني لعبادِ الرحمن، بالإعراض عن الجاهلين، حتى صَارَ فيهم سجيةً وطبعًا لا كُلفةَ فيه، وهو لسانهم الرطبُ ومَنطِقُهم العَذْب، فلا يردون الإساءة بالإساءة، ولا التهمة بمثلها، وإنما آثروا السلام، وكأنهم لا يعلمون شيئًا مما يقولُ الجاهلون.

ومع أنَّ الإسلامَ شرع للمسلمِ أَخْذَ حَقِّهِ ممَّن ظَلَمَه؛ إلاّ أنَّه يَذْكُرُ هنا الأكملَ لعبادِ الرحمن، خاصَّةً الدعاة، فقد ظُلِموا مِن الجاهلين فكان المُقابلُ السلام، وهو ما أَمَرَ اللهُ بهِ نبيَّه به في الآية الكريمة.

ولقد قام رسول الله بهذا الخلق خير قيام، وفي كل حياته كان يترفع عن مماراة اللئام، ويتجنب سفهاء الأحلام، ويعفو عن من أساء، فلنكن مثله.  

إنه نداء لكا من قد تضطره الظروف لمخالطة مثل هذؤلاء الجاهلين نقول لهم:

أَرْبِعُوا على أنفُسِكم وَهَوِّنُوا عليها ولا تَذهب نَفسُكَ عليهم حَسَرَاتٍ. فللهِ في خَلقِهِ شُئونٌ، ورُبَّ كلامٍ مَشينٍ، أو تَصَرُّفٍ أحمَقٍ، السُّكُوتُ والتَّغاضي أبلغُ علاجٍ لهُ، فقد علَّمتنا مَدرسَةُ مُحمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم- أنَّ الإعراضَ عن الجَاهِلينَ، والصَّفحَ الجَمِيلَ عن المُذنِبينَ مِن أنبلِ الشِّيمِ، وأعلى القِيَمِ! "اذهبوا فأنتم الطُّلَقَاءَ".

والمُؤمنون الذينَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ من صِفاتِهم أنَّهم

{إِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ}

[القصص55]

فلا تسمعونَ منَّا إلاَّ الخيرَ، وإنْ رَضِيتم لأَنفُسِكم هذا الخُلُقَ اللئيمَ، فإنَّنا نُنَزِّهُ أنفُسَنا عنه، وَنَصُونُها عن الخَوض في الجهلِ والباطِلِ.

والمراد بالإعراض عنهم عدم عتابهم وعدم الأخذ عليهم ما داموا جاهلين، ولكن لابد أن نعلمهم حتى يزول الجهل، ولا نتركهم على جهلهم، ولا نعرض عنهم دائما، بل نبدأ بتعليمهم ونوصيهم بالتعلم، ولكن إذا أصروا وعاندوا ولم يقبلوا فإن الإعراض عنهم أولى حتى يشعروا من أنفسهم بالنقص.

هكذا حكى الله عن بعض أوليائه، واللغو هو الذي يسمعونه من الكلام الباطل أو السيئ الذي يعمرون به المجالس من خوض فيما لا فائدة فيه ولا أهمية له من صياح ولغط ونحو ذلك، فأولياء الله الصالحون إذا سمعوا هؤلاء اللاغين أعرضوا عنهم، ثم نصحوهم وقالوا: {لنا أعمالنا ولكم أعمالكم} أي: نحن بريئون منكم ومن أعمالكم التي منها هذا اللغو {لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين}، وهذا دليل على أن أولئك الذين يخوضون في اللغو جاهلون.

وعلى هذا المنوال سار السلف الصالح، صحابة وتابعين، فكانوا يعرضون عن الجاهلين، ويكتفوا بعدم مخالطة الممارين في الدين، فعن ابْنُ عَبَّاسٍ، -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: قَدِمَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنِ بْنِ حُذَيْفَةَ، فَنَزَلَ عَلَى ابْنِ أَخِيهِ الْحُرِّ بْنِ قَيْسٍ، وَكَانَ مِنَ النَّفَرِ الَّذِينَ يُدْنِيهِمْ عُمَرُ، فَقَالَ عُيَيْنَةُ لاِبْنِ أَخِيهِ: يَا ابْنَ أَخِي، هَلْ لَكَ وَجْهٌ عِنْدَ هَذَا الأَمِيرِ، فَاسْتَأْذِنْ لِي عَلَيْهِ، قَالَ الْحُرُّ بْنُ قَيْسٍ: سَأَسْتَأْذِنُ لَكَ عَلَيْهِ، فَاسْتَأْذَنَ لِعُيَيْنَةَ فَأَذِنَ لَهُ عُمَرُ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ قَالَ عُيَيْنَةُ: هِيْ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، فَوَاللهِ، مَا تُعْطِينَا الْجَزْلَ، وَلاَ تَحْكُمُ بَيْنَنَا بِالْعَدْلِ، فَغَضِبَ عُمَرُ، حَتَّى هَمَّ أَنْ يُوقِعَ بِهِ، فَقَالَ لَهُ الْحُرُّ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِنَبِيِّهِ  -صلى الله عليه وسلم: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ}، وَإِنَّ هَذَا مِنْ الْجَاهِلِينَ، فوَاللهِ مَا جَاوَزَهَا عُمَرُ حِينَ تَلاَهَا عَلَيْهِ ، وَكَانَ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللهِ.

  اللهُ أكبرُ.. إنها أخلاقُ الكبارِ، لم يَتَجاوَزِ سيدنا عمر الآيةَ فقد وقَفَ ذَلِيلاً أَمَامَها، ويَتَبيَّنُ كذلِكَ مَزِيَّةُ الحاشِيةِ الصَّالِحةِ النَّاصِحةِ التي تَربطُ الخُلفاءَ والأُمراءَ بكتابِ اللهِ تعالى.

 وروى ابنُ جريرٍ وابنُ أبي حاتِمٍ قالا: لمَّا أنَزَلَ اللهُ، {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}، قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما هذا يا جبريل؟، قال: إنَّ اللهَ أَمَرَكَ أنْ تَعفُوَ عمَّن ظَلَمَكَ، وتُعطِي مَن حَرَمَكَ، وَتَصِلَ مَن قَطَعَكَ".

وكان الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم سباقا وتواقا إلى تلبية ما يدعو إليه ربه وتطبيق ما يؤديه عليه فقال: “أدبني ربي فأحسن تأديبي”، وإذا اتخذ أي إنسان عاقل من هذا المنهج القرآني دليلا ومرشدا في سلوكه مع الناس في العلاقات العامة والخاصة، يتقي به كثيرا من المتاعب والمصائب وأوجاع الدماغ، ومشاكل الأرق والفكر وشرود الذهن، لأن الالتفات إلى أقوال السفهاء وإعطائها وزنا أكثر مما يستحقها قد يؤرق في الأذهان الأحقاد والأضغان والأثقال النفسية، وأحيانا يحدث ذلك رغبة في الأذى والانتقام.

فحين يفكر الإنسان العاقل في استهزاء السفهاء والحمقى وسفاسفهم البذيئة، فإنه ينبغي له استعراض سيرة أكرم الخلق وما كان عليه من تأديب رب، فيجني الثمار التي جنى، ويستشعر النعمة العظمى التي كسبها بفضل تلك الآداب النبيلة وأخيرا فليتذكر إرشاد رب العالمين: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر}

 وفي التابعين من كانوا يسيرون على تلك الخطا المباركة، فهذا التابعي الجليل ابن هبيرة، شتمه رجل فَأعرَضَ عنهُ سيدنا ابن هبيرة، فقالَ الشَّاتِمُ: يا هذا إيَّاكَ أَعنِي، فقالَ ابنُ هُبَيرَةَ: وعنْك أُعرِضُ"

 يا اللهُ إنَّها أخلاقُ الذين يُحبُّونَ الخَيرَ للنَّاسِ، وَيَتَخَلَّقونَ بِأخلاقِ الإسلامِ،

إنَّهم عِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ

{إِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا}

[الفرقان63]

قالوا سلامًا، ليسَ خَوفًا ولا ضعفًا، بل تَأَدُّبَاً وتَرَفُّعَاً، وطلبا للأجرِ والثَّوابِ،

فكانَ جزَاؤهم أنَّهم

{يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا}

[الفرقان75]

 فقولوا سَلاما لِكُلِّ جاهلٍ، واصفحوا عن كُلِّ مُخطئٍ، فأنتم أَكبرُ وأعقَلُ، وأعزُّ وأَكرَم، وكن مؤتمرا بأمر الله ومنتصحا بنصحه

حين وصى نبيه صلى الله عليه وسلم فقال

{فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}

[الزخرف89]

 إننا والله ما أحوجنا أنْ نَتوَاصى بهذا الخُلُقِ العظيمِ، ونحنُ نشهدُ عداواتٍ حَلَّتْ بين مُسلِمينَ وبينَ إخوَةٍ في العقيدَةِ والدِّينِ.

فالحاصل أن الله تعالى أمر بالإعراض عن الجاهلين حتى يتعلموا ويبين لهم الحق، فإذا أصروا على جهلهم وعنادهم فيجب الإنكار عليهم، والعقوبة بعد البيان، وذلك لأنهم بعد البيان إذا أصروا على التجاهل كانوا ليسوا بجهلة ولكنهم مارقي.

وكذلك علينا أن نعرض عن الجاهلين حتى يتعلموا ويبين لهم الحق، فإذا تعلموا وبَيّن لهم الحق ففي ذلك الوقت لا نتركهم، بل ننكر عليهم ونعاقبهم ونقيم العذر بينهم، ونأخذ الحق منهم، وما دموا جاهلين فإننا نرشدهم ونعلمهم.

المقال التالى

مقالات في نفس القسم

موقع نصرة محمد رسول اللهIt's a beautiful day