البحث
منهج الإسلام في تشكيل وعي الإنسان
تعاني الأمة اليوم من أزمات عديدة تسببت في ضعفها وعد تنشئتها، ومن أهم الأزمات الكبرى التي تُعاني منها المجتمعات الإسلامية هي أزمة الفكر والوعي.
والوعي يعني: الحالة الفكرية التي يجب أن يتصف بها المسلم في تعامله مع المشاهد الحياتية والمواقف التي يمر بها.
وهذا الوعي يحتاج في كل فترة إلى إعادة تشكيل وتهيئة لتفهّم الواقع الذي يعيشه، وكيف يتطابق مع تعاليم الإسلام، فيحصل ارتقاء بحالته الفكرية ونمو لتعلقه بجوانب الشريعة الربانية
ولابد أن نعلم أن الوعي ليس صفةً ذاتيةً في الإنسان، لماذا؟ لأنَّه نوعٌ من العلم، والعلمُ ليس مغروساً في الإنسان،
وإنما يُحَصِّلُهُ الإنسانُ بالتعلِّم في حياته كما قال الله عز وجل
(وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا}
[النحل:٧٨]
إذاً الله أخرج الناس من بطون أمهاتهم وهم لا يملكون وعياً، فلابد للإنسان أن يحرص على تكوين الوعي لأننا نمر بواقعٍ معاصرٍ مُعَقَّدٍ وصعبٍ تسبب في صعوبة تشكيل وعي المسلم، فصارت مشكلة وعي المسلم من أخطر المشكلات، وتزداد خطورة تلك الأزمة كلما زادت فترة البعد عن القرون الخيرية الثلاثة.
عن الزبير بن عدي قال: أتينا أنس بن مالك فشكونا إليه ما نلقى من الحجاج فقال اصبروا فإنه لا يأتي عليكم زمان إلا الذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم)).
لذا فلابد من البحث عن طرق لتشكيل ذلك الوعي من خلال معالجة متأنية، في محاولة لــ: -
- إعادة ترتيب العقل المسلم وإعادة تشكيله، ليستطيع التخلص من القيود التي كبّلت فكره.
- منحه القدرة على التخلص من بعض القيود التي تسببت في حدوث لبس لبعض الأمور.
- القدرة على إيجاد الرؤية الصحيحة التي غابت بسبب البعد عن الدين وترك القرآن وهجره، لإيجاد رؤية صحيحة للواقع الذي نحياه، والقدرة على إبصار مشاكل الزمان ثم تصنيفها.
قال تعالى
{وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا}
[الفرقان 30]
ووسائل تشكيل الوعي المسلم كثيرة منها: -
- معرفة طبيعة الحرب على الإسلام في كل زمان: -
- التحقق بالرؤية الشاملة لأحكام الإسلام:
- الحصول على قدر كبير من الثقافة العامة، مقترنا بالنظرة الشمولية للإسلام، لينتج عقلا مرتبا متوازنا.
وأول وسائل التشكيل لوعي المسلم في أي زمان أن يعرف أن الحرب المعلنة على الإسلام تتطور بتطور الزمان، فهي ليست دائما بالسلاح والبارود، وإنما –كما في عصرنا الحالي – يمكن أن تكون حربا عن طريق الأفكار والمعتقدات، فيقوم أعداء الإسلام بمحاربة أفكار الناس التي يحملونها، وساعة يقدرون على تغيير تلك الأفكار والمعتقدات، فإنهم بذلك ينتصرون عليهم، ويستطيعون أن يُغيِّروا من قناعتهم ومن تصرفاتهم.
فدين الإسلام ينظم حياة الإنسان كلها في نفسه وعلاقاته مع غيره، في بيته وفي عمله وفي كل أحواله، فكل حياة الإنسان تكفّل الإسلام بوضع منهج متكامل لها، وجعل الالتزام بهذا المنهج عبادة يُثاب عليها إذا خلصت النية لله عز وجل.
في دين الإسلام لابد أن يؤخذ الدين كله ولا يُجزّأ، ولا يُؤخذ بعضه ويترك بعضه الآخر،
قال عز وجل
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾
[البقرة 208]
وقد أنكر الإسلام على اليهود الذين آمنوا ببعض الرسل وكفروا ببعضهم الآخر،
قال عز وجل
﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا * أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا ﴾
[النساء:150، 151]
فلابد من الرؤية الشمولية لأحكام الإسلام، وعدم الفصل بين بعضها البعض، أو بينها وبين ما نتعايشه في حياتنا،
فالدين يشمل كل الحياة، قال عز وجل
﴿ قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾
[الأنعام:162]
وقال جل شأنه
﴿ ونَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ﴾
[النحل:89]
وقال سبحانه
﴿ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾
[البقرة:85]
والمتأمل في القرآن يجد أن النصوص القرآنية تشمل جميع مناهج الحياة، فلم تقتصر الآيات على جانب العبادات فقط أو الوعظ والترغيب والترهيب فقط، بل توجد نصوص لكل جوانب الحياة، نذكر منها على سبيل المثال: -
فقال تعالى
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾
[البقرة:178]
وقال الله سبحانه
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾
[البقرة:183]
ويقول جل شأنة
﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ ﴾
[البقرة:189]
وقال الملك جل جلاله
﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ﴾
[البقرة:222]
ويقول الله تعالى
﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ ﴾
[ البقرة: 217]
إلى آخر السورة، وغيرها من السور الممتلئة بآيات مثلها، والمتأمل المتدبر يرى أن تلك النصوص القرآنية الكثيرة لم تفرق بين فرضية الصيام والوصية، أو القصاص أو المواقيت أو الحيض أو الجهاد... وهذا نموذج مصغر للنظرة التي لابد ان ينظرها عقل المسلم ويتأملها بوعيه، بحيث يأخذ الدين كله، ليشكل بهذا وعيا للمسلم كاملا متكاملا،
قال تعالى
﴿ يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱدۡخُلُواْ فِي ٱلسِّلۡمِ كَآفَّةٗ﴾
[ البقرة 208]
إن أغلب عقول المسلمين اليوم –إلا من رحم ربي –تعاني من العجز العقلي المفتقد للتوازن العلمي، مع أن آيات القرآن حثت في أغلي آياتها على زيادة العلم وفضله، وفضل أهله.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾
[المجادلة:11]
ويقول جل جلاله
﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾
[الزمر: 9]
ويقول الملك
﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً ﴾
[ طـه:114]
إلى غير ذلك من النصوص المشرفة التي تحث على تحصيل العلم الذي يساعد على تشكيل وعي متكامل، عقل قادر على إدراك علل الأشياء، ويمتلك القدرة على التبصر بأحوال الأمم والجماعات، ويستنبط المسار الحضاري في نشوء وسقوط الحضارات، ليزدهر بأمته، ويرتقي بمجتمعه.
من هـنا تأتي ضرورة إعادة ترتيب الوعي المسلم اليوم على ضوء فهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما سُئِل بعد تحوله برعيه من الوادي المجدب إلى الوادي المخصب ليؤمن لغنمه المرعى الصالح: كيف تفر من قدر الله؟ فيقول: فررت من قدر الله إلى قدر الله.
أما تجنب الأسباب الشرعية فقضية خطيرة تزري بالعقل المسلم وتتعارض مع سنن الله في الحياة والأحياء التي أمرنا بالتزامها. إن تسلل مثل هـذه القضية الخطيرة إلى حياة المسلمين دفعهم إلى الاستسلام المرفوض شرعا وعقلا، ولقد هـزم المسلمون في أحد وكان على رأس الجيش أكرم الخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك لا نزال نتلو أسباب الهزيمة النفسية والمادية إلى اليوم، منذ خمسة عشر قرنا، أليست هـذه التلاوة لتحقيق الاعتبار والتعرف على السنن لئلا نقع بما وقعوا به؟! أم هـل يعيش بعض مسلمي اليوم فوق هـذا المستوى!! والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن جسده فيما أبلاه، وعن علمه ماذا عمل به، وعن ماله من أين اكتسبه وأين وضعه».
إنه التصرف المبصر بالطاقات التي ملكنا الله إياها، وحسن الاستفادة من القدرات التي أتى الحديث على ذكر نمازج منها وحسن التصرف بها مع الاستشعار بالمسئولية عنها.
. إن الإسلام لم يرد للمسلم يوما أن ينعزل عن الحياة ويتخذ إزاءها مواقف السلب والفرار، إنما حرص على تشكيل وعي المسلم في كل زمان بما يتلائم مع واقعه الحركي، لأنه دين حركة وجهاد دائمة لتغيير العالم، ويتدافع مع المخالف، من خلال المنافسة الشريفة، بعيدًا عن الصراعات والحروب؛
قال تعالى
﴿ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ ﴾
[البقرة:251]
وأخيرًا ... فتشكيل الوعي قيمة تحظى بأهمية كبيرة في الإسلام، وخصوصًا في زماننا، الذي طغى فيه الباطل على الحق، وأصبح الحق موضع شك وريب، وقد كان منهج طلب ومناشدة الحق، وجهة رسول الله ﷺ، وكان إذا قام من الليل يفتتح صلاته قائلاً: «اللهُمَّ رَبَّ جَبْرَائِيلَ، وَمِيكَائِيلَ، وَإِسْرَافِيلَ، فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ، إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ» فحريّ بكل مسلم أو إنسان صادق، أن يجأر بهذا الدعاء في كل وقت وحين.