البحث
التَّغَيُّر المسْتحيل
كَيْف تَحوَّل قَوْم كَانُوا يَقتُلون ويسْلبون مِن النَّاس حياتَهم، إِلى أن أصْبحوا يُعْطونهم حَيَوات جَدِيدَة، بل ويقدِّمون حياتَهم فِدَاء لَهُم!
وبعْد أن كَانُوا ينْهبون أمْوالهم، أصْبحوا يُعْطونهم مِن أمْوالهم، بل ويتصدَّقون عَليهِم، ويعاملوهم كإخْوانهم.
وبعْد أن كَانُوا يَسطُون عَليهِم، ويبْطشون بِهم، ويذيعون الرُّعْب فِي نُفوسِهم، أصْبحوا مِن أَكثَر النَّاس رِقَّة فِي قُلوبِهم، وَوُدا فِي أعْمالهم.
هذَا مَا سَنعرِفه الآن..
على عَكْس مَا يَعتَقِد البعْض، الفتوحات الإسْلاميَّة لَم تَكُن تَفتَح فقط البلَاد والأمْصار؛
وَإِنمَا كَانَت تَفتَح العُقول وتخْرجهَا مِن الظَّلَام، وَتُحوّل القُلوب وتهْديهَا إِلى الإسْلام.
إِذَا نظرْنَا إِلى التَّاريخ سَنجِد أنَّ التَّغْيير الحاصل لِأيِّ إِنسَان قَبْل وبعْد دُخوله الإسْلام، يَدعُونا لِلتَّفَكُّر والتَّأمُّل وَمِن ثمَّ الانْبهار بِقوَّة التَّأثير، وَعظَم التَّغْيير الذِي يُحْدِثه فِي النُّفوس، ويمْلأ بِه الأبْدان.
حديثنَا اليوْم لَيْس عن إِنسَان تَغيرَت حياته؛ بل قَبِيلَة كَامِلة بِكلِّ مَن فِيهَا مِن رِجَال ونساء وأطْفَال.
قَبِيلَة بَنِي غِفَار؛
قَبِيلَة مِن العرب سَكنَت وَادِي الصَّفْراء وَهُو وَادٍ بَيْن مَكَّة والمدينة، وَهُو مَكَان كثيرًا مَا تَأتِي بِجواره القوافل المحمَّلة مِن اليمن والشَّام.
فكانوا ينْتظرون هَذِه القوافل فيقْطعون طريقهَا، ويسْرقون أمْوالهَا، وَلَربمَا مِن اعترَض عَليهِم حِينهَا قَطعُوا رَأسُه ورموْه بَعدَها!(1)
كان مِنْهم رَجُل يُسمَّى أَبُو ذر الغفاري؛ سَمِع بِدعْوة رَسُول اللَّه لِلْإسْلام فِي مَكَّة، ورغْم التَّشْويه الإعْلاميِّ الذِي قام بِه الكُفار مِن كَذِب وَتضلِيل وإيهَام النَّاس؛ إِلَّا أنَّ صَوْت الفطْرة الذِي كان فِي قَلْب أَبِي ذرَّ جَعلِه يَتُوق شوْقًا لِمعْرِفة هذَا الدِّين، فَقَام بِإرْسَال أخيه أنيسٍ لِيسْأل عَنْه، ويقابله، ويسْتفْسر مِنْه عَنْه.
فَذهَب أنيسٌ إِلى مَكَّة، فَلقَى النبِي صَلَّى اللَّه عليْه وَسلَّم، وَقَابلَه وَسمِع مِنْه، ثُمَّ رجع إِلى أخيه أَبِي ذرّ وعنْدَمَا جَاءَه قال لَه:"وَاللَّه لَقد رأيْتُ رَجُلا يَأمُر بِالخَيْر وينْهى عن الشَّر."
قال لَه ذَلِك رَغْم أَنَّه لَم يُسلم حِينهَا، إِلَّا أنَّ دَعوَة الإسْلام كان واضحًا لِلجمِيع مِن اللَّحْظة الأُولى مدى نُبْلِها، وَحَقيقَة أَمرِها.
فَقَال لَه أَخُوه أَبُو ذرٍّ:"لَم تَشفنِي منَ الخبر."
فلم يَكُن فِي جَوَاب أنيس الذِي قَالَه القَدر الذِي كان يَنتَظِر أَبَا ذرٍّ لِيسْمَعه.
فلَا زال صَوْت الفطْرة الذِي بِداخِله يَشتَعِل شوْقًا، يُريد أن يَعرِف عن هذَا الدِّين ويتعَرَّف أَكثَر على هذَا الرَّسول الكرِيم.
وَخَاصَّة أَنَّه دُونًا عن كُلِّ قَومِه، كان ذَا عَقْل رَاجِح فلم يَكُن يَعبُد الأصْنام.
فَقرَّر الذَّهَاب إِلى مَكَّة لِملاقاة نَبِي اللَّه والتَّعرُّف على الإسْلام. فَجمَع أَمتِعةً قَلِيلَة لَه فِي وِعَاء، ثُمَّ سَافَر لِمَكة.
وعنْدَمَا وصل عَلِم مدى حِقْد وإيذَاء المشْركين لِلمسْلمين، فلم يَسأَل أيَّ أحد عن مَكانِه حَتَّى يَجدَه بِنفْسه.
فظلَّ فِي مَكَّة ثلاثين يوْمًا يَبحَث فِيهَا عن رَسُول اللَّه؛ وَفِي يَوْم مرَّ عليْه عَلِي بْن أَبِي طَالِب فَقَال لَه:"كأن الرَّجل غريب؟!"
فَقَال:"نَعَم."
فَقَام سَيدُنا عَلِي بِمرافقته وضيافته فِي مَنزلِه فَذهَب معه أَبُو ذرٍّ ولم يسْألْه عن شَيْء خَشيَة أن يَكُون مِمَّن يُعَادِي النبِي، وَكذَلِك سَيدُنا عَلِي لَم يَضغَط عليْه ولم يسْألْه عن شَيْء.
وَفِي اليوْم الثَّاني؛ ذهب أَبُو ذرِّ كعادَته لِلمسْجد لِيسْأل بِخفَّيْه عن رَسُول اَللَّه، وَلكِن كالعادة لَا أحد يُخْبِره بِشَيء.
فمرَّ بِه سَيدُنا عَلِي مَرَّة أُخرَى فسأله:"أَمَا آنَّ لِلرَّجل أن يَعرِف منْزله بَعْد؟"
يَعنِي؛ أَمَا جاء وَقْت إِظهَار سبب هِجْرتك مِن بَلدِك وَمكُوثك فِي مَكَّة؟
فَرفَض أَبُو ذرٍّ رَضِي اَللَّه عَنْه أن يُجيبه؛ فَقَال عَلِي رَضِي اللَّه عَنْه:"انطلَق مَعِي."
فانْطَلق معه فسأله عَلِي:"مَا أَمرَك؟ ومَا أُقَدمك هَذِه البلْدة؟"
وَكَان اهتِمام عَلِي رَضِي اَللَّه عَنْه بِأَبي ذرٍّ لِأَنه شعر أَنَّه يُريد النبِي صَلَّى اَللَّه عليْه وَسلَّم، وَلذَلِك صَبْر عليْه، وَكرَّر عليْه ضِيافَته مِرارًا.
فَأَجابَه أَبُو ذرٍّ:"إِن كَتمَت عَلَي أخْبرتُك بِذَلك." أي؛ إِن أعْطيْتني عهْدًا وميثاقًا لِترْشدني، فَعَلت.
قال عَلِي رَضِي اللَّه عَنْه:"فإنِّي أَفعَل مَا ذكرتْه."
فَأَخبرَه أَبُو ذرٍّ رَضِي اللَّه عَنْه:
"بلغْنَا أَنَّه قد خرج هَاهُنا رَجُل يَزعُم أَنَّه نَبِي، فَأَرسلَت أَخِي لِيكلَّمه وَيأتِني بِخبره، فَرجَع بَعْد أن أَتَاه وَسمِع قَولَه، ولم يَشفنِي منَ الخبر، فأرْدتْ أن أَلقَاه."
فَقَال لَه عَلِي رَضِي اللَّه عَنْه:"أُمَا إنّك قد رَشدَت." أي أنّك قد عَلمَت الحَق وسبيل الوُصول إِلَيه.
وَقَال لَه أنَّ هذَا هُو الوقْتُ اَلذِي سيذْهب فِيه لِيقابل رَسُول اللَّه وَأنَّه سيأْخذه معه؛ وعنْدَمَا دخل أَبُو ذرٍّ على النبِي وَجلَس معه قال لَه:"اعْرِض عليَّ الإسْلام." أي؛ عَرّفنِي بِأرْكانه وواجباته وَعلَى مَاذَا يُبنَى؟ وماذَا يَقُول؟
فعرضه النبِي صَلَّى اَللَّه عليْه وَسلَّم عليْه وعرّفه مَعنَى شَهادَة الإسْلام لَا إِله إِلَّا اللَّه أيْ لَا مَعبُود بِحقٍّ إِلَّا اللَّه الواحد الأحد.
وأنَّ مُحَمدًا رَسُول اللَّه أيْ الرَّسول الذِي أَرسَله اللَّه خَاتَمًا لِلمرْسلين والأنْبياء وأنْزل معه القُرآن الذِي فِيه إِجابة على كُلِّ الأسْئلة التِي يُريد الإجابة عليْهَا لِمعْرِفة حَقِيقَة الدُّنْيَا، وماذَا بَعْد هَذِه الحيَاة.
وعنْدَمَا سَمِع أَبُو ذرِّ الأجْوبة اَلتِي لَطَالمَا سألهَا عَقلُه، ونادتْ بِهَا فِطْرته، وترَك أَهلَه وبلده باحثًا عَنهَا؛ هَدأَت نَفسُه، واطْمأنَّتْ رُوحَه على أنَّ هذَا الدِّين هُو الحَق الغَيْر مخْفِي على أيِّ إِنسَان.
فأسْلم فِي نَفْس المجْلِس فِي مَكانِه، ثُمَّ أَمرَه النبِي صَلَّى اَللَّه عليْه وَسلَّم أن يَكتُم إِسْلامه، وَيَجعلَه سِرًّا حَتَّى يَأتِي وَقْت ظُهُور الإسْلام ويشْتدُّ، وَإِنمَا قال النبِي صَلَّى اَللَّه عليْه وَسلَّم لَه ذَلِك؛ خَشيَة عليْه مِن إِيذَاء أَهْل مَكَّة لَه.
فَقَال أَبُو ذرٍّ:"وَالذِي بَعثَك بِالحقِّ لأصْرخن بِكلمة التَّوْحيد، ولَأرفعن صَوتِي بِهَا بَين أظْهرَهم!"
فَجَاء أَبُو ذرٍّ رَضِي اَللَّه عَنْه إِلى المسْجِد الحرَام، وكفَّار قُرَيش فِيه، فَقَال:
"يَا مَعشَر قُرَيش، إِنِّي أَشهَد أن لَا إِله إِلَّا اللَّه وأشْهد أنَّ مُحَمدًا عَبدُه وَرسُوله!"
فَقَال كُفَّار قُرَيش:"قُوموا إِلى هذَا الصَّابئ!" أيْ الذِي انتقَل مِن دِين إِلى دِين، فقاموا إِلَيه فضربوه قَاصدِين مَوتَه! وَلكِن لَحقَه العبَّاس بْن عَبْد اَلمُطلب رَضِي اللَّه عَنْه، وَكَان مُشْرِكا آنذاك، فَرمَى نَفسَه عليْه حِماية لَه مِن الضَّربات.
ثُمَّ تَوجَّه العبَّاس لِقريْش وَقَال لَهُم:"وَيلُكم! تَقتُلون رَجُلا مِن غِفَار ومتْجركم وممرَّكم فِي طريق التِّجارة يَمُر على غِفَار؟! (يُخوَّفهم على تِجارتهم مِن ثَأْر قَبِيلَة غِفَار المعْروفة بِالبَطْش الشدِيد إن قَتلَت قُرَيش أبَا ذر)"
فكفّوا عن ضَربِه..! وَفِي اليوْم التَّالي رجع أَبُو ذرٍّ إِلى البيْتِ الحرَام، ولم يَزجُره مَا حدث معه المرَّة الفائتة وَقَال:"يَا مَعشَر قُرَيش، إِنِّي أَشهَد أن لَا إِله إِلَّا اللَّه وأشْهد أنَّ مُحَمدًا عَبدُه وَرسُوله!"(2)
فقاموا عليْه لِيضْربوه ضرْبًا يَقتُله، لَولَا تَدخُّل العبَّاس مَرَّة أُخرَى لِحمايته!
رُبمَا يَتَعجَّب أَحدُهم ويسْأل مَا هُو السِّرُّ الذِي يجْعله يُسَافِر مِن بَلدِه، ويتْرك أَهلَه، ويقْعد مُشَردا بِقليل مِن الطَّعَام والشَّراب لِثلاثين يوْمًا؟ لِيقابل رَجُلا، يَعتَنِق بَعْد مُقابلته دِينَا لَيْس كأيّ دِين، لِيخْرج ويصرِّح بِإيمانه بِه، فِي أَكثَر مَكَان يَتَواجَد فِيه مُبْغِضوا ومحاربوا هذَا الدِّين!! لِيتلَقَّى العدِيد مِن الضَّربات بَعْد أن دَخلَه وَالتِي يَعلَم يقينًا أَنهَا ستقْتله!
فيَا ترى مَا الدَّاعي والمحرِّك لَه لِأن يَفعَل كُلَّ هذَا؟
إنهَا الفطْرة الصَّافية، الطَّالبة لِلتَّوْحيد، والمبغِضة لِلشِّرْك، والمريدة لِلحقِّ؛ التِي فَوْر مَا سَمعَت بِالإسْلام ذهب البَأس الذِي تُعانِيه عِنْد رُؤيَة عَبدَة الأصْنام؛ لِيصْبح أَبُو ذرٍّ رَابِع مَن دَخَل فِي الإسْلام.
وَلأَن المسْلِم مِثْل المصْباح المنِير الذِي لَا يُنير لِنفْسه فقط، بل لِمن حوْله أيْضًا؛ حَانَت الآن المهِمة الأصْعب لِأَبي ذرٍّ؛ أَلَا وَهِي دَعوَة قَومِه، وتحْويلهم مِن عُبَّاد للأصْنام والأوْثان، إِلى عُبَّاد لِلَّه الواحد القهَّار. فأدْخل اللَّه فِي قُلوبِهم الإيمان، وسكنتْ صُدورَهم بِنور الإسْلام، فأصْبحوا مِن أَوائِل الأقْوام التِي دَخلَت الإسْلام. وتحوَّلوا مِن قُطّاع لِلطُّرق، إِلى وَاصلِي سُبُل السَّلَام، وَمِن نَاهبِين لِلْأمْوال، إِلى مُنْفقيهَا فِي سبيل اللَّه!
ولم يكْتفوا بِذَلك فقط؛ بل جَمعُوا عُدَّتهم، ووطّنوا أَنفُسهم لِلمجاهدة فِي سبيل اللَّه، وبذْل النَّفْس فِي سبيل إِعلَاء كَلمَة اللَّه. فالمسْلم الحقيقيُّ لَا يعيش فِي النُّور بِمفْرَده، بل يَجتَهِد لِينير لِغيْره أيْضًا.
فَلذَلِك جاهدتْ قَبِيلَة غِفَار كُلهَا مع الرَّسول فِي فَتْح مَكَّة تَحْت قِيادة خَالِد بْن الولِيد، وَفِي غَزوَة تَبُوك تَحْت لِوَاء أَبِي بَكْر الصِّدِّيق. ولم تَرتَد بَعْد مَوْت النبِي عن الإسْلام وَشَاركَت مع المسْلمين فِي حُرُوب الرِّدَّة.(3)
وَفِي خِلافة عُمَر بْن الخطَّاب جاهدتْ لِدخول مِصْر إِلى دار الإسْلام. فكانتْ سببًا فِي إِيقَاظ الفطْر المنْتكسة، والعقول المغيَّبة، والقلوب المتحجِّرة نَحْو الإسْلام.(4)
والسُّؤال هُنَا؛ مِن مِنَّا كان تاريخه كُلّه سَرقَة، واحْتيال، وإجْرَام، وظنَّ أَنَّه مع كَثرَة الذُّنوب والآثام لَا سبيل لَه لِلدُّخول لِدَار السَّلَام والفَوْز بِالجنان؟
هَذِه قَبِيلَة بَنِي غِفَار اِنْتقلوا مِن قُطّاع للطُّرق إِلى دَرجَة الصَّحابة مَرَّة وَاحِدة!
تمامًا كَالذِي يَنتَقِل مِن الأرْض إِلى السَّمَاء، والفارق لَحظَة وَاحِدة، لَحظَة صِدْق، واسْتجابة لِفطْرة التَّوْحيد.
قَبِيلَة بَنِي غِفَار وَأبُو ذرٍّ الغفاري يعْلمونك أَنَّه مَا دام فِيك نَفْس تتنفَّسه الآن فلَا زَالَت هُنَاك فُرصَة لِتصْحِيح أفْكارك وَتَوبتَك واسْتجابتك لِنداء الفطْرة، والإسْلام.
المراجع
- كتاب كن صحابيا - راغب السرجاني - الجزء الثالث - صفحة 9 https://shamela.ws/book/37381/...
- الراوي : أبو ذر الغفاري | المحدث : البخاري | المصدر : صحيح البخاري الصفحة أو الرقم: 3522 https://dorar.net/hadith/sharh...
- https://www.islamweb.net/ar/li...
- https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%BA%D9%81%D8%A7%D8%B1_(%D9%82%D8%A8%D9%8A%D9%84%D8%A9)