البحث
ذكر حكم رسول الله الموافق لكتاب الله تعالى من وجوب النفقة للأقارب
ذكر حكم رسول الله الموافق لكتاب الله تعالى من وجوب النفقة للأقارب
روى أبو داود في سننه عن كليب بن منفعة عن جده أنه أتى النبي فقال يا رسول الله أبر قال أمك وأباك وأختك ومولاك الذي يلي ذاك حق واجب ورحم موصولة وروى النسائي عن طارق المحاربي قال قدمت المدينة فإذا رسول الله قائم على المنبر الناس وهو يقول يد المعطي العليا وابدأ بمن تعول أمك وأباك وأختك وأخاك ثم أدناك وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال جاء رجل إلى رسول الله فقال يا الله من أحق الناس بحسن صحابتي قال أمك قال ثم من قال أمك قال ثم من قال أمك ثم من قال أبوك ثم أدناك أدناك وفي الترمذي عن معاوية القشيري رضي الله عنه قال قلت يا رسول الله من أبر قال أمك ثم من قال أمك قلت ثم من قال أمك قلت ثم من قال أباك ثم الأقرب فالأقرب وقد قال النبي لهند خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف
وفي سنن أبي داود من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي أنه قال إن ما أكلتم من كسبكم وإن أولادكم من كسبكم فكلوه هنيئا ورواه أيضا من حديث رضي الله عنها مرفوعا وروى النسائي من حديث جابر بن عبدالله قال قال رسول الله ابدأ بنفسك فتصدق فإن فضل شيء فلأهلك فإن فضل عن أهلك شيء فلذي قرابتك فإن فضل عن ذي قرابتك وهكذا وهذا كله تفسير لقوله تعالى ( واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا القربى ) النساء 36 وقوله تعالى ( وآت ذا القربى حقه ) الإسراء 26 فجعل سبحانه ذي القربى يلي حق الوالدين كما جعله النبي سواء بسواء وأخبر سبحانه أن لذي حقا على قرابته وأمر بإتيانه إياه فإن لم يكن ذلك حق النفقة فلا ندري أي حق وأمر تعالى بالإحسان إلى ذي القربى ومن أعظم الإساءة أن يراه يموت جوعا وعريا قادر على سد خلته وستر عورته ولا يطعمه لقمة لا يستر له عورة إلا بأن يقرضه في ذمته وهذا الحكم من النبي مطابق لكتاب الله تعالى حيث يقول ( والوالدات أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن بالمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده وعلى الوارث مثل ذلك ) البقرة
فأوجب سبحانه وتعالى على الوارث مثل ما أوجب على المولود له وبمثل هذا الحكم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه فروى سفيان بن عيينة عن ابن جريج عن بن شعيب عن سعيد بن المسيب أن عمر رضي الله عنه حبس عصبة صبي على أن ينفقوا الرجال دون النساء وقال عبدالرزاق حدثنا ابن جريج أخبرني عمرو بن شعيب أن ابن المسيب أخبره أن عمر الخطاب رضي الله عنه وقف بني عم على منفوس كلالة بالنفقة عليه مثل العاقلة لا مال له فقال ولو وقوفهم بالنفقة عليه كهيئة العقل قال ابن المديني قوله أي ولو لم يكن له مال وذكر ابن أبي شيبة عن أبي خالد الأحمر عن حجاج عن عمرو عن سعيد بن المسيب قال جاء يتيم إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال أنفق عليه ثم قال لو لم أجد إلا عشيرته لفرضت عليهم وحكم بمثل ذلك أيضا زيد بن ثابت قال ابن أبي شيبة حدثنا حميد بن عبدالرحمن عن حسن عن مطرف عن إسماعيل عن الحسن عن بن ثابت قال إذا كان أم وعم فعلى الأم بقدر ميراثها وعلى العم بقدر ميراثه ولا وزيد مخالف في الصحابة ألبتة وقال ابن جريج قلت لعطاء ( وعلى الوارث مثل ذلك ) البقرة 233
قال على ورثة اليتيم ينفقوا عليه كما يرثونه قلت له أيحبس وارث المولود إن لم يكن للمولود مال قال يموت وقال الحس( وعلى الوارث مثل ذلك ) قال على الرجل الذي يرث أن ينفق حتى يستغني وبهذا فسر الآية جمهور السلف منهم قتادة ومجاهد والضحاك وزيد بن وشريح القاضي وقبيصة بن ذؤيب وعبدالله بن عتبة بن مسعود وإبراهيم النخعي وأصحاب ابن مسعود ومن بعدهم سفيان الثوري وعبدالرزاق وأبو حنيفة وأصحابه بعدهم أحمد وإسحاق وداود وأصحابهم وقد اختلف الفقهاء في حكم هذه المسألة على عدة أقوال أحدها أنه لا يجبر أحد على نفقة أحد من أقاربه وإنما ذلك بر وصلة وهذا مذهب يعزى الشعبي قال عبد بن حميد الكشي حدثنا قبيصة عن سفيان الثوري عن أشعث عن الشعبي ما رأيت أحدا أجبر أحدا على أحد يعني على نفقته وفي إثبات هذا المذهب بهذا نظر والشعبي أفقه من هذا والظاهر أنه أراد أن الناس كانوا أتقى لله من أن الغني أن يجبره الحاكم على الإنفاق على قريبه المحتاج فكان الناس يكتفون الشرع عن إيجاب الحاكم أو إجباره المذهب الثاني أنه يجب عليه النفقة على أبيه الأدنى وأمه التي خاصة فهذان الأبوان يجبر الذكر والأنثى من الولد على النفقة عليهما إذا كانا فأما نفقة الأولاد فالرجل يجبر على نفقة ابنه الأدنى حتى يبلغ فقط وعلى بنته الدنيا حتى تزوج ولا يجبر على نفقة ابن ابنه ولا بنت ابنه وإن سفلا ولا الأم على نفقة ابنها وابنتها ولو كانا في غاية الحاجة والأم في غاية الغنى تجب على أحد النفقة على ابن ابن ولا جد ولا أخ ولا أخت ولا عم ولا عمة ولا خال خالة ولا أحد من الأقارب ألبتة سوى ما ذكرنا وتجب النفقة مع اتحاد الدين حيث وجبت وهذا مذهب مالك وهو أضيق المذاهب في النفقات المذهب
الثالث أنه تجب نفقة عمودي النسب خاصة دون من عداهم مع اتفاق الدين ويسار وقدرته وحاجة المنفق عليه وعجزه عن الكسب بصغر أو جنون أو زمانة إن كان من الأسفل وإن كان من العمود الأعلى فهل يشترط عجزهم عن الكسب على قولين ومنهم طرد القولين أيضا في العمود الأسفل فإذا بلغ الولد صحيحا سقطت نفقته ذكرا كان أنثى وهذا مذهب الشافعي وهو أوسع من مذهب مالك المذهب الرابع أن النفقة تجب على كل ذي رحم محرم لذي رحمه فإن كان من الأولاد أو الآباء والأجداد وجبت نفقتهم مع اتحاد الدين واختلافه وإن كان من لم تجب إلا مع اتحاد الدين فلا يجب على المسلم أن ينفق على ذي رحمه الكافر إنما تجب النفقة بشرط قدرة المنفق وحاجة المنفق عليه فإن كان صغيرا اعتبر فقره وإن كان كبيرا فإن كان أنثى فكذلك وإن كان فلا بد مع فقره من عماه أو زمانته فإن كان صحيحا بصيرا لم تجب نفقته وهي عنده على الميراث إلا في نفقة الولد فإنها على أبيه خاصة على المشهور من مذهبه وروي عن الحسن بن زياد اللؤلؤي أنها على أبويه خاصة بقدر ميراثهما طردا للقياس مذهب أبي حنيفة وهو أوسع من مذهب الشافعي المذهب الخامس أن القريب إن كان من عمودي النسب وجبت نفقته مطلقا سواء كان وارثا غير وارث وهل يشترط اتحاد الدين بينهم على روايتين وعنه رواية أخرى أنه لا تجب إلا بشرط أن يرثهم بفرض أو تعصيب كسائر الأقارب وإن كان من غير عمودي النسب نفقتهم بشرط أن يكون بينه وبينهم توارث ثم هل يشترط أن يكون التوارث من أو يكفي أن يكون من أحدهما على روايتين وهل يشترط ثبوت التوارث في الحال أن يكون من أهل الميراث في الجملة على روايتين فإن كان الأقارب من ذوي الأرحام لا يرثون فلا نفقة لهم على المنصوص عنه وخرج بعض أصحابه وجوبها عليهم من من توارثهم ولا بد عنده من اتحاد الدين بين المنفق والمنفق عليه حيث وجبت إلا في عمودي النسب في إحدى الروايتين
فإن كان الميراث بغير القرابة وجبت النفقة به في ظاهر مذهبه على الوارث دون الموروث وإذا لزمته نفقة رجل نفقة زوجته في ظاهر مذهبه وعنه لا تلزمه وعنه تلزمه في عمودي النسب خاصة دون عداهم وعنه تلزمه لزوجة الأب خاصة ويلزمه إعفاف عمودي نسبه بتزويج أو تسر إذا ذلك القاضي أبو يعلى وكذلك يجيء في كل من لزمته نفقته أخ أو عم أو غيرهما يلزمه لأن أحمد رحمه الله قد نص في العبد يلزمه أن يزوجه إذا طلب ذلك وإلا بيع وإذا لزمه إعفاف رجل لزمه نفقة زوجته لأنه لا تمكن من الإعفاف إلا بذلك وهذه المسألة المتقدمة وهو وجوب الإنفاق على زوجة المنفق عليه ولهذه مأخذ ولتلك وهذا مذهب الإمام أحمد وهو أوسع من مذهب أبي حنيفة وإن كان مذهب أبي حنيفة منه من وجه آخر حيث يوجب النفقة على ذوي الأرحام وهو الصحيح في الدليل وهو تقتضيه أصول أحمد ونصوصه وقواعد الشرع وصلة الرحم التي أمر الله أن توصل وحرم على كل قاطع رحم فالنفقة تستحق بشيئين بالميراث بكتاب الله وبالرحم بسنة الله وقد تقدم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حبس عصبة صبي أن ينفقوا عليه بني عمه وتقدم قول زيد بن ثابت إذا كان عم وأم فعلى العم بقدر ميراثه وعلى بقدر ميراثها فإنه لا مخالف لهما في الصحابة ألبتة وهو قول جمهور السلف وعليه قوله تعالى ( وآت ذا القربى حقه ) الإسراء 26 وقوله تعالى ( وبالوالدين إحسانا القربى ) النساء 36
وقد أوجب النبي العطية للأقارب وصرح بأنسابهم فقال وأختك ثم أدناك فأدناك حق واجب ورحم موصولة فإن قيل فالمراد بذلك البر والصلة دون الوجوب قيل يرد هذا أنه سبحانه أمر به وسماه حقا وأضافه إليه بقوله حقه وأخبر النبي حق وأنه واجب وبعض هذا ينادي الوجوب جهارا فإن قيل المراد بحقه ترك قطيعته فالجواب من وجهين أحدهما أن يقال فأي قطيعة أعظم من أن يراه يتلظى جوعا وعطشا غاية الأذى بالحر والبرد ولا يطعمه لقمة ولا يسقيه جرعة ولا يكسوه ما يستر ويقيه الحر والبرد ويسكنه تحت سقف يظله هذا وهو أخوه ابن أمه وأبيه أو عمه أبيه أو خالته التي هي أمه إنما يجب عليه من ذلك ما يجب بذله للأجنبي البعيد يعاوضه على ذلك في الذمة إلى أن يوسر ثم يسترجع به عليه وهذا مع كونه في غاية والجدة وسعة الأموال فإن لم تكن هذه قطيعة فإنا لا ندري ما هي القطيعة والصلة التي أمر الله بها وحرم الجنة على قاطعها الوجه الثاني أن يقال فما هذه الصلة الواجبة التي نادت عليها النصوص وبالغت في وذمت قاطعها فأي قدر زائد فيها على حق الأجنبي حتى تعقله القلوب وتخبر به وتعمل به الجوارح أهو السلام عليه إذا لقيه وعيادته إذا مرض وتشميته إذا وإجابته إذا دعاه وإنكم لا توجبون شيئا من ذلك إلا ما يجب نظيره للأجنبي على وإن كانت هذه الصلة ترك ضربه وسبه وأذاه والإزراء به ونحو ذلك فهذا حق يجب مسلم على كل مسلم بل للذمي البعيد على المسلم فما خصوصية صلة الرحم الواجبة كان بعض فضلاء المتأخرين يقول أعياني أن أعرف صلة الرحم الواجبة
ولما أورد الناس هذا على أصحاب مالك وقالوا لهم ما معنى صلة الرحم عندكم صنف في صلة الرحم كتابا كبيرا وأوعب فيه من المرفوعة والموقوفة وذكر جنس الصلة وأنواعها وأقسامها ومع هذا فلم يتخلص من الإلزام فإن الصلة معروفة يعرفها الخاص والعام والآثار فيها أشهر من العلم ما الصلة التي تختص بها الرحم وتجب له الرحمة ولا يشاركه فيها الأجنبي فلا أن تعينوا وجوب شيء إلا وكانت النفقة أوجب منه ولا يمكنكم أن تذكروا مسقطا النفقة إلا وكان ما عداها أولى بالسقوط منه والنبي قد قرن حق الأخ والأخت والأم فقال أمك وأباك وأختك وأخاك ثم أدناك فأدناك فما الذي نسخ هذا وما جعل أوله للوجوب وآخره للإستحباب وإذا عرف هذا فليس من بر الوالدين أن يدع أباه يكنس الكنف ويكاري على الحمر ويوقد في أتون الحمام ويحمل للناس على ما يتقوت بأجرته وهو في غاية الغنى واليسار وسعة ذات اليد وليس من بر أمه أن تخدم الناس وتغسل ثيابهم وتسقي لهم الماء ونحو ذلك ولا يصونها بما ينفقه ويقول الأبوان مكتسبان صحيحان وليسا بزمنين ولا أعميين فيالله العجب أين شرط ورسوله في بر الوالدين وصلة الرحم أن يكون أحدهم زمنا أو أعمى وليست صلة ولا بر الوالدين موقوفة على ذلك شرعا ولا لغة ولا عرفا وبالله التوفيق