البحث
حثه على إكرام المسنين والرفق بهم
أولاً: مناشدة الشباب لإكرام المسنين
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ :
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ~ صلى الله عليه و سلم ~ : " مَا أَكْرَمَ شَابٌّ شَيْخًا لِسِنِّهِ إِلَّا قَيَّضَ اللَّهُ لَهُ مَنْ يُكْرِمُهُ عِنْدَ سِنِّهِ" [1] .
وهكذا أوصى شباب المجتمع بشيوخه، وشباب اليوم هم شيوخ الغد، وتبقى الوصية المحمدية متواصلة ومتلاحقة مع حقب الزمن، توصي الأجيال بعضها ببعض، وفيه بشارة بطول العمر وبالقرين الصالح الذي يكرم من أكرم شيخًا، والجزاء من جنس العمل .
وانظر إلى هذا التعميم : " مَا أَكْرَمَ شَابٌّ شَيْخًا لِسِنِّهِ" .. أي شيخ مسن، مهما كان لونه، ومهما كان دينه، فالمسلم مطالب بإكرام المسن دون النظر إلى عقيدته أو بلده أو لونه ...
كما في حديث أنس بن مالك ، أن رسول الله ~ صلى الله عليه و سلم ~ قال: "والذي نفسي بيده ، لا يضع الله رحمته إلا على رحيم" ، قالوا : يا رسول الله ، كلنا يرحم ، قال :" ليس برحمة أحدكم صاحبه .. يرحم الناس كافة " [2] . فيرحم الناس كافة، والأطفال كافة، والمسنين كافة، بعجرهم وبجرهم، مسلمهم وغير مسلمهم .
ثانيًا: إكرام المسن من إجلال الله
فعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ فعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أن رَسُولُ اللَّهِ ~ صلى الله عليه و سلم ~ قال "إِنَّ مِنْ إِجْلَالِ اللَّهِ إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ، وَحَامِلِ الْقُرْآنِ غَيْرِ الْغَالِي فِيهِ وَالْجَافِي عَنْهُ، وَإِكْرَامَ ذِي السُّلْطَانِ الْمُقْسِطِ" [3] .
فجعل إكرام المسنين من إجلال الله .. وربط بين توقير الخالق وتوقير المخلوق ، وإجلال القوي سبحانه وإجلال المسن الضعيف، وذكر علامة، يُكرم بها صاحبها، هي الشيب، فكان حقًا على كل من رأي هذه العلامة في إنسان إن يكرمه ويجله .
ثم انظر كيف جمع بين المسن وحامل القرآن والسلطان، وقدم المسن، كأنه يقول لك وقرْ المسن كما توقر السلطان والرئيس والحاكم، وعظم المسن كما تعظم حامل القرآن الحاذق.
وتحت لفظ " إكرام ذي الشيبة المسلم "، تأتي كل صور الرعاية والإكرام للمسنين، كالرعاية الصحية، والرعاية النفسية، والرعاية الاجتماعية والاقتصادية، ومحو الأمية، والتعليم التثقيف، وغيرها من صور العناية التي ينادي بها المجتمع الدولي الآن .
ثالثًا: ليس من المسلمين من لا يوقر الكبير
فعن عبد الله بن عمرو : أن رَسُولُ اللَّهِ ~ صلى الله عليه و سلم ~ قال : " لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا ويُوَقِّرْ كَبِيرَنَا " [4] .
فجعل من الذين لا يوقرون الكبراء والمسنين عناصر شاذة في مجتمع المسلمين، بل وتبرأ منهم ! إذ ليس من المسلمين من لا يحترم كبيرهم، وليس من المجتمع من لم يوقر مشايخه وأكابره من المسنين . وتأمل – هداك الله – لفظة النبي " يوقر كبيرنا " – هكذا بضمير الجمع ، تعظيمًا للكبير والمسن - ، ولم يقل " يوقر الكبير"، ليقرر أن الاعتداء على الكبير أو المسن بالقول أو الفعل أو الإشارة هو اعتداء على جناب رسول الله ~ صلى الله عليه و سلم ~ ، الذي نسب المسن إليه وانتسب إليه، بقوله .." كبيرنا" .
رابعًا: تسليم الصغير على الكبير
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أنْ النَّبِيِّ ~ صلى الله عليه و سلم ~ قَالَ: " يُسَلِّمُ الصَّغِيرُ عَلَى الْكَبِيرِ ، وَالْمَارُّ عَلَى الْقَاعِدِ، وَالْقَلِيلُ عَلَى الْكَثِيرِ" [5] .
فقرر النماذج العملية البسيطة ، فيما يتعلق بجوانب الذوقيات الاجتماعية العامة، وبدأ بأهم هذه المظاهر الأخلاقية والذوقية، وهو مظهر توقير الكبير واحترام المسن، فهو البند الأول في " الإتيكيت الإسلامي ".. ولما كان الصغير هو المبادر في مثل هذه الأحوال، كان عليه فيما دون ذلك ، فيبدأ بالمساعدة، ويبدأ بالملاطفة، ويبدأ بالزيارة، ويبدأ بالنصيحة، ويبدأ بالاتصال .. الخ
خامسًا : تقديم المسن في وجوه الإكرام عامة
قال النبي ~ صلى الله عليه و سلم ~ : " أمرني جبريل أن أقدم الأكابر " [6] .
وهذه قاعدة عامة في تقديم الكبير والمسن في وجوه الإكرام والتشريف عامة ..
وقد أمر النبي ~ صلى الله عليه و سلم ~ أن يُبدأ الكبير بتقديم الشراب ونحوه للأكابر..فقال : "أبدؤا بالكبراء - أو قال – بالأكابر" [7] .
ولقد مارس هذا الخلق عمليًا، فتقول عائشة : " كان ~ صلى الله عليه و سلم ~ يستن وعنده رجلان، فأُوحي إليه : أن أعط السواك أكبرهما ! " [8] .
وعن عبدالله بن كعب :"كان ~ صلى الله عليه و سلم ~ إذا استن أعطى السواك الأكبر، و إذا شرب أعطى الذي عن يمينه" [9] .
قال ابن بطال : فيه تقديم ذي السن في السواك ، و يلتحق به الطعام والشراب و المشي والكلام [10] . ومن ثم كل وجوه الإكرام .
كما أمر ~ صلى الله عليه و سلم ~ بتقديم المسن في الإمامة :
ففي الصحيح من حديث مالك بْنِ الْحُوَيْرِثِ أن النَّبِيِّ~ صلى الله عليه و سلم ~قال :" .. فَإِذَا حَضَرَتْ الصَّلَاةُ فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ ، وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ " [11] .
وهو لا يتعارض مع تصريح النبي ~ صلى الله عليه و سلم ~ بتقديم الأحفظ لكتاب الله.
وجد جمع بينهما في حديث أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ حين قَال رَسُولُ اللَّهِ ~ صلى الله عليه و سلم ~ : " يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ وَأَقْدَمُهُمْ قِرَاءَة،ً فَإِنْ كَانَتْ قِرَاءَتُهُمْ سَوَاءً فَلْيَؤُمَّهُمْ أَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً، فَإِنْ كَانُوا فِي الْهِجْرَةِ سَوَاءً فَلْيَؤُمَّهُمْ أَكْبَرُهُمْ سِنًّا ..." [12] .
كما أن الكبير – في الهدي النبوي – أحق بالمبداءة في الكلام، والحوار، فعَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ وَسَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ وَمُحَيِّصَةَ بْنَ مَسْعُودٍ أَتَيَا خَيْبَرَ فَتَفَرَّقَا فِي النَّخْل،ِ فَقُتِلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَهْلٍ فَجَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ وَحُوَيِّصَةُ وَمُحَيِّصَةُ ابْنَا مَسْعُودٍ إِلَى النَّبِيِّ ~ صلى الله عليه و سلم ~ فَتَكَلَّمُوا فِي أَمْرِ صَاحِبِهِم،ْ فَبَدَأَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَكَانَ أَصْغَرَ الْقَوْمِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ ~ صلى الله عليه و سلم ~ :
"كَبِّرْ الْكُبْرَ " ..
قَالَ يَحْيَى يَعْنِي لِيَلِيَ الْكَلَامَ الْأَكْبَرُ .. الحديث [13]
سادسًا : التخفيف عن المسنين في الأحكام الشرعية
فالأحكام الشرعية في الإسلام دائما تأخذ في الاعتبار مبدأ التخفيف عن صاحب الحرج، كالمسن .. نرى ذلك بوضوح في جل التشريعات الإسلامية .. فقد خفف الشرع عن المسن في الكفارات والفرائض والواجبات..
أما التخفيف عن المسن في الكفارات، فقصة المجادلة (خولة بنت ثعلبة) في القرآن خير دليل، عندما وقع زوجها (أوس بن الصامت) – وهو الشيخ المسن – في جريمة الظهار، ونزل الحكم الشرعي العام : " وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4)" [ المجادلة ]..
وقال رسول الله ~ صلى الله عليه و سلم ~ لخولة المجادلة: "مُريه فليعتق رقبة"، فسألت التخفيف عن زوجها .فقال: "فليصم شهرين متتابعين". فقالت: والله إنه شيخ كبير، ما به من صيام. قال: "فليطعم ستين مسكينًا وسقًا من تَمر". فقلت: يا رسول الله، ما ذاك عنده ! فقال نبي الرحمة : "فإنا سنعينه بعَرَقٍ من تمر" ! ولم ينس الرسول الجليل والأب الرحيم أن يوصي المرأة الشابة بزوجها الشيخ فقال:"استوصي بابن عمك خيرًا". [14]
وفي الفرائض : أجاز للمسن أن يفطر في نهار رمضان - ويطعم - إذا شق عليه الصيام، وأن يصلي جالسًا إذا شق عليه القيام، وأن يصلي جالسًا إذا شق عليه الجلوس .. وهكذا..
ولقد عنّف الرسول ~ صلى الله عليه و سلم ~ معاذ بن جبل، ذات يوم، لما صلى إمامًا فأطال فشق على المأموم، قائلا :
"يَا مُعَاذُ ! أَفَتَّانٌ أَنْتَ ! [ ثَلَاثَ مِرَارٍ] ! فَلَوْلَا صَلَّيْتَ بِسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى، فَإِنَّهُ يُصَلِّي وَرَاءَكَ الْكَبِيرُ وَالضَّعِيفُ وَذُو الْحَاجَةِ !" [15]
ورخص للمسن أن يرسل من يحج عنه إن لم يستطع أن يمتطى وسيلة النقل . فعَنْ الْفَضْلِ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ خَثْعَمَ قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّ أَبِي شَيْخٌ كَبِيرٌ عَلَيْهِ فَرِيضَةُ اللَّهِ فِي الْحَجِّ ، وَهُوَ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْتَوِيَ عَلَى ظَهْرِ بَعِيرِهِ، فَقَالَ لها النَّبِيُّ ~ صلى الله عليه و سلم ~ :" فَحُجِّي عَنْهُ". [16] .
------------------------------------------------------------------------------------------------
[1] رواه الترمذي، باب ما جاء في إجلال الكبير، رقم 1945 ، قال الترمذي: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وحسنه صاحب الجامع الصغير، انظر: فيض القدير - (ج 5 / ص 543)
[2] صحيح - رواه أبو يعلى الموصلي 4145 ، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، برقم 167
[3] حسن - رواه أبو داود، باب في تنزيل الناس منازلهم، رقم 4203، وابن أبي شيبة، برقم 5\ 224، والبيهقي، رقم 2573، وحسنه الألباني في مشكاة المصابيح، 3\ 78
[4]صحيح – رواه الترمذي و رواه أحمد، برقم 6643، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة ( 5 / 230 )
[5] صحيح – رواه البخاري، باب تسليم القليل على الكثير، رقم 5763
[6] صحيح - رواه أبو بكر الشافعي في " الفوائد " ( 9 / 97 / 1 ) ، وهو في السلسلة الصحيحة ، برقم 1555
[7] صحيح – أخرجه أبو يعلى ( 2 / 638 )، وهو في السلسلة الصحيحة، برقم 1778
[8] صحيح - رواه أبو داود، كِتَاب الطَّهَارَةِ، بَاب فِي الرَّجُلِ يَسْتَاكُ بِسِوَاكِ غَيْرِهِ ح: 46، وهو في السلسلة الصحيحة - (ج 4 / ص 129)، برقم 1555
[9] صحيح - صحيح وضعيف الجامع الصغير - (ج 18 / ص 444)، برقم 8797.
[10] انظر:الألباني السلسلة الصحيحة - (ج 4 / ص 129)
[11] صحيح البخاري، كِتَاب الْأَذَانِ، بَاب إِذَا اسْتَوَوْا فِي الْقِرَاءَةِ فَلْيَؤُمَّهُمْ أَكْبَرُهُمْ ، ح: (595)
[12] صحيح مسلم ، كِتَاب الْمَسَاجِدِ وَمَوَاضِعِ الصَّلَاةِ، بَاب مَنْ أَحَقُّ بِالْإِمَامَةِ، ح: (1079)
[13] صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب إكرام الكبير، ح: (5677)، ومسلم، كتاب الْقَسَامَةِ وَالْمُحَارِبِينَ وَالْقِصَاصِ وَالدِّيَاتِ، بَاب الْقَسَامَةِ، ح: (3157).
[14] تفسير ابن كثير - (ج 8 / ص 36)
[15] صحيح البخاري، كِتَاب الْأَذَانِ، بَاب مَنْ شَكَا إِمَامَهُ إِذَا طَوَّلَ وَقَالَ أَبُو أُسَيْدٍ طَوَّلْتَ بِنَا يَا بُنَيَّ ، ح: (664)
[16] صحيح مسلم، كتاب الحج ، باب الحج عن العاجز، ح: (2376)