البحث
ثبوت نبوة خير الأنام بدليل الإلزام
ثبوت نبوة خير الأنام بدليل الإلزام:
تعرضنا في المحاور السابقة إلى المنهج النظري العقلي الذي اتبعه هرقل للتأكد من صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونعرض الآن دليلا جدليًا لم يأتي في قصة هرقل إلا إنه من الدلائل الهامة التي تثبت نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم, وهو دليل الإلزام، وهو دليل جدلي يستخدم عند مجادلة أهل الكتاب أو مناظرتهم بشأن نبوة خير الأنام صلى الله عليه وسلم.
دليل الإلزام:
الغاية من هذا الدليل هو إقامة الحجة على من يقر بنبوة موسي وعيسي عليهما السلام وينكر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فإذا كان لهؤلاء الأنبياء والرسل دلائل على نبوتهما وصدقهما، فإن دلائل نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر وأظهر.
فنسأل أهل الكتاب من اليهود: ما الذي جعلكم تؤمنون بموسي عليه السلام؟، عندها سوف تنحصر إجابتهم في الحديث عن دلائل نبوته عليه السلام من معجزات، وأخلاق، وتأييد الله له، ورسالته ومبادئها، أو غير ذلك من الأدلة.
وتكون إجابتنا عليهم عندها: إن كل ما ذكرتموه، فهو موجود في النبي محمد صلى الله عليه وسلم، بل أكثر من ذلك وأظهر وأوضح.
فمعجزات رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تجاوزت ألفًا وهي ظاهرة وواضحة وأعظم من معجزات موسي عليه السلام، فمن معجزاته صلى الله عليه وسلم انشقاق القمر وهي تفوق معجزة شق البحر لموسي عليه السلام، ومن معجزاته صلى الله عليه وسلم نبع الماء من بين أصابعه وهي تفوق معجزة ضرب موسي الحجر بالعصا فنبعت منه أعين الماء، وهكذا فما من معجزة أجراها الله عزوجل على يد نبي من الأنبياء السابقين إلا ولرسول الله صلى الله عليه وسلم مثلها وأكثر وأظهر، ويكفيه رسول الله صلى الله عليه وسلم معجزةً هذا القرآن الكريم المعجز في لغته وبلاغته، والمعجز في تشريعه، والمعجز بما كشفه من حقائق علمية لم تعرف إلا في العصور المتأخرة، والمعجز بما حواه من حقائق تاريخية وقصص الأمم السابقة ما لم يأتي في كتب السابقين مع تناسق وتماسك ووضوح وأسلوب أبلغ وأوضح من أسلوب الكتب السابقة.
أما أخلاقه صلى الله عليه وسلم فقد ذكرنا منها طائفة في هذه الرسالة ورأينا كيف أنه صلى الله عليه وسلم كان في قمة الأخلاق وتمتع بتوازن نفسي وسلوكي لا يكون إلا لمن أدبه ربه عزوجل فأحسن تأديبه صلى الله عليه وسلم.
أما دعوته ورسالته صلى الله عليه وسلم فهي أكمل الشرائع وأفضلها، وقد عرضنا مميزات الشريعة الإسلامية ورددنا على أهم شبهة يلقيها أعداء الإسلام.
لذلك فإن أهل الكتاب إذا أقروا بما سقناه لهم من أدلة وبراهين فلا يسعهم إلا أن يصدقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم ويؤمنوا بشرعته.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب النبوات: "ثم نبوة عين هذا النبيّ تكون ظاهرة؛ لأنّ الذي جاء به أكمل مما جاء به جميع الأنبياء، فمن أقرّ بجنس الأنبياء، كان إقراره بنبوة محمّد في غاية الظهور، أبين مما أقرّ أنّ في الدنيا نحاة، وأطباء، وفقهاء .. ولهذا كان من نازع من أهل الكتاب في نبوة محمد إما أن يكون لجهله بما جاء به، وهو الغالب على عامتهم، أو لعناده وهو حال طلاب الرياسة بالدين منهم، والعرب عرفوا ما جاء به محمد. فلمّا أقرّوا بجنس الأنبياء، لم يبق عندهم في محمّد شكّ.
وجميع ما يذكره الله تعالى في القرآن من قصص الأنبياء، يدلّ على نبوّة محمّد بطريق الأولى؛ إذ كانوا من جنس واحد، ونبوّته أكمل، فينبغي معرفة هذا، فإنّه أصل عظيم، ولهذا جميع مشركي العرب آمنوا به، فلم يحتج أحد منهم أن تؤخذ منه جزية. فإنّهم لما عرفوا نبوته، وأنّه لا بُدّ من متابعته، أو متابعة اليهود والنصارى، عرفوا أنّ متابعته أولى".
وناقش شيخ الإسلام ابن تيمية أهل الكتاب الذين يؤمنون بنبوة موسي وعيسي عليهما السلام، وينكرون نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فقال: "وإما أن لا يقروا برسالته إلى العرب ولا غيرهم بل قالوا فيه ما كان يقوله مشركو العرب من أنه شاعر أو ساحر أو مفتر كاذب ونحو ذلك؛ فيقال لهم فدليلكم أيضا باطل ولا يجوز أن تحتجوا بتقدير تكذيبكم لمحمد بشيء من كلام الأنبياء قبله سواء صدقتم محمدا صلى الله عليه وسلم في جميع ما يقوله أو في بعضه أو كذبتموه فدليلكم باطل فيلزم بطلان دينكم على كل تقدير وما ثبت بطلانه على كل تقدير فهو باطل في نفس الأمر فيثبت أنه باطل في نفس الأمر، وذلك أنكم إذا كذبتم محمدا لم يبق لكم طريق تعلمون به صدق غيره من الأنبياء فيمتنع مع تكذيبه القول بصدق غيره بل من اعتقد كذبه وصدق غيره لم يكن عالما بصدق غيره بل يكون مصدقا لهم بغير علم وإذا لم يكن عالما بصدقهم لم يجز احتجاجه قط بأقوالهم بل ذلك قول منه بلا علم ومحاجة فيما لا علم له بها فإن الدلائل الدالة على صدق محمد صلى الله عليه وسلم أعظم وأكثر من الدلائل الدالة على صدق موسى وعيسى ومعجزاته أعظم من معجزات غيره والكتاب الذي أرسل به أشرف من الكتاب الذي بعث به غيره والشريعة التي جاء بها أكمل من شريعة موسى وعيسى عليهما السلام وأمته أكمل في جميع الفضائل من أمة هذا وهذا ولا يوجد في التوراة والإنجيل علم نافع وعمل صالح إلا وهو في القرآن أو مثله أو منه وفي القرآن من العلم النافع والعمل الصالح ما لا يوجد مثله في التوراة والإنجيل فما من مطعن من مطاعن أعداء الأنبياء يطعن به على محمد صلى الله عليه وسلم إلا ويمكن توجيه ذلك الطعن وأعظم منه على موسى وعيسى ..
فيمتنع الإقرار بنبوة موسى وعيسى عليهما السلام مع التكذيب بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يفعل ذلك إلا من هو من أجهل الناس وأضلهم أو من أعظمهم عنادا واتباعا لهواه وذلك أن هؤلاء القوم احتجوا بما نقلوه عن الأنبياء ولم يذكروا الأدلة الدالة على صدقهم بل أخذوا ذلك مسلما وطلبوا أن يحتجوا بما نقلوه عن الأنبياء قبله وبما نقلوه عنه على صحة دينهم وهذه حجة داحضة سواء صدقوه أو كذبوه فإن صدقوه بطل دينهم وإن كذبوه بطل دينهم؛ فإنهم إن صدقوه فقد علم أنه دعاهم وجميع أهل الأرض إلى الإيمان به وطاعته كما دعا المسيح وموسى وغيرهما من الرسل وأنه أبطل ما هم عليه من الاتحاد وغيره وكفرهم في غير موضع ولهذا كان مجرد التصديق بأن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو إلى العرب يوجب بطلان دين النصارى واليهود وكل دين يخالف دينه فإن من كان رسولا لله فإنه لا يكذب على الله ومحمد صلى الله عليه وسلم قد علم منه أنه دعا النصارى واليهود إلى الإيمان به وطاعته كما دعا غيرهم وأنه كفر من لم يؤمن به ووعده النار وهذا متواتر عنه تواترا تعلمه العامة والخاصة وفي القرآن من ذلك ما يكثر ذكره".
وقال شيخ الإسلام في موضع آخر: "والمقصود هنا أنهم سواء صدقوا محمدًا صلى الله عليه وسلم أو كذبوه فإنه يلزم بطلان دينهم على التقديرين؛ فإنه إن كان نبيا صادقا فقد بلغ عن الله في هذا الكتاب كفر النصارى في غير موضع ودعاهم إلى الإيمان به وأمر بجهادهم فمن علم أنه نبي ولو إلى طائفة معينة يجب تصديقه في كل ما أخبر به وقد أخبر بكفر النصارى وضلالهم وإذا ثبت هذا لم يغن عنهم الاحتجاج بشيء من الكتب والمعقول بل يعلم من حيث الجملة أن كل ما يحتجون به على صحة دينهم فهو باطل وإن لم يبين فساد حججهم على التفصيل لأن الأنبياء لا يقولون إلا حقا كما أن المسيح عليه السلام لما حكم بكفر من كذبه من اليهود كان كل ما يحتج به اليهود على خلاف ذلك باطلا فكل ما عارض قول النبي المعصوم فهو باطل؛ وإن كذبوا محمدا تكذيبا عاما مطلقا وقالوا ليس هو نبي أصلا ولا أرسل إلى أحد لا إلى العرب ولا إلى غيرهم بل كان كذابا امتنع مع هذا أن يصدقوا بنبوة غيره فإن الطريق الذي يعلم به نبوة موسى وعيسى يعلم به نبوة محمد بطريق الأولى فإذا قالوا علمت نبوة موسى والمسيح بالمعجزات وعرفت المعجزات بالنقل المتواتر إلينا قيل لهم معجزات محمد صلى الله عليه وسلم أعظم وتواترها أبلغ والكتاب الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم أكمل وأمته أفضل وشرائع دينه أحسن وموسى جاء بالعدل وعيسى جاء بتكميلها بالفضل وهو قد جمع في شريعته بين العدل والفضل".