البحث
مقتل الإمام على و عم الجماعة
مقدمة
بعد أن تم أمر التحكيم اشتد أمر الخوارج، وأرسلوا رجلين منهم فقالا له: يا علي لا حكم إلا لله.
فقال: نعم، لا حكم إلا لله.
وقد قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه قبل ذلك: إن هذه كلمة حق أُريد بها باطل، فالخوارج يؤولونها على غير ما يراد بها.
فقال له هذان الرجلان من الخوارج: تب من خطيئتك، واذهب بنا إليهم نقاتلهم حتى نلقى ربنا.
فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: قد كتبنا بيننا وبين القوم عهودًا، وقد قال الله تعالى: [وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ ] {النحل:91} .
فقال أحدهما: أما والله يا علي لئن لم تدع تحكيم الرجال في كتاب الله، لأقاتلنك، أطلب بذلك رحمة الله ورضوانه.
فقال علي رضي الله عنه: تبًا لك، ما أشقاك، كأني بك قتيلًا تسفي عليك الريح.
فقال الرجل: وددت أن قد كان ذلك.
فقال علي: إنك لو كنت محقًا كان في الموت تعزية لك عن الدنيا، ولكن الشيطان استهواكم.
فخرجا من عنده يحرّضان الناس تحريضًا على الخروج على علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
وأعلنوا صراحة تكفيرهم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، وتكفيرهم لمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، وعمرو بن العاص، وأبي موسى الأشعري رضي الله عنهم جميعًا، وكفّروا كل من رضي بالتحكيم،
ومن كفر وجب قتله، لأنه أصبح مرتدًا، وبهذا استباحوا دماء من رضي بالتحكيم، واجتمعوا في بيت عبد الله بن وهب الراسبي، وهو أحد زعمائهم، فخطبهم خطبة بليغة زهّدهم في الدنيا، ورغبهم في الآخرة والجنة، وحثهم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم قال لهم:
فاخرجوا بنا من هذه القرية الظالم أهلها إلى جانب هذا السواد.
الخوارج ويوم النهروان
اجتمعوا هؤلاء جميعًا في مكان يُسمّى النهروان، وبدءوا يدعون من على شاكلتهم من الطوائف الأخرى، وقالوا: يجب أن نخرج منكرين لهذا التحكيم.
ثم قام زعيم آخر من زعمائهم وقال: إن المتاع بهذه الدنيا قليل، وإن الفراق لها وشيك، فلا يدعونكم زينتها أو بهجتها إلى المقام بها، ولا تلتفت بكم عن طلب الحق، وإنكار الظلم، إن الله مع الذين اتقوا، والذين هم محسنون.
وقام لهم زيد بن حصن الطائي، وتلا عليهم آيات كثيرة من القرآن الكريم منها: [يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الحِسَابِ] {ص:26}.
وهو يقصد بهذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، وقال أيضًا: قال الله تعالى: [وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ] {المائدة:44}.
وكفّر عليًّا ومن معه، ومعاوية ومن معه، وأخذوا يئولون الآيات حسب ما يريدون، ثم قام آخر فحثّهم على الجهاد في سبيل الله، فبكى منهم رجل يُقال أنه عبد الله بن سخبرة السلمي تأثرًا بهذه الكلمات، وحثّ الناس على الخروج لقتل هؤلاء الكفار، وقال: اخرجوا، اضربوا في وجوههم، وجباههم بالسيوف، حتى يُطاع الرحمن الرحيم، فإن أنتم ظفرتم، وأُطيع الله كما أردتم، أنابكم ثواب المطيعين له العاملين بأمره، وإن قُتلتم فأي شيءٍ أفضل من المصير إلى رضوان الله وجنته.
وبدءوا يحمّسون أنفسهم، والناس على الخروج على المسلمين الذين هم في نظرهم كفارًا.
ويعلّق ابن كثير على مواقفهم هذه فيقول: إن هؤلاء الخوارج من أغرب بني آدم، فسبحان مَنْ نَوّع خَلْقَهُ كما أراد.
وقال فيهم الكثير من العلماء إنهم ممن ينطبق عليهم قول الله تعالى: [قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا(103)الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا(104)أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ وَزْنًا] {الكهف:103، 104،105}.
فجمّعوا قواهم، وقرروا الخروج إلى المدائن في شمال شرق الكوفة، لكنهم غيّروا وجهتهم لقوة المدائن ومنعتها واتجهوا إلى مكان آخر قريب من الكوفة، وبدءوا يقطعون الطرق، ويقتلون المسلمين بحجة أن من رضي بالتحكيم فهو كافر مرتد يجب قتله، وقتلوا عبد الله بن خباب بن الأرت، وقتلوا زوجته رغم أنها كانت حاملًا.
فلما زاد فحشهم وكثرت جرائمهم قرر علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن يقاتلهم، فخرج لهم بجيش كبير اختلف الرواة في تقدير عدده، ولكنه على أي حال كان يزيد كثيرًا عن جيش الخوارج.
وقبل أن يدخل معهم في قتال أراد رضي الله عنه أن يجنّب المسلمين شر القتال بعد ما حدث في موقعتي الجمل وصفين، وقُتلت الأعداد الكبيرة من المسلمين، فبعث إليهم من يقول لهم: عودوا إلى طاعة أميركم، يحكم بينكم فيقتل مَنْ قتل أحدًا من المسلمين، ويعفو عن من لم يقتل.
فاجتمعوا وقالوا: كلنا قتل إخوانكم، وقد استحللنا دمائهم ودمائكم.
خرج إليهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه بنفسه، وبدأ في وعظهم، فقال لهم: ارجعوا إلى ما خرجتم منه، ولا ترتكبوا محارم الله، فإنكم قد سولّت لكم أنفسكم أمرًا تقتلون عليه المسلمين، والله لو قتلتم عليه دجاجة لكان عظيمًا عند الله سبحانه وتعالى، فكيف بدماء المسلمين؟
فلم يكن لهم جواب إلا أن تنادوا بينهم: لا تخاطبوهم، ولا تكلموهم، وتهيأوا للقاء الرب عز وجل، الرواح الرواح إلى الجنة، وكان هذا شعارهم.
رتّب علي بن أبي طالب رضي الله عنه جيشه، وجعلت راية أمان مع الصحابي الجليل أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه، وقال: من ذهب إلى هذه الراية فهو آمن. أملًا في تقليل عدد من يُقتل.
وذكرنا قبل ذلك أن عدد الخوارج في البداية كان اثنا عشر ألفًا، ولما حاورهم عبد الله بن العباس رضي الله عنه تاب منهم أربعة آلاف، ورجعوا معه إلى علي رضي الله عنه، وبعد المحاورات والمناقشات الأخيرة رجع أربعة آلاف آخرون، وبقي أربعة آلاف على رأيهم.
والتقى الجيشان فكانوا على أهبة الاستعداد للقتال، فعاد علي بن أبي طالب رضي الله عنه من جديد وقال لهم: هذه راية أمان مع أبي أيوب الأنصاري، من توجه إليها فهو آمن، ومن عاد إلى الكوفة فهو آمن، ومن ذهب إلى المدائن فهو آمن.
فبدأ البعض منهم بالانسحاب إما مكرًا وخديعة؛ ليخرج بعد ذلك، وإما خوفًا، فمنهم من توجه إلى راية الأمان مع أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه وأرضاه، ومنهم من توجه إلى الكوفة أو المدائن، وتركهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه كما وعدهم، وبقي منهم ألف صامدون لقتال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وجيشه - الذي قيل في روايات كثيرة إن قوامه كان ما بين الستين والثمانية وستين ألفًا - فقرر علي بن أبي طالب رضي الله عنه قتلهم.
ونذكر في هذا الشأن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تنبأ بظهور هذه الطائفة العجيبة، فقد روى الإمام مسلم عن زَيْد بْنِ وَهْبٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّهُ كَانَ فِي الْجَيْشِ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الَّذِينَ سَارُوا إِلَى الْخَوَارِجِ، فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: يَخْرُجُ قَوْمٌ مِنْ أُمَّتِي يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، لَيْسَ قِرَاءَتُكُمْ إِلَى قِرَاءَتِهِمْ بِشَيْءٍ، وَلَا صَلَاتُكُمْ إِلَى صَلَاتِهِمْ بِشَيْءٍ، وَلَا صِيَامُكُمْ إِلَى صِيَامِهِمْ بِشَيْءٍ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ يَحْسِبُونَ أَنَّهُ لَهُمْ، وَهُوَ عَلَيْهِمْ، لَا تُجَاوِزُ صَلَاتُهُمْ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، لَوْ يَعْلَمُ الْجَيْشُ الَّذِينَ يُصِيبُونَهُمْ مَا قُضِيَ لَهُمْ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَاتَّكَلُوا عَنِ الْعَمَلِ، وَآيَةُ ذَلِكَ أَنَّ فِيهِمْ رَجُلًا لَهُ عَضُدٌ، وَلَيْسَ لَهُ ذِرَاعٌ عَلَى رَأْسِ عَضُدِهِ مِثْلُ حَلَمَةِ الثَّدْيِ، عَلَيْهِ شَعَرَاتٌ بِيضٌ.
وفي البخاري ومسلم قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثًا، فَوَاللَّهِ لَأَنْ أَخِرَّ مِنَ السَّمَاءِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَكْذِبَ عَلَيْهِ، وَإِذَا حَدَّثْتُكُمْ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، فَإِنَّ الْحَرْبَ خِدْعَةٌ، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: سَيَخْرُجُ قَوْمٌ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، أَحْدَاثُ الْأَسْنَانِ، سُفَهَاءُ الْأَحْلَامِ، يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ الْبَرِيَّةِ، لَا يُجَاوِزُ إِيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ، فَأَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ، فَاقْتُلُوهُمْ، فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وعند الإمام أحمد عَنْ طَارِقِ بْنِ زِيَادٍ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ عَلِيٍّ إِلَى الْخَوَارِجِ، فَقَتَلَهُمْ ثُمَّ قَالَ: انْظُرُوا فَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
إِنَّهُ سَيَخْرُجُ قَوْمٌ يَتَكَلَّمُونَ بِالْحَقِّ، لَا يُجَاوِزُ حَلْقَهُمْ، يَخْرُجُونَ مِنْ الْحَقِّ كَمَا يَخْرُجُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، سِيمَاهُمْ أَنَّ مِنْهُمْ رَجُلًا أَسْوَدَ مُخْدَجَ الْيَدِ فِي يَدِهِ شَعَرَاتٌ سُودٌ، إِنْ كَانَ هُوَ فَقَدْ قَتَلْتُمْ شَرَّ النَّاسِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ فَقَدْ قَتَلْتُمْ خَيْرَ النَّاسِ.
فَبَكَيْنَا.
وعند أبي داود عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: سَيَكُونُ فِي أُمَّتِي اخْتِلَافٌ، وَفُرْقَةٌ، قَوْمٌ يُحْسِنُونَ الْقِيلَ، وَيُسِيئُونَ الْفِعْلَ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ، لَا يَرْجِعُونَ حَتَّى يَرْتَدَّ عَلَى فُوقِهِ، هُمْ شَرُّ الْخَلْقِ وَالْخَلِيقَةِ، طُوبَى لِمَنْ قَتَلَهُمْ وَقَتَلُوهُ، يَدْعُونَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ، وَلَيْسُوا مِنْهُ فِي شَيْءٍ، مَنْ قَاتَلَهُمْ كَانَ أَوْلَى بِاللَّهِ مِنْهُمْ.
قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا سِيمَاهُمْ؟
قَالَ: التَّحْلِيقُ.
وورد مثل هذه الأحاديث عن كثير من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا من دلالات نبوة النبي صلى الله عليه وسلم.
وروى الإمام أحمد عن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ يَقُولُ: كُنَّا جُلُوسًا نَنْتَظِرُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَخَرَجَ عَلَيْنَا مِنْ بَعْضِ بُيُوتِ نِسَائِهِ. قَالَ: فَقُمْنَا مَعَهُ، فَانْقَطَعَتْ نَعْلُهُ فَتَخَلَّفَ عَلَيْهَا عَلِيٌّ يَخْصِفُهَا، فَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَضَيْنَا مَعَهُ، ثُمَّ قَامَ يَنْتَظِرُهُ، وَقُمْنَا مَعَهُ، فَقَالَ: إِنَّ مِنْكُمْ مَنْ يُقَاتِلُ عَلَى تَأْوِيلِ هَذَا الْقُرْآنِ، كَمَا قَاتَلْتُ عَلَى تَنْزِيلِهِ.
فَاسْتَشْرَفْنَا وَفِينَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، فَقَالَ: لَا وَلَكِنَّهُ خَاصِفُ النَّعْلِ.
قَالَ: فَجِئْنَا نُبَشِّرُهُ.
قَالَ: وَكَأَنَّهُ قَدْ سَمِعَهُ. صححه الألباني.
فكانت هذه الأحاديث بشارات بالجنة، وبالثواب الجزيل لمن يقتل هؤلاء، وخطب علي بن أبي طالب رضي الله عنه في جيشه يحفزّهم على القتال، وبدأ القتال بين الفريقينن، وثبتوا ثباتًا عجيبًا حتى قُتل منهم ستمائة، وجُرح أربعمائة.
قال أبو أيوب الأنصاري: طعنت رجلًا من الخوارج بالرمح فأنفذته في ظهره، فأيقن أنه ميت، فقلت: أبشر يا عدو الله بالنار.
فقال: ستعلم أينا أولى بها صليًا.
فهو إلى آخر لحظةٍ في حياته مُصِرّ على ما هو عليه.
بعد انتهاء المعركة سريعًا، سلّم علي بن أبي طالب رضي الله عنه الأربعمائة إلى ذويهم ليداووهم، وردّ أسلابهم، وأعطاهم فرصة أخرى للتوبة، وسميت هذه المعركة معركة النهروان.
ولكن يبقى الدليل الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم أنه علامة هؤلاء القوم، وهو الرجل ذو الثدية، فأرسل علي بن أبي طالب رضي الله عنه أناس من جيشه ليبحثوا عنه، فلم يجدوه، فرجعوا إليه، وأخبروه بذلك، فقال رضي الله عنه في منتهى الثقة: والله ما كَذبتُ وما كُذبتُ، لئن أخرّ من السماء أحب إلي من أن أكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، عودوا إليهم فستجدوه.
فعادوا، فلم يجدوه، فأخبروه رضي الله عنه، فأعاد عليهم ما قاله لهم قبل ذلك فعادوا للمرة الثالثة، فوجدوه تحت مجموعة من القتلى على ضفاف النهر، فأخرجوه وكان أسودًا شديد السواد، منتن الريح، ووجدوا فيه العلامة.
فلما أُخبر علي بن أبي طالب رضي الله عنه بذلك سجد لله شكرًا، وسجد معه القوم سجدة طويلة يشكرون الله تعالى على أن وفقهم لهذا الخير من قتل هؤلاء الخوارج.
وكان قتال هؤلاء الخوارج أواخر سنة 37 هـ، أو أوائل سنة 38 هـ، وهو الأصح.
أما الخوارج الذين رجعوا عن قتال جيش علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وذهبوا إلى راية الأمان عند أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه، أو ذهبوا إلى البلاد القريبة، فلم يرجعوا عن اقتناع منهم بأنهم على الباطل، وإنما كان رجوعهم إما خوفًا، وإما تَقِيَّة، وإما استعدادًا وترتيبًا لقتال آخر في وقت لاحق، وظلّوا طوال هذا العام يخرجون على عليٍّ رضي الله عنه واحدًا تلو الآخر، فبعد موقعة النهروان التي قُتل فيها ستمائة وجُرح أربعمائة خرج عليه رضي الله عنه رجل يُسمّى الحارث بن راشد الناجي مع مجموعة من قومه وردد نفس المقولة: لا حكم إلا لله. وقاتلهم علي رضي الله عنه، وقتل منهم الكثير، كما خرج عليه أيضًا الأشهب بن بشر البجلي، وغيره كثير، وقاتلهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه جميعًا، فكان أمر الخوارج هذا يقلّب الأمور على علي بن أبي طالب رضي الله عنه في الكوفة، ولم يكن جيش علي بن أبي طالب رضي الله عنه لينًا سهلًا في يده يسمع له ويطيع كما ينبغي، فكان دائم الانقلاب عليه، وكثير الاعتراض على كثير من الأمور التي يراها عليّ رضي الله عنه مع أنه خير أهل الأرض في ذلك الوقت.
أما الموقف في الشام فكان جيش معاوية رضي الله عنه يطيعه تمامًا، ولم يكن هناك أي حالة خروج عليه رضي الله عنه.
فكان هذا ابتلاء من الله تعالى لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه.
الموقف في مصر
كانت مصر بعيدة عن ساحات القتال، كان يتولّى أمر مصر في هذا الوقت محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه من قِبل علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ولكن محمد بن أبي بكر رضي الله عنه لم يستطع السيطرة على الأمور بشكل كامل في مصر، وخاصة بعد وقعة صفين، وبعد خروج الخوارج على علي رضي الله عنه، وبدأت تقوى شوكة مَنْ هم على رأي معاوية، وعمرو بن العاص رضي الله عنهما من وجوب أخذ الثأر من قتلة عثمان رضي الله عنه قبل مبايعة علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهذا لسببين:
الأول: أن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه كان صغير السن، فلم يكن عمره يتجاوز 26 سنة عندما تولّى الأمور في مصر.
السبب الثاني: أن تولية محمد بن أبي بكر رضي الله عنهما لأمر مصر أثار حفيظة هؤلاء الذين يرون وجوب قتل من قتل عثمان رضي الله عنه أولًا قبل المبايعة، وذلك لأن محمد بن أي بكر رضي الله عنهما كان ممن شارك في حصار عثمان بن عفان رضي الله عنه، وكان من أهل الفتنة ابتداءً، وهو الصحابي الوحيد الذي شارك في هذا الأمر، ولكننا ذكرنا أنه رجع عن هذا الأمر، وتاب بين يدي عثمان رضي الله عنه لمّا ذكّره بأبيه أبي بكر رضي الله عنه، فبكى، وندم، وأخذ يدافع عنه، ويرد عنه أهل الفتنة، ولكن القوم غلبوه، ودخلوا على عثمان رضي الله عنه، وقتلوه، وشهدت بذلك السيدة نائلة بنت الفرافصة زوجة عثمان بن عفان رضي الله عنه.
وبدأ القوم يفكرون في القيام بثورة على محمد بن أبي بكر، وازدادت شوكتهم، وبدأت يد محمد بن أبي بكر رضي الله عنه تضعف على مصر، فلما علم بذلك معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، وكانت مصر أقرب إليه منها لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، وكان يتزعم العثمانيين كما سموا أنفسهم في مصر معاوية بن حديج السكوني، والذي كان على مقدمة الجيش الذي كان قادمًا لنصرة عثمان بن عفان رضي الله عنه قبل مقتله، ثم عاد مرة أخرى لما علموا بمقتله رضي الله عنه.
وأرسل معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه جيشًا قوامه ستة آلاف للسيطرة على الأمور في مصر بقيادة عمرو بن العاص رضي الله عنه، وكان رضي الله عنه خبيرًا بمصر قبل ذلك، فقد كان هو أول من فتحها، وتولّى إمارتها فترة طويلة في عهد عمر وعثمان بن عفان رضي الله عنهما، حتى تولّى الأمور عبد الله بن سعد بن أبي سرح.
وانضم الستة الآف الذين معه إلى عشرة الآف أخرى كانت مع معاوية بن حديج في مصر، فصاروا ستة عشر ألفًا، وتعاونا معًا، واستنفر محمد بن أبي بكر رضي الله عنه أهل مصر للخروج معه، وكان الكثير منهم من أهل اليمن ممن يسكنون مصر، فأبوا عليه، ورفضوا، فحثهم على الجهاد في سبيل الله فخرج معه على أكبر تقدير ألفان من المسلمين، وعلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه بهذا الأمر، فأرسل قوة كان فيها الأشتر النخعي لمساندة محمد بن أبي بكر ومن معه، ولما وصل الأشتر النخعي إلى مصر وفي منطقة تُسمى (القلزم) استقبله أحد الناس، وأعطاه شربة عسل، فلما شربها مات فقد كانت مسمومة، فقيل أن الذي أشار على الرجل إعطاء الأشتر النخعي تلك الشربة المسمومة هو معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، وهذا الرواية فيها نظر وفيها ضعف، وإن صحت ففيها حجة قوية لمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه؛ لأنه يستحل دماء كل من شارك في قتل عثمان بن عفان رضي الله عنه، وما كل هذه الحروب والمعارك إلا لهذا الأمر، وكان الأشتر النخعي ممن حاصر عثمان بن عفان رضي الله عنه وممن شجّع الناس على هذا الأمر.
فلما مات الأشتر النخعي ضعفت قوة وبأس فريق محمد بن أبي بكر رضي الله عنه؛ لأن الأشتر كان صاحب كلمة ورأي، وكان علمًا من أعلام القتال، ولما علم معاوية، وعمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه مات بهذه الطريقة قالا: سبحان الله، إن لله جنودًا من عسل.
كان عمرو بن العاص رضي الله عنه يريد أن تسير الأمور دون قتال، أرسل رسالة إلى محمد بن أبي بكر رضي الله عنه يقول له: إني لا أحب أن يصيبك مني ظفر، فإن الناس قد اجتمعوا في هذه البلاد على خلافك، ورفض أمرك، وندموا على اتباعك، فهم مسلموك إن التقينا، فاخرج منها، فإني لك لمن الناصحين والسلام.
لكن محمد بن أبي بكر رضي الله عنه لم يسمع لهذه الكلمات، وتقاتل الفريقان، فكان النصر في جانب عمرو بن العاص رضي الله عنه وهُزمت القلّة القليلة التي كانت مع محمد بن أبي بكر، وقُتل رضي الله عنه أثناء القتال، وقيل تبِعه بعض أهل الشام بعد القتال، فقتلوه في خِربة قريبة من موقع المعركة التي دارت بين الفريقين.
وقد حزن علي بن أبي طالب رضي الله عنه على قتله، فقد تربى محمد بن أبي بكر رضي الله عنه في حجره رضي الله عنه، فقد تزوّج عليٌّ رضي الله عنه السيدة أسماء بنت عميس رضي الله عنها بعد وفاة زوجها أبي بكر رضي الله عنه، وانقضاء عدتها، وربّى محمد بن أبي بكر رضي الله عنهما.
كما حزنت السيدة عائشة رضي الله عنها حزنًا شديدًا لقتله وضمّت إليها أولاده لرعايتهم.
تمّت السيطرة بالفعل لعمرو بن العاص على مصر وأصبح واليًا عليها من قبل معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، وأصبحت الشام، ومصر تحت سيطرة معاوية بن سفيان رضي الله عنه.
أما على الساحة العراقية، فقد كان القوم ينقلبون على عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه يومًا بعد يوم، حتى غضب عليهم غضبًا شديدًا، وخطب فيهم خطبة طويلة قال فيها: المغرور والله من غررتموه، ولَمَن فارقكم فاز بالسهم الأصيب، لا أحرار عند النداء، ولا إخوان ثقة عند النجاة، إنا لله وإنا إليه راجعون، ماذا منيت به منكم، عمي لا تبصرون، وبكم لا تنطقون، وصم لا تسمعون، إنا لله وإنا إليه راجعون.
يعلّق ابن كثير رحمه الله على هذا الأمر فيقول:
وكلما ازداد أهل الشام قوة ضعف جأش أهل العرق، هذا وأميرهم علي بن أبي طالب خير أهل الأرض في ذلك الزمان؛ أعبدهم، وأزهدهم، وأعلمهم، وأخشاهم لله عز وجل، ومع هذا كله خذلوه حتى كره الحياة، وتمنى الموت، وذلك لكثرة الفتن وظهور المحن، فكان يكثر أن يقول:
ما يحبس أشقاها؟! أي ما الذي يجعل أشقاها ينتظر؟
وأشقاها هو مَنْ يقتل علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، فهو رضي الله عنه يريد أن يستريح من عناء هؤلاء القوم الذين يجادلونه، ولا يطيعون له أمرًا، ويتمنّى الموت حتى يفارقهم، وقد ورد في هذا أحاديث منها ما رواه الإمام أحمد بسنده عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ قَالَ: قَدِمَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ مِنْ الْخَوَارِجِ فِيهِمْ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ الْجَعْدُ بْنُ بَعْجَةَ، فَقَالَ لَهُ: اتَّقِ اللَّهَ يَا عَلِيُّ، فَإِنَّكَ مَيِّتٌ.
فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: بَلْ مَقْتُولٌ ضَرْبَةٌ عَلَى هَذَا تَخْضِبُ هَذِهِ- يَعْنِي لِحْيَتَهُ مِنْ رَأْسِهِ- عَهْدٌ مَعْهُودٌ، وَقَضَاءٌ مَقْضِيٌّ، وَقَدْ خَابَ مَنْ افْتَرَى.
وعن عثمان بن صهيب، عن أبيه، قال علي: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَنْ أَشْقَى الْأَوَّلِينَ؟
قلت: عاقر الناقة.
قال: صَدَقْتَ، فَمَنْ أَشْقَى الْآخِرِينَ؟
قلت: لا علم لي.
قال: الَّذِي يَضْرِبُكَ عَلَى هَذَا، وَأَشَارَ إِلَى يَافُوخِهِ.
وكان يقول: وددت لو أنه قد انبعث أشقاكم، فخضب هذه من هذه، يعني لحيته من دم رأسه.
المؤامرة الثلاثية ومقتل رابع الخلفاء الراشدين
كان الخوارج لا يبرحون، كل مدّة يخرجون على علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فيقتل منهم الكثير، ثم يخرج عليه مرات ومرات، واستمرّت الأوضاع على هذا الاضطراب في العراق، بينما كانت الأوضاع هادئة في الشام، فقد كان أهلها يسمعون، ويطيعون لمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه.
وكان آخر ما فعله الخوارج في هذا التوقيت أن اجتمع ثلاثة منهم؛ عبد الرحمن بن ملجم الكندي، وكان في وجهه علامة السجود من كثرة العبادة، وكان معروفًا بها، وآخر اسمه البرك بن عبد الله التميمي، وآخر اسمه عمرو بن بكر التميمي، وتشاوروا فيما ينبغي أن يفعلوه، فهم غير راضين بأمر التحكيم، ويكفرون عليًا، ومعاوية ،وعمرو بن العاص رضي الله عنهم جميعًا، ويكفرون كذلك كل من رضي بالتحكيم، وأخذوا يترحمون على إخوانهم الذين قتلوا في النهروان، وفي المعارك التي تلتها وقالوا:
ماذا نفعل بالبقاء بعدهم، إنهم والله كانوا لا يخافون في الله لومة لائم.
ثم قالوا: فلو شرينا أنفسنا من هذه الدنيا، فأتينا أئمة الضلال فقتلناهم، فأرحنا منهم البلاد، وأخذنا منهم ثأر إخواننا.
فقال ابن ملجم: أنا أكفيكم أمر علي بن أبي طالب.
وقال البرك: وأنا أكفيكم معاوية.
وقال عمرو بن بكر: وأنا أكفيكم عمرو بن العاص.
فتعاهدوا على ذلك، واتفقوا على ألا ينقض أحد عهده، وأنهم سوف يذهبون لقتلهم، أو يموتون، وتواعدوا أن يقتلوهم في شهر رمضان، وكتموا الأمر عن الناس جميعًا إلا القليل، ومن هؤلاء القليل من تاب وحدّث بهذا الأمر.
ومما يُروى - ويصل إلى درجة الصحيح - أن امرأة تُسمّى قطام بنت الشجنة كانت فائقة الجمال، وقُتل أبوها وأخوها في يوم النهروان، جاءت إلى عبد الرحمن بن ملجم، وهو يتحدث مع بعض الناس في أمر قتل علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فلما رآها أراد أن يخطبها، فشرطت عليه أن يدفع ثلاثة آلاف درهم، وخادمًا، وجارية، وأن يقتل علي بن أبي طالب فقال: والله ما أتيت هذه البلدة - الكوفة - إلا لهذا الأمر.
فشجعته على هذا الأمر وتزوجها، فتجمّعت عليه النيّات.
وذهب عبد الرحمن بن ملجم لرجل آخر يُسمّى شبيب بن نجدة الشجعي، وقال له: هل لك في شرف الدنيا والآخرة؟
فقال شبيب: وما ذاك؟
قال: قتل علي.
فقال: ثكلتك أمك، لقد جئت شيئًا إدًّا، كيف تقدر عليه؟
فهو يستنكر عليه أن يفكر في قتل علي رضي الله عنه؛ لأنه كان قويًا شجاعًا يهابه الرجال، وله مواقف عظيمة في الحروب، وبطولات رائعة في القتال، ثم هو أمير المؤمنين.
فقال: أكمن له في المسجد، فإذا خرج لصلاة الغداة- الفجر - شددنا عليه فقتلناه، فإن نجونا شفينا أنفسنا، وأدركنا ثأرنا، وإن قُتلنا فما عند الله خير.
فقال: ويحك، لو كان غير علي لكان أهون علي، قد عرفت سابقته في الإسلام، وقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما أجدني أنشرح صدرًا لقتله.
فقال: أما تعلم أنه قتل أهل النهروان؟ نقتله بهم.
وأخذ يحفزه، فوافقه على أن يساعده في هذا الأمر.
وتواعد عبد الرحمن بن ملجم، والبرك بن عبد الله، وعمرو بن بكر على يوم واحد يقتلون فيه الثلاثة عليًا، ومعاوية، وعمرو بن العاص، ويخلّصون الأمة من أئمة الضلال في زعمهم.
فتواعدوا أن يقتلوا الثلاثة يوم السابع عشر من شهر رمضان، فتوجه البرك إلى دمشق حيث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، وتوجه عمرو بن بكر إلى الفسطاط بمصر حيث عمرو بن العاص رضي الله عنه، وكان عبد الرحمن بن ملجم بالكوفة حيث علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
مقتل الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه
انتظر عبد الرحمن بن ملجم في فجر هذا اليوم حتى خرج علي بن أبي طالب رضي الله عنه من بيته لصلاة الفجر، وأخذ يمرّ على الناس يوقظهم للصلاة، وكان لا يصطحب معه حراسًا، حتى اقترب من المسجد فضربه شبيب بن نجدة ضربة وقع منها على الأرض، لكنه لم يمت منها، فأمسك به ابن ملجم، وضربه بالسيف المسموم على رأسه، فسالت الدماء على لحيته، كما وصف الرسول صلى الله عليه وسلم مشهد قتله قبل ذلك.
ولما فعل ذلك عبد الرحمن بن ملجم قال: يا علي الحكم ليس لك ولا حكم إلا لله.
وأخذ يتلو قول الله تعالى: [وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ وَاللهُ رَءُوفٌ بِالعِبَادِ] {البقرة:207} .
ونادي علي بن أبي طالب رضي الله عنه: عليكم به.
فأمسكوا بعبد الرحمن بن ملجم، وفر شبيب في البلاد.
وقدم علي رضي الله عنه جعدة بن هبيرة رضي الله عنه ليصلّى بالناس صلاة الفجر، وحمله الناس إلى بيته، وعلم رضي الله عنه أن هذا السيف مسموم، وأنه ميّت لا محالة، وخاصّة أن هذه الضرية وقعت كما وصفها الرسول صلى الله عليه وسلم، فاستدعى عبد الرحمن بن ملجم، وكان مكتوف الأيدي، فقال له علي رضي الله عنه: أي عدو الله ألم أحسن إليك؟
قال: بلى.
قال: فما حملك على هذا؟
قال: شحذته - أي السيف - أربعين صباحًا، وسألت الله أن يُقتل به شر خلقه.
فقال له علي: والله ما أراك إلا مقتولًا، وقد استجاب الله لك.
ثم قال علي رضي الله عنه: إن مت فاقتلوه، وإن عشت فأنا أعلم ماذا أفعل به.
فقال جندب بن عبد الله: يا أمير المؤمنين، إن متَّ نبايع الحسن؟
فقال رضي الله عنه: لا آمركم ولا أنهاكم.
ولما احتضر رضي الله عنه جعل يكثر من قول لا إله إلا الله حتى تكون آخر كلامه، ثم أوصى الحسن والحسين بوصيته وكتباها:
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا ما أوصى به علي بن أبي طالب أنه يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، أرسله بالهدى، ودين الحق ليظهره على الدين كله، ولو كره المشركون [قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ العَالَمِينَ(162)لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ المُسْلِمِينَ] {الأنعام:162،163} أوصيك يا حسن وجميع ولدي ومن بلغه كتابي بتقوى الله ربكم، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، واعتصموا بحبل الله جميعًا، ولا تفرقوا، فإني سمعت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقول: إِنَّ صَلَاحَ ذَاتَ الْبَيْنِ أَفْضَلُ مِنْ عَامَّةِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ.
انظروا إلى ذوي أرحامكم، فصِلُوا؛ ليهون الله عليكم الحساب، الله الله في الأيتام، فلا تعفو أفواههم ولا يضيعن بحضرتكم، والله الله في جيرانكم فإنهم وصية نبيكم، ما زال يوصي بهم حتى ظننا أنه سيورثهم، والله الله في القرآن فلا يسبقنكم إلى العمل به غيركم، والله الله في الصلاة فإنها عمود دينكم، والله الله في بيت ربكم فلا يخلون منكم ما بقيتم، فإنه إن ترك لم تناظروا، والله الله في شهر رمضان فإن صيامه جنة من النار، والله الله في الجهاد في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم، والله الله في الزكاة، فإنها تطفئ غضب الرب، والله الله في ذمة نبيكم لا تظلمن بين ظهرانيكم، والله الله في أصحاب نبيكم فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصى بهم، والله الله في الفقراء والمساكين فأشركوهم في معاشكم، والله الله فيما ملكت أيمانكم فإن آخر ما تكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قال: أُوصِيكُمْ بِالضَّعِيفَيْنِ نِسَائِكُمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ.
الصلاة الصلاة، لا تخافن في الله لومة لائم يكفكم من أرادكم وبغى عليكم، وقولوا للناس حسنا كما أمركم الله، ولا تتركوا الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فيولي الأمر شراركم، ثم تدعون فلا يستجاب لكم، وعليكم بالتواصل والتباذل، وإياكم والتدابر، والتقاطع، والتفرق، وتعاونوا على البر، والتقوى، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان، واتقوا الله، إن الله شديد العقاب، حفظكم الله من أهل بيت، وحفظ عليكم نبيكم، أستودعكم الله، وأقرأ عليكم السلام، ورحمة الله.
ثم لم ينطق رضي الله عنه بعد ذلك إلا بلا إله إلا الله حتى كانت آخر لحظة في حياته رضي الله عنه وأرضاه قرأ: [فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ(7)وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ] {الزَّلزلة:7،8} .
ولقي ربه شهيدًا رضي الله عنه وأرضاه أحد العشرة المبشرين بالجنة، وزوج ابنة رسول الله صلى اله عليه وسلم، وابن عمه.
وغسّله ابناه الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، وصلّى عليه ابنه الحسن رضي الله عنه، ثم جاءوا بعبد الرحمن بن ملجم وأقاموا عليه الحدّ فقتلوه بسيفه.
محاولة قتل معاوية رضي الله عنه
أما معاوية رضي الله عنه، فقد انتظره البرك بن عبد الله الذي تعهد بقتله في نفس التوقيت، وضربه بالسيف المسموم فتجنّبه معاوية رضي الله عنه فأصاب فخذه، فحمله الناس إلى بيته، وقبضوا على البرك بن عبد الله، وداوى الناس معاوية رضي الله عنه فشفاه الله، ولم يمت من هذه الضربة.
أراد عمرًا وأراد الله خارجة
أما عمرو بن العاص، فذهب إليه عمرو بن بكر المتعهد بقتله، وانتظر خروجه لصلاة الصبح، ولكنه- سبحان الله - كان مريضًا في هذا اليوم، فعهد بالصلاة إلى نائبه خارجة، فما خرج إلى الصلاة ظنّه الرجل عمرو بن العاص، فذهب إليه وقتله، فأمسكوا به وقتلوه به، ونجّى الله عمرو بن العاص منه، وقال الناس: أراد عمرًا وأراد الله خارجة.
فصارت مثلًا لمن أراد شيئًا وأراد الله شيئًا آخر.
بعد مقتل علي بن أبي طالب رضي الله عنه أصبح المسلمون بلا خليفة، وبدأ المسلمون يفكرون في اختيار خليفة لهم.
الحسن بن علي رضي الله عنهما وعام الجماعة
في هذا التوقيت كانت إمارة الشام على وفاق مع معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، وكانت إمارة كبيرة وضخمة وقوية وحصينة، فكانوا يشعرون بقوة بأسهم، ولما استشهد علي بن أبي طالب رضي الله عنه اجتمع أهل العراق، وبايعوا الحسن بن علي رضي الله عنه وأرضاه؛ ليكون خليفةً للمسلمين، وهو اختيار موفَّق فالحسن رضي الله عنه كان ورعًا تقيًا عالمًا مجاهدًا، وهو ريحانة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال عنه الرسول صلى الله عليه وسلم أنه "سيّد" وكان يُلقّب بسيّد المسلمين، والأحاديث التي تدل على مكانة الحسن والحسين عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وحبه لهما كثيرة.
فاجتمع أهل العراق على مبايعته، وجاء قيس بن سعد بن عبادة رضي الله عنه وكان تحت إمرته على أذربيجان أربعون ألف مقاتل كلهم قد بايع عليًا رضي الله عنه على الموت قبل استشهاده، فجاء رضي الله عنه، يقول للحسن رضي الله عنه: امدد يدك نبايعك.
فلم يردّ عليه الحسن، ولم يرض بهذا الأمر، ولم يكن يريده؛ لأنه يعلم أن وراءه الدماء الكثيرة، ولكن مع إصرار قيس بن سعد بن عبادة قَبِل رضي الله عنه البيعة، وكان هذا يوم 17 رمضان سنة 40 هـ، وهو يوم وفاة علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
بويع الحسن رضي الله عنه في العراق، وكانت العراق تدير مساحة شاسعة من الدولة الإسلامية وبلاد فارس التي فُتحت.
أما أهل الشام فبعد استشهاد علي بن أبي طالب رضي الله عنه لم يجدوا بديلًا لخلافة المسلمين غير معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، ومما ينبغي أن نشير إليه في هذا المجال أنه طوال فترة خلافة علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ومع عدم مبايعتهم له، لم يطالبوا بالخلافة، ولم يطالب معاوية رضي الله عنه بالخلافة، بل إنهم قالوا:
إن أخذ علي بن أبي طالب الثأر من قتلة عثمان، فسوف نبايعه أميرًا على المسلمين، ولم يكن الأمر كما أُشيع في كتب الشيعة، والمستشرقين ومن تربى على أيديهم من المسلمين أن هذه المعارك الضخمة والحروب الكثيرة والدماء التي سفكت، إنما كانت لأجل الإمارة، والحكم، وهذا من الافتراء على صحابة النبي صلى الله عليه وسلم الذين ما قاتلوا إلا بعد اجتهادهم، ويقين كل من الفريقين أنه على الحق، وأنه بهذا القتال يرضي الله سبحانه وتعالى.
فبويع معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه بالخلافة من قِبل أهل الشام، وأصبح للمسلمين، ولأول مرة خليفتان، أحدهما في الشام، والآخر في العراق، وهذا لا يستقيم شرعًا، ولا يصح في الإسلام، بل ينبغي أن يكون للمسلمين خليفة واحد يسمع له الجميع ويطيع.
وكان الحسن بن علي رضي الله عنه لا يحب القتال، وهو ممن حاول أن يمنع أباه عليًّا رضي الله عنه من الذهاب إلى صفين، لولا أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أقنعه بأنه إنما يقيم شرع الله بمقاتلة من خرج على بيعة الإمام، فلما تولّى الحسن رضي الله عنه الخلافة رغِب في الكفّ عن القتال، وحفْظ الدماء، وعدم الدخول في مشاحنات، أو معارك بين المسلمين، لكن أهل لعراق أصرّوا على قتال أهل الشام وعلى رَدّ الإمرة إلى العراق، وثاروا كعادتهم عليه رضي الله عنه، واجتمعت الألوف المؤلّفة على أمر قتال أهل الشام، والقتال وإن كان له تأويل شرعي، إلا أن فيه مخالفة للإمام ،وقد خشِي الحسن رضي الله عنه من فتنة مخالفة كل هذه الجموع، فخرج رضي الله عنه على رأس جيش لقتال أهل الشام وهو كارهٌ لهذا الأمر، وعلم مع