البحث
الإخلاص
الإخلاص شرط قبول الأعمال الصالحة
قال الله تعالى: “قُلْ أمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأكُمْ تَعُودُونَ” (الأعراف: 29)،
وقال: “فَادْعُوا الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ” (غافر: 14)، وهو القائل لنبيه المصطفى صلوات الله عليه وسلامه:
“قُلْ إِنِّي أمِرْتُ أَنْ أعْبُدَ الله مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ” (الزمر: 11)، وفي الصحيح عَنْ مُعَاذ بنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ حِيْنَ بُعِثَ إلى الْيَمَنِ:
يَا رَسُولَ اللهِ أَوصِنِي، قَالَ صلى الله عليه وسلم: (أَخْلِصْ دِينَكَ يَكْفِكَ الْعَمَلُ الْقَليلُ)، وَرُوِيَ عَنْ ثوبان، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
(طُوبَى لِلْمُخْلِصِينَ أَولئِكَ مَصَابِيحُ الْهُدَى تَنْجَلِي عَنْهُمْ كُلُّ فِتْنَةٍ ظَلمَاء)، وَجَاءَ مِنْ حَدِيثٍ رَوَاهُ أَبُو أُمَامَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال:
(إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لا يَقْبَلُ مِنَ الْعَمَلِ إِلَّا مَا كَانَ خَالِصاً وَابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُهُ).
لا شرك ولا رياء
ويبين من الهدي النبوي أن مدار عمل العبد بين ثلاث: رياء أو شرك أو إخلاص، وقد قيل: ترك العمل بسبب الخلق رياء، وفعله لأجل الخلق شرك، وأن يكون
عملك كله لله فذلك هو الإخلاص، فالإخلاص أن يعافيك الله من الشرك والرياء، فلا تبالي إن زاد قدرك عند الناس أو قل، لأنك أخرجت الناس من مقصود عملك
وجعلته لله خالصا، فلا تحب أن يطلع الناس على صالح أعمالك كما لا تكره أن يطلعوا على سيئها، وان تستوي أعمالك وأفعالك في السر كما في العلن، وأن تريد
بطاعتك التقرّب إلى الله تعالى دون سواه، لا تنتظر حمدا من الناس أو مدحا من أحد، لا شيء يشوب نيتك سوى التقرّب إلى الله تعالى، فالمخلصُ لا رياء له،
والصادقُ لا إعجابَ له، فلا هو سعى لمدح يأتيه من الناس، ولا ابتغى أن يرضي نفسه فيعجب بها.
والإخلاص من أعظم الأسباب الجالبة لمحبة الله تعالى، لأن العمل إذا كان بعيداً عن الناس فإن ذلك يدل على شدة محبة العبد لله تعالى، ولأن كراهية اطلاع الناس
على العمل هي حال المخلصين الذين يحرصون على صفاء عظم محبة الله في قلوبهم عند ربهم، ولم يدفعهم إلى ذلك إلا عظم محبة الله في قلوبهم، فهم يريدون
الزيادة منها حتى تنغمر قلوبهم في بحر الإيمان.
حقيقة العبادة
والإخلاص هو أصل العمل، وبه يُقبل ويتحقق الثواب، فإن حقيقة العبادة أنها سر يتعلق بالقلب، وينبع من الروح، وليست شكلاً يتعلق بالمظهر، ولذلك فالأعمال بالنيات
كما أخبرنا صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته
لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه)، وهو حديث متفق على صحته، مجمع على عظم موقعه وجلاله، وهو أحد الأحاديث التي عليها مدارُ الإِسلام،
فالعمل بغير نية عناء، والنية بغير إخلاص رياء، والإخلاص من غير تحقيق هباء، قال تعالى: “وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً” (الفرقان: 23)،
ولذلك قيل لمن لم يخلص، لا تتعب، فعملك هباء منثور، فبالإخلاص ينال العبد أجر ما لم يعمل، وبالرياء أو بالشرك يخسر ما عمل.
والإخلاص هو العمل بالطاعة لله تعالى وحده، وهو شرط لقبول الأعمال الصالحة، لأن الله تعالى لا يقبل العمل إلا إذا كان خالصا له، موافقا للشريعة، ولما جاء به
سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، لأن النية والقول والعمل لا تكون مقبولة إلا إذا كانت موافقة لشرع الله تعالى، وقد روي أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
يا رسول الله الرجل يبتغي الأجر والذكر ما له؟ قال: (لا شيء له)، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا له وابتغي به وجهه)،
أما الذي يعمل عمل الطاعة وتكون نيته غير خالصة لله تعالى فهذا هو المحروم من الثواب، وعليه ذنب من كبائر الذنوب هو ذنب الرياء، والرياء هو العمل بالطاعة طلبا لمحمدة الناس،
فمن عمِل عمَل الطاعة وكانت نيته أن يمدحه الناس وأن يذكروه بأفعاله فليس له ثواب على عمله هذا، وقد سمى الرسول صلى الله عليه وسلم الرياء بالشرك الأصغر
، فالرياء ليس كفرا منقلا عن الملة لكن ذنبه عظيم ولذلك شبهه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشرك الأصغر.
أجر الإخلاص
وأخبرنا صلى الله عليه وسلم عن أن الإخلاص يأتي بالأجر، حتى وإن لم يقم المخلص بالعمل، فقال: (لقد خلّفتم بالمدينة رجالا ما قطعتم واديًا،
ولا سلكتم طريقًا إلا شَرَكُوكم في الأجر، حبسهم المرض)، وعلى الجهة الأخرى تضيع أعمال عظيمة على من لم يخلصها لوجه الله، فقد روى
الإمام مسلم والإمام أحمد والإمام النسائي: إن أول الناس يقضى عليه يوم القيامة رجل استشهد فأتي به فعرّفه (أي الله) نعمته فعرفها، قال فما فعلت فيها؟
قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: كذبت ولكنك قاتلت ليقال جريء فقد قيل ذلك ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل تعلم العلم وعلمه،
وقرأ القرآن فأتي به فعرّفه نعمته فعرفها، قال فماذا عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن قال : كذبت ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم وقرأت
القرآن ليقال هو قارئ فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل وسّع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله فأتى به فعرّفه نعمته فقال:
فماذا عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيه إلا أنفقت فيه، قال: كذبت ولكنك فعلته ليقال هو جواد فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه ثم ألقي في النار)،
يقول أبو هريرة ثم خبط رسول الله صلى الله عليه وسلم فخذي وقال: (يا أبا هريرة أولئك أول خلق تسعر نار جهنم بهم يوم القيامة).
جلب المغفرة
وإخلاص المرأة البغي كان سبب غفران ذنوبها وهي المرأة الزانية التي سقت الكلب فغفر الله لها، والقصة عند البخاري ومسلم عن أبي هريرة
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (بينما كلب يطيف بركية قد كاد يقتله العطش، إذ رأته بغي من بغايا بني إسرائيل، فنزعت مزقها،
فاستقت له به، فسقته إياه، فغفر لها به)، قال ابن القيم رحمه الله تعالى: (فتأمل ما قام في قلبها من حقائق الإيمان والعبودية في هذه اللحظة فمنها
أنها لم تعمله ابتغاء الأجر من أحد لأنها تعطي كلباً فلا تنتظر منه جزاء أو شيئا، وأنه لم يرها أحد إلا الله وهذا يدل عليه ظاهر الحديث، وأنها أتعبت
نفسها في سقايتها لهذا الكلب فنزلت في البئر مع أنها امرأة، ثم ملأت خفها بالماء وحملته بفيها ثم سقت هذا الكلب، فتأمل ما قام في قلبها من أسرار
الإخلاص فعندما تمت هذه الحقائق في قلبها، أحرقت أنوار هذا القدر من التوحيد ما تقدم منها من البغاء والزنا فغفر الله لها، فالعاقل الفطن هو الذي
يخلص النية لله تبارك وتعالى لأنّ الناس لا ينفعونه بشيء إذا نافقهم، بل هو الخاسر يوم القيامة، وصاحب الإخلاص هو أسعد الناس بشفاعة
النبي صلى الله عليه وسلم ففي الحديث: (أسعد الناس بشفاعتي من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه) رواه البخاري، وقال ابن تيمية:
(فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن أحق الناس بشفاعته يوم القيامة من كان أعظم توحيداً وإخلاصاً).