البحث
صدقه صلى الله عليه وسلم
الصدق علامة الإيمان
الإسلام دين خلق رفيع، وآداب اجتماعية، وقيم عليا، تحقق الخير والسعادة في الدنيا والآخرة للبشرية جمعاء، ورسوله الأكرم يقول: “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”، ويأتي الصدق واحداً من تلك القيم النبيلة التي تدعو إلى كمال النفس، والسموّ بها، حتى تكتب في سجل الصديقين، وإلى جوار المقربين في جنات النعيم، ذلك أن الصدق من أفضل الفضائل، وأنبل المكارم، وإنه ليعلي صاحبه عند جميع الناس، فيكون موضع ثقتهم، مرغوب الحديث عندهم، محبوبا لديهم، محترم الكلم، مقبول الشهادة، لذا فلا عجب من أن تأتي التوجيهات القرآنية داعية المؤمنين أن يكونوا مع الصادقين فقال تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ”، ونهى عز وجل عن الكذب وذمه فقال تعالى: “وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ”، وبين ربنا أن المؤمنين هم الصادقون في الإيمان والقول والعمل فقال تعالى: “إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ”، وأعد الله لأهل الصدق من الأجر والثواب ما توضحه الآية الكريمة: “قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ”.
الصادق الأمين
والصدق صفة الأنبياء الأولى، فهم عليهم السلام في القمة العليا من مكارم الأخلاق، ولهذا كان الصدق من صفاتهم الواجبة عليهم، التي تميزهم عن غيرهم، وسيد الصادقين محمد عليه الصلاة والسلام، شهد الله له صلى الله عليه وسلم بخلق الصدق فقال تعالى: “وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ”، وشهد أعداؤه له صلى الله عليه وسلم بالصدق، فقد شهد أبو سفيان بصدقه صلى الله عليه وسلم لما سأله هرقل عنه فقال له: “هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ، فَذَكَرْتَ أَنْ لَا فَقَدْ عرف أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَذَرَ الْكَذِبَ عَلَى النَّاسِ وَيَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ” رواه البخاري.
وشهدت أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها للرسول صلى الله عليه وسلم في قصة بدء الوحي إذ قالت له: “كَلَّا أَبْشِرْ فَوَاللَّهِ لَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا، فَوَاللَّهِ إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ وَتَحْمِلُ الْكَلَّ وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ وَتَقْرِي الضَّيْفَ وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ ..” متفق عليه.
وشهد له من رأوه للمرة الأولى، يقول عبد الله بن سلام رضي الله عنه: “لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ انْجَفَلَ النَّاسُ إِلَيْهِ، وَقِيلَ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَجِئْتُ فِي النَّاسِ لِأَنْظُرَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا اسْتَثْبَتُّ وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَرَفْتُ أَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كَذَّابٍ”. رواه الترمذي .
والصدق صفته صلى الله عليه وسلم التي سمي بها قبل بعثته وعرفه بها قومه، فكان الصادق الأمين، قيل: إن الأخنس بن شريق لقي أبا جهل يوم بدر فقال له: يا أبا الحكم: ليس هنا غيري وغيرك يسمع كلامنا، تخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب؟، فقال أبو جهل: “والله إن محمداً لصادق، وما كذب محمد قط”، وهكذا جاءت شهادة الأعداء قبل الأصدقاء، بل وشهد بها قومه جميعا حين ناداهم لينذرهم، فعن ابن عباس قال: “لما نزلت هذه الآية “وأنذر عشيرتك الأقربين” خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد الصفا فهتف يا صباحاه فقالوا: من هذا الذي يهتف؟، قالوا محمد، فاجتمعوا إليه، فقال: يا بني فلان، يا بني فلان، يا بني فلان، يا بني عبد مناف يا بني عبد المطلب فاجتمعوا إليه، فقال: أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا تخرج بسفح هذا الجبل أكنتم مصدقيّ، قالوا: ما جربنا عليك كذبا قال فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد” رواه البخاري.
عنوان الإسلام
والصدق عنوان الإسلام، وميزان الإيمان، وأساس الدين، وعلامة على كمال المتصف به، وله المقام الأعلى في الدين والدنيا، وبه تميز أهل الإيمان من أهل النفاق، والصدق أعلى شجرة الهدي النبوي الشريف، وقد وردت في السنة أحاديث كثيرة في فضل الصدق يقف على رأسها ما رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق، ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب، ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً”.
وأعظم ما في الصدق أنه يقود صاحبه إلى الجنة وهذا هو الفوز العظيم، وقد ضمن صلى الله عليه وسلم الجنة للصادقين؛ فعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “اضمنوا لي ستاً من أنفسكم أضمن لكم الجنة: اصدقوا إذا حدثتم، وأوفوا إذا وعدتم، وأدوا إذا ائتمنتم، واحفظوا فروجكم، وغضوا أبصاركم، وكفوا أيديكم”.
ليس الجنة فقط بل هو يضمن لمن يترك الكذب بيتاً في وسط الجنة، فعن أبي أمامة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “أنا زعيم ببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب، وإن كان مازحاً”، وهذا هو الربح الأوفر لأهل الصدق، وأي ربح أعظم من الجنة، ومن بيت في ربضها؟
ويعتبر النبي صلى الله عليه وسلم الصدق في الحديث علامة المؤمن التي يعرف بها، فعن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “يعرف المؤمن بوقاره ولين كلامه وصدق حديثه”، فالكذب لا يمكن أن يكون من بين الصفات التي يعرف بها المؤمن، وقد سئل صلى الله عليه وسلم: أيكون المؤمن جباناً؟، قال: “نعم”، قيل: أفيكون بخيلاً؟، قال: “نعم”، قيل: أفيكون كذاباً؟، قال: “لا”، ذلك أن أصل أعمال القلوب كلها الصدق، وأضدادها من الرياء والعجب والكبر والفخر والخيلاء والبطر والأشر والعجز والكسل والجبن والمهانة وغيرها أصلها الكذب.
باب الفلاح
والصدق أنواع؛ فصدق اللسان، وصدق في النية والإرادة، وصدق العزم، وصدق في الوفاء بالعزم، الصدق في الخوف والرجاء والتعظيم والزهد والرضا والتوكل والحب وسائر أحوال العبد مع الله، والصدق كما يكون في الأقوال يكون في الأعمال ويكون في الأحوال، فصدق الأقوال هو صدق اللسان وصدق الأفعال هو استمرار عمل العبد على ما أمره الله ورسوله به وما نهاه عنه، والصدق في الأحوال هو استواء أعمال القلب والجوارح على الإخلاص، فصدق الأقوال هو الصدق مع الناس، وصدق الأفعال مع شرع الله، والصدق في الأحوال هو صدق مع الله.
ونوه الله تعالى بالصدق في الأعمال فقال عز من قائل: “مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْديلاً”.
والصدق باب الفلاح لما رواه طلحة بن عبيد الله قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عن الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم “خمس صلوات في اليوم والليلة”، فقال: هل عليّ غيرها؟ قال: “لا إلا أن تطوع”، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “وصيام رمضان”، قال: هل عليّ غيره؟ قال: “لا إلا أن تطوع”، قال: وذكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة، قال: هل عليّ غيرها؟ قال: “لا إلا أن تطوع”، قال: فأدبر الرجل وهو يقول: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أفلح إن صدق”. رواه البخاري ومسلم.
ولقد وعى الصحابة الأوائل قيمة الصدق وعبروا عن وعيهم به أصدق تعبير فنجد الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوصي بالصدق فيقول: عليك بالصدق وإن قتلك، وقال أيضاً: لأن يضعني الصدق وقلّ ما يفعل أحب إليّ من أن يرفعني الكذب وقلّ ما يفعل، وقال: قد يبلغ الصادق بصدقه ما لا يبلغه الكاذب باحتياله، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: أربع من كن فيه فقد ربح: الصدق والحياء وحسن الخلق والشكر، ومن أقوال خامس الخلفاء الراشدين عمر بن عبد العزيز رحمه الله: ما كذبت مذ علمت أن الكذب يشين صاحبه، وقال الإمام الأوزاعي رحمه الله: والله لو نادى منادٍ من السماء أن الكذب حلال ما كذبت، وقال يوسف بن أسباط رحمه الله: لأن أبيت ليلة أعامل الله بالصدق أحب إليّ من أن أضرب بسيفي في سبيل الله، وقال الشعبي رحمه الله: عليك بالصدق حيث ترى أنه يضرك فإنه ينفعك، واجتنب الكذب حيث ترى أنه ينفعك فإنه يضرك، وقال عبد الملك بن مروان لمعلم أولاده: علمهم الصدق كما تعلمهم القرآن.