1. المقالات
  2. الشباب والنجاح في حياة الرسول _محمد شاهين
  3. الرسول شابا

الرسول شابا

الرسول شابا

الأدب الوفير


كان الرسول شابا مثلما كنا، لكنه لم يكن مثلنا، سعيد من الشباب من يقرأ عن شبابه فيكون قدوته، لكي لا يقع بين التجربة خطئوها وصوابها، بل يستغل شبابه في أفضل صورة وأحسن شكل، يأخذ من النبي ويفعل، فالشباب فرصة رائعة لحصد الكثير، وبناء ركيزة الحياة والمستقبل.

 

 

 

كان الرسول في شبابه كما كان في حياته كلها صاحب أدب وفير، وأخلاق محمودة، فأحبه الناس، يقول الدكتور زغلول النجار: رعى الغنم لأهل مكة على قراريط حتى الثانية عشرة من العمر، ثم سافر مع عمه في تجارة إلى بلاد الشام وهو دون الثالثة عشرة، وفي تجارة للسيدة خديجة بنت خويلد وهو دون الخامسة والعشرين، وعرف العزلة عن قومه والعبادة لخالقه من قبل أن يأتيه الوحي فلم يقترب من صنم أبدا، ولم يقترف سلوكا يعاب أبدا، ولا تلفظ بكلمة نابية أبدا([1]). ولرعى الغنم حكمة في تحمل مشاق العمل وتكبد عناء الشمس، وتحمل المسئولية في الصغر، قال النبي: ما بعث الله نبيا إلا راعي غنم، فقال له أصحابه: وأنت يا رسول الله؟ قال: ؟وأنا رعيتها لأهل مكة بالقراريط.([2])

 

فمن حسن أدبه صغيرا أن أبا طالب بعدما كفله كان إذا وضع الطعام لأبنائه انتهبوا وتكالبوا عليه فيكف النبي الكريم يده! ما أحلى أخلاقه وما أجمل أن نتعلم منه.كما كان  النبي كان رجلا منذ بداياته الأولى، رجلا في تحمله المسئولية، عمل مبكرا في رعي الغنم، لم يعش مرفها، ولا منعما، بل قست عليه الحياة فصنعت منه رجلا يتحمل الصعاب، مات أبيه قبل أن يولد، وأمه وهو في السادسة، وعمل في رعي الغنم وهو صغير، حتى ظهرت أمانته وجنى أرباح النجاح من ذيوع صيته في الأمانة والمهارة في التجارة، فوصلت إلى أسماع السيدة خديجة بنت خويلد، التي اتفقت معه على أن يتولى مسئولية تجارتها وهو دون الخامسة والعشرين. النجاح له أسباب، أخذ بها النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، فالنجاح أن تتعلم، أن تعمل، أن تشق طريقا لنفسك في الحياة تصنع بها ذاتك، بمهارة ورجولة، بعزم وعلم، بأمانة وصدق، أن تفي بوعودك، أن تبذل طاقتك في العمل، ولا تتعجل النتائج، فالنجاح في الصدق والعزيمة والعمل، هكذا كان الرسول شابا.

 

البركة تظهر في الصالحين، وفي النبي أكثر، فقد كان عيال أبي طالب عندما كفل النبي إذا أكلوا فرادى لم يشبعوا، وإذا أكل النبي معهم شبعوا، وكانت أم أيمن تقول: ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم شكا جوعا ولا عطشا لا في كبره ولا في صغره، وكان أبو طالب يقول له إنك لمبارك، تلك البركة التي كانت في النبي قد تظهر أيضا فيمن يسير على طريقه صلى الله عليه وسلم فقد قال النبي: المؤمن يشرب في معي واحد والكافر يشرب في سبعة أمعاء، تلك البركة في حياة النبي شابا كثيرا ما ظهرت، فقد استسقى أبو طالب لقومه بعد جدب أصابهم ومعه النبي لمعرفته ببركته في مكة فنزل المطر غزيرا من كل مكان

 وشكا أبو طالب العطش أثناء سيره مع النبي وهو مازال شابا صغيرا فانثنى صلى الله عليه وسلم على الأرض فخرجت الماء وسقى أبا طالب، وقال ابن الجوزي: لما أتت لرسول الله صلى الله عليه وسلم بضع عشرة سنة خرج في سفر مع عمه الزبير فمروا بواد فيه فحل من الإبل يمنع من يجتاز فلما رآه البعير برك (أي نزل إلى الأرض)، فنزل عن بعيره وركبه فسار حتى جاوز الوادي ثم خلى عنه، فلما رجعوا من سفرهم مروا بواد مملوء ما يتدفق (يمنعهم العبور)، فوقفوا فقال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم اتبعوني ثم اقتحمه فاتبعوه فأيبس الله الماء فقال الناس إن لهذا الغلام لشأن([3]).

 

سافر النبي صلى الله عليه وسلم مع عمه أبي طالب إلى الشام، وفي الطريق نزلوا على صاحب دير، الأديرة تقام بعيدا عن المدن للتعبد، رأي راهب النبي صلى الله عليه وسلم فسأل عمه عنه، وقال له إنه نبي وحذره من اليهود عليه  وهى بشارة من البشارات الأولى لرسالته ونبوته صلى الله عليه وسلم، النصارى كانوا يعرفون بما سيكون عليه موقف اليهود منه ومن رسالته (من قبل بعثته و إلى قيام الساعة): لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا، هذه اللمحات تحيي فينا اليقظة من هؤلاء الأعداء الذين يدعون حبهم للسلام معنا بعد طول عدوان على نبينا وعلى المسلمين من قبل رسالته وحتى الآن، ثم نزلوا على راهب ثان، فقال لعمه مثل ما قال الأول، ثم نزلوا بصري و بها الراهب بحيرا أعلم النصارى، وكانت سحابة تظل النبي الكريم أينما ذهب، فلما رآها بحيرا نزل إليهم على غير عادته مع المسافرين المارين من هذا المكان فتطلع في القوم حتى رأى النبي فمشى بينهم حتى وصل إليه صلى الله عليه وسلم وأمسك بيده وقال، هذا سيد العالمين، هذا يرسله الله رحمة للعالمين، فقال له أشياخ قريش، وما أعلمك؟ قال: إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يمر بشجر ولا حجر إلا خر ساجدا ولا يسجدان إلا لنبي، وإني لأعرفه بخاتم النبوة في أسفل من غضروف كتفه مثل التفاحة ثم دعاهم للطعام، طلب بحيرا أن يأتوا بالنبي معهم للداخل فقام الحارث بن عبد المطلب فأتى به فقال بحيرا، انظروا إليه عليه غمامة تظله، هذا نبي هذه الأمة الذي يرسله الله إلى الناس كافة. فأقبل عليه بحيرا يسأله: ياغلام أسألك باللات والعزى إلا ما أخبرتني عما أسالك عنه (وهذا دهاء بحير ليتأكد هل الفتى على الشرك أم لا فالنبي ما كان له أن يؤمن بالأصنام)، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تسألني باللات والعزى فوالله ما أبغضت بغضهما شيئا، فقال بحير فبالله إلا ما أخبرتني عما أسالك، فقال سلني عما بدا لك، فأخذ يسأله عن أمره في يقظته ومنامه، وتطلع إلى خاتم النبوة بين كتفيه،

ثم أقبل بحيرا إلى أبي طالب يسأله ما هذا الغلام منك، فقال ابني، قال بحيرا ما ينبغي أن يكون له أب حى! قال فانه ابن أخي، فقال له ارجع بابن أخيك إلى بلدك واحذر عليه اليهود فوالله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت ليبلغنه شرا فإنه كائن لابن أخيك شأن فأسرع به إلى بلاده ولا تذهب به إلى الروم فإن الروم إن رأوه عرفوه بالصفة فيقتلونه. نوع أخر من التحذير من الروم رغم أنهم على النصرانية وبحيرا على النصرانية ذاتها، ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون، ليس كل النصارى أعداء، ولا كلهم محبين، التاريخ الحديث ملئ بالمآسي التي أتتنا من الغرب، فيهم من يحب الإسلام ولم يعتنقه مثل الأمير تشارلز في انجلترا، وفيهم من أحبه واعتنقه كيوسف إسلام مطرب البوب الشهير سابقا بكات استفنس. تلك اللمحات ظهرت مبكرا حتى عن نزول الرسالة ذاتها على النبي، لذا فإن دلالاتها قوية، علينا الانتباه إليها وسط غبار الفكر الصاعد والهابط وسط الانهيار الذي نعانيه، تلك إشارات هامة، وعلينا وضعها في مكانها.

 

قال داود بن الحصين: فشب رسول الله صلى الله عليه وسلم يكلؤه الله ويحفظه ويحوطه من أقذار الجاهلية و معايبها لما يريد به من كرامته ورسالته حتى بلغ أن كان رجلا أفضل قومه مروءة وأحسنهم خلقا، وأكرمهم حسبا، وأحسنهم جوارا، وأعظمهم حلما، وأصدقهم حديثا، وأعظمهم أمانة، وأبعدهم من الفحش والأخلاق التي تدنس الرجال تنزها وتكرما. ما رئى ملاحيا، ولا مماريا أحدا، حتى ما اسمه في قومه إلا الأمين، لما جمع الله فيه من الأمور الصالحة، الأكثر مما قلت أن أهل مكة كانوا يتحاكمون للنبي أيام شبابه وقبل بعثته، كانوا يعرفون منه الحق والصدق ويطمئنون إليه، يصدقونه فيما يقول، وفيما يحكم به، هى إشارات هامة للشباب، شباب هذا العصر المنهار على رؤوسنا ورؤوسهم أيضا! فقد شاع سوء الخلق، واللعب بالبيضة والحجر، والكذب، وخيانة الأمانة، وأكل مال الناس، نعتبرها مظاهر المهارة! والبراعة، بل ومهارة الشباب في العمل والحياة الاجتماعية! عندما كان النبي صلى الله عليه وسلم شابا، كانت الجزيرة العربية تعاني، والعالم أيضا مما نعانيه اليوم وربما أكثر من الانهيار الحضاري والفساد الأخلاقي، انظروا إلى نموذج النبي وسط هذا المجتمع، ما اتسم به من أخلاق عالية وصدق وأمانه، وعدم نفاق أيضا! ذلك المرض الذي فتك بنا جميعا فلم نعد قادرين على إنهاء عمل أو إجراء دون التنازل عن بعض من ماء الوجه بإراقته أمام المسئولين نفاقا، أو رشوة! ندعى بعدها القدرة والبراعة على إنهاء أعمالنا بتلك الطريقة، النبي لم يفعل هذا، ولم يحبه، لا قبل البعثة حيث لم يكن نبيا، كان مثلنا جميعا، ولا بعده أيضا، مع هذا كان يقال عنه الأمين! فما أروع المثل، وما أجمله، أن يتحلى ويتجمل بتلك الأخلاق وسط هذا الظلام، ومع هذا تصبح تلك مكانته في المجتمع، إنه الخلق العالي وسط حطام المجتمعات المنهارة فسادا لا يجاريها ولا يخضع لها، فيحملون له كل هذا الاحترام والإكرام والمكانة، إنه نموذج رائع للشباب، نموذج يعلمنا كيف نتمسك بأخلاقنا، كيف نتمسك بالصدق، والأمانة وعدم النفاق، حتى وان كان الآخرون مختلفون.

 

في زمانه أيضا صلى الله عليه وسلم أيام كان شابا انتشرت الأغاني كما هى عندنا اليوم، و ربما أقل قليلا، فقد باتت اليوم كالسرطان في نفوسنا، والدود في عقولنا، يهل علينا المطرب على الفضائيات يفتينا بأن الله كان معه، وبأن الله ألهمه، وأنه يقرأ الفاتحة قبل الغناء، هبطت العقول والقلوب! فلا هم احترموا دينهم، ولا عقولنا، بالجميع انهار الإعلام فوق رؤوسنا، عن على رضى الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما هممت بشئ مما كان أهل الجاهلية يهمون به من الغناء إلا ليلتين عصمني الله منهما، قلت ليلة لبعض فتيان مكة ونحن في رعاية غنم أهلنا فقلت لصاحبي: أبصر غنمي حتى أدخل مكة فأسمر بها كما يسمر الفتيان، فقال: بلى، فدخلت حتى إذا جئت أول دار من دور مكة سمعت عزفا وغرابيل ومزامير. قلت: ما هذا، قيل: تزوج فلان فلانة، فجلست أنظر،وضرب الله على أذني، فوالله ما أيقظني إلا مس الشمس فرجعت إلى صاحبي فقال: ما فعلت، فقلت: ما فعلت شيئا، ثم أخبرته بالذي رأيت، ثم قال له ليلة أخرى: أبصر لي غنمي حتى أسمر بمكة، ففعل فدخلت فلما جئت مكة سمعت  مثلما سمعت تلك الليلة، وجلست أنظر فضرب الله على أذني فوالله ما أيقظني إلا مس الشمس فرجعت إلى صاحبي فقال: ما فعلت، قلت: لا شئ، فأخبرته بما رأيت فوالله ما هممت ولا عدت بعدهما لشئ من ذلك حتى أكرمني الله بنبوته. كان هذا قبل النبوة، حفظ الله رسوله من سماع الغناء، كيف وقد نزل الوحي والقرآن، وكيف وقد اكتمل لدينا القرآن، وكيف ولدينا مقرئي القرآن بأصوات جميلة يخشع لها القلب ويرق! لا أظن الغناء يستقيم مع وجوده إلا غناء هادف، يشجع على حياة أفضل، أو يدعو إلى فضيلة، وليست للإسفاف وإثارة الغرائز. حفظ الله لنبيه من سماع الأغاني لم يكن عبثا، النبي نفسه لم يحب سماعها، ولا اقبل عليها، ولا علم صحابته الغناء، لا هو أسمعهم إياه، ولا شجعهم عليه، حتى وإن أبيحت بشروط الكلمات والموسيقى يجب ألا تطرح مكانها، ألا تتعدى حدودها، المطرب تجاوز أجره في الحفلة الواحدة مليون ريال، وكثيرون في بلادنا يعيشون تحت خط الفقر، ما الإنتاج الذي يقدمه المطرب فيأخذ مقابله هذا الأجر؟ هذا قدوتنا، هذا حبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم لم يسمعها لا في شبابه ولا بعدها. ولا شجع الصحابة أيضا أن يفعلوا.

 

وعن على رضى الله عنه قال: قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: هل عبدت وثنا قط؟ قال: لا، قالوا فهل شربت خمرا قط؟ قال: لا ومازلت أعرف أن الذي هم عليه كفر، وما كنت أدري ما الكتاب ولا الإيمان، أما لماذا أتحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم قبل الرسالة، فلأنني أريد أن أقول للشباب أنه لم يكن من نبوة بعد، ولا رسالة ولا وحي، وتلك كانت أخلاقه الكريمة صلى الله عليه وسلم، استقامة من قبل الوحي، حتى بدون معرفة بالدين، إنها استقامة الفطرة، الرجولة الكاملة، الشباب وقد استخدم خلقه، وعقله، وقد كبت شهوته، تغلب على تهوره، النبي قدرة لنا، ولهم في شبابه وقبل دعوته، فلا هو شرب الخمر، ولا ذبح لغير الله، ولا عرف الزنى، ولا سمع الأغاني، هكذا كان النبي، وهكذا أتمنى للشباب. من يقتدي به صلى الله عليه وسلم فله الأجر، له النجاح في الدنيا، والسعادة في الدارين، له رضا الله، وحب الناس، له الجنة والحفظ من عذاب يوم القيامة حيث سبعة يظلهم الله في ظله في يوم لا ظل إلا ظله، له النجاح في العمل والدراسة، له الدنيا والآخرة معا.

 

شهد النبي صلى الله عليه وسلم في شبابه حرب الفجار، وحلف الفضول، كما عركته الحياة في العمل واليتم، والسفر والتجارة، عرف أيضا بعضا من السياسة وشاهدها عن قرب، روى البيهقي عن أبي هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما شهدت حلفا لقريش إلا حلف المطيبين، شهدته مع عمومتي وما أحب أن لي به حمر النعم وأني كنت نقضته. وهو حلف كريم، كان سببه أن رجلا من زبيد أتى لمكة ببضاعة فاشتراها منه العاص بن وائل ثم لم يسدد ثمنها، فتحالفت هاشم وزهرة وتيم لنصرته وإعادة حقه له من العاص بن وائل الذي دفعها له مرغما. كان هذا من فضائل الأخلاق في ذلك الزمان التي أحبها النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، كان بطبيعته إلى الحق أقرب وأميل، ولنصرة الحق أحب. كان النبي يعيش شابا يسمع ويرى الأحداث من حوله، شارك في بعضها كبناء الكعبة حيث كان يحمل الأحجار بنفسه معهم، ولم يشارك في البعض الأخر، لكنه كان يعيها، كان يفهم ما يحدث، لم ينعزل، لم يعش منفردا رغم تعبده في الغار، رغم مخالفته إياهم في الفكر والدين، كان عضوا فاعلا في المجتمع واعيا لما يدور. اذا نما الشباب على هذا المبدأ كانوا أكثر فعالية في المجتمع، أكثر قدرة على تحمل المسئولية، تجاه أنفسهم ومن حولهم أيضا.

 

وفي الخامسة والعشرين من عمره كان للنبي صلى الله عليه وسلم موعدا أخر مع السفر، إلى بلاد الشام للتجارة، وعلى الرغم من خوف عمه أبي طالب عليه صلى الله عليه وسلم من الروم كما حذره الراهب بحيرا من قبل إلا أنه لم يجد بدا، نصحه أن يطلب من السيدة خديجة رضي الله عنها أن يعمل لها في تجارتها فقال: يا ابن أخي أنا رجل لا مال لي وقد اشتد الزمان علينا وأحلت علينا سنون منكرة وليست لنا مادة ولا تجارة، وهذه عير قومك قد حضر خروجها إلى الشام، وهذه خديجة بنت خويلد تبعث رجالا من قومك في عيرانها فيتجرون لها في مالها ويصيبون منافع، فلو جئتها وعرضت نفسك عليها لأسرعت إليك وفضلتك على غيرك لما يبلغها عنك من طهارتك، وان كنت أكره أن تأتي الشام، وأخاف عليك من يهود، ولكن لا نجد من ذلك بدا. سمعت خديجة رضى الله عنها بخبر الحوار بين الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وأبي طالب فأرسلت للنبي، واتفقت معه أن تعطيه ضعف ما تعطى الآخرين! صفقة رابحة هي اذن للنبي وله، في هذا درس جيد، فالمنفعة تأتي لنا عندما تأتي للأخرين، لا يمكن للنجاح أن يأتي لفرد في مجتمع فاشل، قد يربح الطرف الأخر وأربح معه، لا يمكن أن أكسب على حساب الآخرين، البعض يعتقد هذا، وربما كان التفكير السلبي بهذا الشكل طريقا لفشلهم من حيث لا يعلمون، دع الآخرين يربحون معي، كلنا سنكون رابحين ولن يخسر أحد، جنى النبي تلك الصفقة لاشتهاره بحسن الخلق، بالأمانة، والمهارة في التجارة، خديجة رضي الله عنها كانت ماهرة أيضا، وتعرف أين تضع مالها، فوافق صلى الله عليه وسلم، وها هي الأمانة والاجتهاد في العمل تؤتي ثمارها في سن مبكرة للنبي، قوانين العمل واحدة، من قبل النبي ومن بعده، كان أمينا، ماهرا في التجارة، كلما زادت مهارتك، وأمانتك .. ربحت أكثر. فقال عمه له: إن هذا لرزق ساقه الله إليك.

 

أرسلت السيدة خديجة رضي الله عنها غلاما لها يدعى ميسرة مع النبي صلى الله عليه وسلم، وأوصته بأن يسمع له ويطيع، خرج النبي الكريم صلى الله عليه وسلم وعليه غمامة تظله، ونزل ببصري بجوار صومعة راهب يدعى نسطورا، فسأل الراهب عن النبي وهو جالس تحت الشجرة، هل في عينيه حمرة؟ أفاده ميسرة بأن نعم فقال له نسطورا بأن تلك الشجرة لم يجلس تحتها إلا نبي، وأنه يتمنى أن يدركه عند الرسالة ليكون من أتباعه، ذهب نحوه فقبله وأمن به وبرسالته، حفظ هذا ميسرة ووعاه ليبلغه للسيدة عائشة فيما بعد. عاد النبي من الرحلة بقافلة التجارة، يبيع ويشتري، قال ميسرة لقد تاجرنا أربعين سنة فما ربحنا مثل هذا الربح من قبل، هى شهادة للنبي الكريم بقدرته ومهارته في إدارة العمل، حسن اختيار المنتجات المطلوبة، شراؤها بسعر جيد، ثم بيعها بسعر جيد يحقق هامش ربح عال، بركة الله أيضا تلحق الصالحين أينما ذهبوا إن هم أخلصوا العمل واجتهدوا فيه. كانت السيدة خديجة أكثر مهارة عندما ضاعفت له الأجر الذي كانت قد اتفقت معه عليه مرة أخرى، فربح في الرحلة الواحدة ما كان يمكن أن يربحه في ثلاث أو اربع رحلات! هذا درس لنا في أعمالنا، لم تبخسه السيدة خديجة حقه، ولم تشح عليه بمكافأة تشجيعية نظير الجهد والعمل والإنتاج، حافز يؤديه التاجر الماهر لأصحاب المهارات والإخلاص والأمانة في أعمالهم. أحداث نتعلم منها كرجال الأعمال، ومديرين، وموظفين أيضا! والشباب أهم.

 

القصة لها معان جميلة، فصاحب العمل عليه تقييم الموظف وراتبه بشكل يتناسب مع قدراته وإمكانياته وأمانته، ألا يبخسه حقه إن هو أدى عمله بشكل جيد، رفعت مستحقاته مرتين، مرة بالاتفاق ونفذت ما اتفقت معه عليه، وأخرى بدون اتفاق عندما زادت الأرباح، مكافأة له على زيادة الربح المتوقع، إنها ما يطلق عليه في الإدارة الحديثة تمكين العاملين، أن يكون لهم سهم في عملهم، أن يتأثروا بالربحية، تعود عليهم وعلى حياتهم بمزيد من الرفاهية، أن يجنوا ثمار كدهم وإخلاصهم! امرأة علمتنا درسا في الإدارة مع النبي في الجاهلية، الموظف أيضا عليه مراعاة حق صاحب العمل والمال، أن يؤدي الأمانة بإخلاص، تلك المفاهيم تحتاج إلى إعادة زرع لها في المجتمع، ورغم تقدم علم الإدارة، فان تلك المفاهيم لم تتقدم! قل الإخلاص من الموظف، وشح صاحب العمل عن العطاء!

كما طلبت السيدة خديجة رضى الله عنها من النبي أن يعمل لها في تجارتها،طلبت منه أيضا أن يتزوجها، سمعت من غلامها ما حدث للنبي، ثم سمعت من راهبا نصرانيا بمكة أن نبيا أوشك أن يظهر بهذا المكان، ومن استطاعت أن تتزوجه فلتفعل، أيقنت خديجة رضي الله عنها الأمر، وعرفت أنه هو ذلك النبي، كانت خديجة حكيمة في قراراتها، كثير من زعماء قريش تمنوها زوجة لهم، هى فضلت اليتيم النبي! أراد الله لها الخير، أرادته هي لنفسها أيضا. كان عمر النبي خمسا وعشرين سنة، وكانت السيد خديجة رضي الله عنها في الأربعين من عمرها. الحب لا يعرف السن، فلا هي فكرت فيه ولا هو أيضا، ولم يكن من عقبة بينهما في سبيل هذا الأمر. الزواج محبب في الإسلام مبكرا، تزوج النبي الكريم صغيرا بمقاييس عصرنا، لكنه سن مناسب للزواج كما اختاره النبي لنفسه أن يكون، هو لنا قدوة صلى الله عليه وسلم.

 

وكما شاء الله للنبي أن يشهد بعضا من الأحداث العظام في عصره، شاء أن يكون من تلك الأحداث هدم الكعبة وإعادة بنائها من جديد، الكعبة كانت محور الحياة الدينية والاجتماعية والسياسية في مكة، هدمها شكل أهم أحداث ذلك العصر. اختلفت الروايات حول سبب حريق الكعبة وهدمها لإعادة بنائها، مما فعله العرب عند جمع المال لإعادة البناء أن رفضوا كل مال من حرام أو من زنا! رغم أنهم كانوا على الشرك! ويبيحون الزنا، في الوقت المناسب يعترفون أنه حرام! هي قوانين لله أراها تتحقق رغم أنف الرافضين لها، فالله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون، الخمر مباح في الدول غير الإسلامية وعندما انتشرت السيارة وحدثت الحوادث من السكارى منعوا القيادة للسكارى، فرضوا عليهم غرامات أيضا! الله له قوانين، تلك القوانين تسود، والله غالب على أمره، بالتجربة يعرفون، يكتشفون، فيطبقون الأمر في الحدود التي يعرفون أنها قد تنفعهم، أكثر النفع لا يعرفوه، فجزء كبير من العالم الذي نعيشه مخفي عنا، لا نعرفه، لا نشعر به، أحيانا نعرف بعضا منه مبكرا وأحيانا متأخرا، وأحيانا لا نكتشف الأمر، النبي عرفنا بعضا منه نقل لنا جزء من المعرفة، هذا من عظيم نعم الله علينا.

 

خاف الناس من هدم الكعبة، الكثيرون منهم كانوا قد عاصروا حادث الفيل، يعرفون منزلتها عند الله، وما قد يدركهم من الأذى حتى قرر الوليد بن المغيرة أن يبدأ هو بأول معول فيها، وقال: اللهم لا نريد إلا الخير، لم يفعل الناس مثله إلا في اليوم التالي حتى يرون ما سيصيب الوليد، فانه أصابه شر توقفوا وامتنعوا، لكن شيئا لم يحدث فبدءوا الهدم حتى وصلوا إلى أساسات الكعبة التي وضعها سيدنا إبراهيم عليه السلام فوجدوها حجارة خضراء منيرة ساطعة كادت تخطف أبصارهم. ووجدوا فيها بعضا من الكتابات السريانية وغيرها. بنوا الكعبة حتى وصلوا للركن، كل منهم يريد أن يحظى بشرف وضع الحجر الأسود، وبدت بينهما العداوة حتى طلب إليهم أمية ابن المغيرة ابن عبدالله أن يحكموا أول من يدخل عليهم على الجميع أن يرضى بحكمه، فوافقوا، فكان أول من دخل عليهم هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، كأن الله تعالى شرفه باختياره لتلك المهمة، برأيه حقن دم الناس، وبيده الشريفة وضع الحجر الأسود وهو يمسكه صلى الله عليه وسلم وطلب من كل قبيلة أن تمسك بطرفا من الثوب يرفعونه إلى مكانه وهو يمسكه، حتى وضعه مكانه وحقنت الدماء ورضي كل منهم. كان النبي وقتها شابا، الشباب يستطيعون الكثير إذن، ليس بالسواعد فقط، بل بالعقول أكثر، ما فعله النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ذو حكمة بالغة، إنها حكمة الشباب، المجتمع النشيط يستفيد من شبابه، ويفيدهم أيضا، عندما تنهار المفاهيم، يقل الوعي، يصبح الشاب طفلا في عيون المجتمع، فلا هو يفيد، ولا يستفيد.

 

 

 

 

 

------------------------------------------

[1] د. زغلول النجار، في معية خاتم النبياء والمرسلين، ص 15

[2] صحيح البخاري، كتاب الإجارة، باب 2

[3] ابنالجوزي، الوفا 1/101

المقال السابق المقال التالى
موقع نصرة محمد رسول اللهIt's a beautiful day