البحث
عند النوم ليلا
يعتقد كلّ الناس أن وراء خلق الليل حكما عديدة، وهي حقيقة أخبرنا الله عنها في قوله تعالى: "وَآيَةٌ لَهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ" ( يس، 37) . وأهم الحكم من غروب الشمس شيئا فشيئا وحلول الظلام رويدا رويدا بفضل هذا التعاقب وبفضل اختلاف درجة الحرارة بين الليل والنهار تتعوّد المخلوقات الحيّة على هذا الاختلاف فلا تتضرّر منه. إنّها رحمة من العلي القدير بعباده، وليكون ذلك تذكرة للناس الذين لم يفكّروا مرّة واحدة في تلك النعم.
المؤمن صاحب الأخلاق القرآنية يزداد اقتناعا بعد أن يعرف الحقائق بأن الله رؤوف بعباده تأييدا لما أخبرتنا به الآية 92 من سورة يوسف في قوله تعالى"...وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ" ( يوسف، 92 ) .
بلا شك فتعاقب الليل والنهار نعمة من نعم الله العديدة التي خلقها من أجل الإنسان وذلك مصداقا لقوله تعالى:"قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاء أَفَلاَ تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ" ( القصص، 71-72 ).
إنّ الله خالق الليل والنهار وهو الذي نظم تعاقبهما وهو الوحيد باستطاعته إنقاذ الإنسان من العتمة، ولو شاء لجعل الليل أو النهار إلى الأبد، لكن المخلوقات الحية لا تتحمل ذلك، وبالتالي تنعدم الحياة على وجه الأرض.
لا ريب أن الله تعالى خلق الليل والنهار بشكل يساعد على الحياة فوق الأرض رحمة وشفقة بعباده فيقول تعالى: "وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ" ( القصص، 73 ).
إنّ الإنسان العاقل وحده يستطيع اكتشاف الحكمة من خلق الليل والنهار وتعاقبهما بنظام ودقّة، والإنسان الذي يخاف الله ويعيش وفق الأخلاق القرآنية هو الذي يفكّر في الحكمة من ذلك، وقد وردت آيات عديدة في هذا الخصوص نورد البعض منها:
قال تعالى: "إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُِولِـي الأَلْبَـابِ" ( آل عمران 190). وقد ورد في سورة البقرة قوله تعالى: " إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ( البقرة، 164 )، وقال تعالى: "إِنَّّ فِي اخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ الله فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُـونَ" (يونس، 6). لقد خلق الله في الإنسان خلايا حيوية تساعد على النوم والاسترخاء بالليل وفي هذا الخصوص يقول الله تعالى: "هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ" ( يونس، 67 )، وكذلك قوله تعالى: "ذَالِكُمْ اللهُ رَبَّكُمْ خَاِلقُ كُلِّ شَيْءٍ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّي تُؤْفَكُونَ" ( المؤمن، 61 ).
بالرغم من أن الليل يمثل فرصة للراحة والاسترخاء فإن له خصوصية أخرى وهي السكون الذي يخيم على الدنيا فيكون وقتا مناسبا للعبادة، فسكون الليل يختلف عن حركة النهار فيصفو الذّهن و تحلو العبادة والدعاء تأييدا مصداقا لقوله تعالى: "إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْأًً وَأَقْوَمُ قِيلاً إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلاً وَاذْكُرْ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً" ( المزمل، 6-8 ). فأخطاء الإنسان لن تغفر وحاجاته لن تلبّى إلاّ إذا اجتهد بالدعاء ليلا، وبالليل أيضا يستطيع المؤمن تقييم نشاط يومه فيستحضر أخطاءه التي ارتكبها في يومه ويتفرّغ إلى الله بالتوبة والمغفرة ويسعي إلى قضاء وقته في الأعمال التي يرتضيها الله تعالى فيذكره كثيرا ويتقرّب إليه ولا يهتمّ بالتفكير إلاّ في ملكوت الله وآياته ونظام الكون والمخلوقات الحية وفي هذا النظام المتكامل والنعم التي خلقها الله والجنّة و النار ...
المؤمنون الذين يخصصون جزءا من الليل للعبادة ذكرهم الله في القرآن بقوله تعالى: "وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا" ( الفرقان، 64). ويقول تعالى: "تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ" (السجدة، 16)، ويقول تعالى: "أَمََّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُوا الأَلْبَابِ" ( الزمر، 9).
بهذا الشكل يخصص المؤمنون قسما من الليل للذكر والدعاء والعبادة فيكونون قد طبّقوا سنّة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد ذكر الله تعالى هؤلاء في قوله: "إِنَّّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيْ اللَّيْلِ وَنِصْفهُ وَثُلثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ..." ( المزمّل، 20). تتحدث الروايات عن أنّ الرسول صلى الله عليه و سلم كان يدعو الله بأن يجعله حسن الاخلاق، ومن بين تلك الأدعية قوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم إني حسّن خلقي وخلقي، اللهم باعد بيني وبين خطاياي" ( الإمام الغزالي، إحياء علوم الدين ، المجلد الثاني).
كما سبق أن ذكرنا فإنّ النوم هو عبارة عن موت مؤقت إذا شاء الله لن يفيق الإنسان بعده، لذلك على الإنسان أن يتضرع بالدعاء لله قبل الركون إلى النوم لعلّها تكون فرصته الأخيرة. هذه الحقيقة أخبرنا بها الله في قوله تعالى: "اللهُ يَتَوَفَّي الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمِسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا المَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ" ( الزمر،42).
خلاصة القول أن المؤمن الذي يعيش في رحاب الأخلاق القرآنية يستغل فرصة قد تكون الأخيرة قبل النوم وهي حقيقة يجب أن تكون نصب أعيننا فندعو الله من صميم الفؤاد بأن يغفر ذنوبنا ويعيننا في أعمالنا، ولا نستجير إلاّ به سبحانه وتعالى.