1. المقالات
  2. الفصل الثاني
  3. 1- محمد وزيد بن حارثة

1- محمد وزيد بن حارثة

تحت قسم : الفصل الثاني
2020 2010/05/02 2025/05/04
المقال مترجم الى : English

قال: وماذا عن مظاهر رحمته آنذاك؟

      قلت: تروي كتب السيرة النبوية: أن محمداً قبل البعثة، كان قد تزوج بخديجة بنت خويلد - أولى زوجاته - وكان لخديجة ابن أخ اسمه (حكيم بن حزام بن خويلد) يعمل بالتجارة، فقدم ذات مرة من الشام برقيقٍ يتَّجِرُ به، وفي الرقيق غلام بلغ أن يكون وصيفاً[1] اسمه زيد بن حارثة، فدخلتْ على حكيم عمته خديجة، وهي يومئذٍ زوج لمحمد. فقال لها حكيم: اختاري يا عمة أي هؤلاء الغلمان شئتِ فهو لك. فاختارت زيداً، فأخذته، فرآه زوجها محمد عندها، فرقَّ له قلبه، وتحركت في نفسه عواطف الرحمة تجاه الغلام، فاستوهبه منها، فوهبته له، فما كان أسرع من أن أعتقه فخلع عنه رِقَّ العبودية، وضمَّه إلى أسرته، وصار يكرمه إكرام الأب الرحيم لابنه... فعاش زيد في بيت محمد وقد امتلأت نفسه إعجاباً وثقةً بهذا الرجل، ومحبة له.

      وكان من خبر زيد هذا أول أمره، قبل أن يصبح عبداً رقيقاً ويباع في سوق النخاسة، أنه كان يعيش مع أمه سعدى، وأبيه حارثة، وكانت سعدى تنتمي إلى قبيلة، وحارثة ينتمي إلى قبيلة أخرى... وذات يوم، خرجت سعدى بابنها زيد إلى قبيلتها لتزيره أهلها.

      وحدث أن تعرض أهلها وهي بينهم، إلى غارة من غارات السلب والنهب التي تكثر في البادية... فسلب المغيرون منها ابنها هذا، وذهبوا به فباعوه في سوقٍ من أسواق العرب اسمه (سوق حباشة) وزيد يومئذٍ ابن ثمانية أعوام... ثم اشتراه حكيم بن حزام.

      لكنَّ حارثة أبا زيد، لم يهدأ له بال منذ أن سُبي ابنه، وجزع عليه جزعاً شديداً وبكاه.. حتى أنه نظم شعراً تحدث فيه عن مصيبته بابنه فقال:

بكيتُ على زيـدٍ ولم أدرِ ما فعـلْ

 

أَحَيٌّ يُـرجَّى أم أتى دونـه الأجَلْ

فوالله مـا أدري وإنـي لَسـائـلٌ

 

أغالكَ بعدي السهلُ أم غالك الجبلْ[2]

وياليت شعري هل لك الدهـرَ أوبةٌ

 

فحسبي من الدنيا رجوعُك لي بَجَلْ[3]

تُذكِّرنيـه الشمس عنـد طلوعهـا

 

وتعرض ذكـراه إذا غربُهـا أفـلْ[4]

وإن هبَّت الأرواح هيَّجـن ذِكـره

 

فيا طَولَ ما حُزني عليـه وما وَجَلْ[5]

سأُعمِل نَصَّ العِيسِ في الأرض جاهداً

 

ولا أسأم التطواف أو تسـأم الإبلْ[6]

حيـاتيَ أو تـأتـي عـليَّ منيَّتـي

 

فكلُّ امرئٍ فـانٍ وإن غـرَّه الأملْ

      وصار حارثة يذرع طرق الجزيرة العربية متقلباً بين أسواق العرب وأحيائها.. باحثاً عن ولده.. لعله يفوز بخبر عنه..

      وبعد طول بحثٍ وعناء.. فاز بالخبر! وعرف أن ابنه في مكة عند واحد من قبيلة قريش. فما كان أسرع من أن خفَّ هو وأخ له إلى مكة، وسألا عن زيد.. فعرفا أنه عند محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، فأسرعا إليه..

      وعند محمد، التقى حارثة بولده.. ففرح به.. وكان مثل ظَمِئٍ في صحراء، وقع على ماء.. وطلب من محمد أن يردَّ عليه ابنه بما شاء من فِداء.

      وأردفتُ: لكنَّ محمداً كان رحمةً للبشر، أتدري أيها الأب ستيفانو ماذا كان ردُّ محمد؟

      قال: ماذا كان ردُّه؟

      قلت: لقد التفت إلى حارثة وأخيه قائلاً: أَوَ ترضيان بأفضل من الفداء؟ قالا: وما هو؟ قال: أدعو زيداً وأُخيِّرُه، فإن اختاركما فذاك، وإن اختارني رضيت ورضيتما. فقال حارثة: لقد أنصفتَ وزدتَ على الإنصاف. فدعا محمد زيداً، فلما جاء، قال له: من هذان؟ فقال زيد: هذا أبي حارثة بن شراحيل، وهذا عمي كعب بن شراحيل. فقال محمد: خيَّرتُك: إن شِئتَ فأقِم عندي، وإن شئت فانطلق معهما!.

      وأردفتُ: أتدري أيها الأب ستيفانو بماذا ردَّ الغلام الذي لقي أباه بعدما ضاع منه؟

      قال: بماذا ردّ الغلام؟

      قلت: لقد ردَّ الغلام مخاطباً محمداً الرحيم العطوف قائلاً: بل أُقيم عندك!

وفوجئ حارثة!! فقال لابنه: يا زيد، أتختار العبودية على أبيك وأمك وبلدك وقومك؟! فقال زيد: إني قد رأيت من هذا الرجل شيئاً، وما أنا بالذي أفارقه أبداً.

      وأردفتُ: أكان الغلام يختار محمداً على أبيه لو لم يجد عنده من الرحمة والبرِّ به فوق ما يجده عند أبيه؟

      قال الأب ستيفانو بعد لحظة تأمل: لو كان محمد قبل البعثة فظاً غليظاً قاسياً، لما اختاره زيد على أبيه.

      قلت: أوَ تدري ماذا كانت النتيجة؟

      قال: النتيجة واضحة، لقد اختار زيد الإقامة عند محمد ولو مع العبودية، على الانطلاق مع أبيه ولو مع الحرية.

      قلت: بل أكثر من هذا.

      قال: وما ذاك؟

      قلت: لقد تجاوزتْ رحمة محمد زيداً إلى أبيه حارثة.

      قال: كيف؟

      قلت: لقد شعر محمد بأن أبا زيد قد أُصيب بخيبة أمل، بعد الذي عاناه في سبيل عثوره على ولده.. فما كان من محمد تطييباً لخاطر حارثة، إلا أن أخذ بيد زيد، وقام به إلى الملأ من قريش، فقال: اشهدوا يا معشر قريش، أن هذا ابني وارثاً وموروثاً - وكان نظام التبني معمولاً به في الجاهلية قبل الإسلام - فطابت نفس حارثة عند ذلك، وتأكد له أن ابنه لا ضير عليه، وغادر مكة مطمئناً إلى ما صار إليه ولده.

*               *               *

      قال الأب ستيفانو: وماذا كان من أمر زيد بعد ذلك؟

      قلت: لقد صار منذ ذاك يدعى زيد بن محمد، وعاش عند أبيه بالتبني على أطيب حال، حتى بُعِثَ رسول الله r، فصدَّقه زيد، وكان مِن أوَّل مَن أسلم، لمعرفته عن قرب بصدقه ورحمته... وبقي يدعى زيد بن محمد حتى نـزلت الآية القرآنية تبين حكم الأبناء بالتبني في الإسلام وتقول: ﴿ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ﴾[7]، فقال عند ذلك: أنا زيد بن حارثة[8].



[1] الوصيف: الغلام الذي بلغ سن الخدمة.

[2] غال: أهلك.

[3] بجل: بمعنى حسب أي يكفي.

[4] الأفول: غيبوبة الشمس.

[5] الأرواح: جمع ريح.

[6] النص: أقصى السير.

[7] الأحزاب/5.

[8] انظر في خبر زيد بن حارثة (السيرة النبوية) لابن هشام ط. دار ابن كثير ص 226 - 227 والحاشية /7 فيها - وانظر الروض الأنف للسهيلي /286-287 ط. دار الفكر - الطبقات الكبرى لابن سعد 4/40 وصحيح البخاري الحديث رقم /4409/وصحيح مسلم الحديث رقم /4451/ومشكاة المصابيح بتحقيق الألباني الحديث رقم /6142/وقال: متفق عليه.

المقال السابق المقال التالى
موقع نصرة محمد رسول اللهIt's a beautiful day