البحث
موقف اهل السنة والجماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
موقف اهل السنة والجماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
ومن أصول أهل السنة والجماعة
(1)-سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم (2) .
(1) أي أسس عقيدتهم.
(2) قوله : " سلامة قلوبهم وألسنهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ":
ولم يقل: وأفعالهم، لأن الأفعال متعذرة بعد موت الصحابة، حتي لو فرض أن أحداً نبش قبورهم وأخرج جثثهم، فإن ذلك لا يؤذيهم ولا يضرهم، لكن الذي يمكن أن يكون بعد موت الصحابة نحوهم هو ما يكون في القلب وما ينطق به اللسان.
· فمن أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، سلامة القلب من البغض والغل والحقد والكراهة، وسلامة ألسنتهم من كل قول لا يليق بهم.
فقلوبهم سالمة من ذلك، مملوءة بالحب والتقدير والتعظيم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما يليق بهم.
· فهم يحبون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، ويفضلونهم على جميع الخلق، لأن محبتهم من محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، من محبة الله، وألسنتهم أيضاً سالمة من السب والشتم واللعن والتفسيق والتكفير وما أشبه ذلك مما يأتي به أهل البدع، فإذا سلمت من هذا، ملئت من الثناء عليهم والترضي عنهم والترحم والاستغفار وغير ذلك. وذلك للأمور التالية:
أولاً: أنهم خير القرون في جميع الأمم، كما صرح بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: ( خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم ) (1).
ثانياً: أنهم هو الواسطة بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أمته، فمنهم تلقت الأمة عنه الشريعة.
ثالثاً: ما كان على أيديهم من الفتوحات الواسعة العظيمة.
رابعاً: أنهم نشروا الفضائل بين هذه الأمة من الصدق والنصح والأخلاق والآداب التي لا توجد عند غيرهم، ولا يعرف هذا من كان يقرأ عنهم من وراء جدر، بل لا يعرف هذا إلا من عاش في تاريخهم وعرف مناقبهم وفضائلهم وإيثارهم لله ولرسول صلى الله عليه وسلم.
· فنحن نشهد الله عز وجل على محبة هؤلاء الصحابة، ونثني عليهم بألسنتنا بما يستحقون، ونبرأ من طريقين ضالين: طريق الروافض الذين يسبون الصحابة ويغلون في آل البيت، ومن طريق النواصب الذين يبغضون آل البيت، وتري أن لأل البيت إذا كانوا صحابة ثلاثة حقوقة: حق الصحابة، وحق الإيمان، وحق القرابة من رسول الله صلي الله عليه وسلم.
· وقوله: " لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم " : سبق أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كل من اجتمع به مؤمناً به ومات على ذلك، وسمي صاحباً، لأنه إذا اجتمع بالرسول صلى الله عليه وسلم مؤمناً به، فقد التزم اتباعه، وهذا من خصائص صحبة الرسول صلى الله عليه وسلم ، أما غير الرسول، فلا يكون الشخص صاحباً له حتي يلازمه ملازمة طويلة يستحق أن يكون بها صاحباً.
كما وصفهم الله به في قوله تعالى : { والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلًّا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم} (1)....
(1) * استدل المؤلف رحمه الله لموقف أهل السنة بقوله: " كما وصفهم الله به في قوله تعالى: { والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم } [ الحشر: 10]".
· هذه الآية بعد آيتين سابقتين هما قوله تعالى: { للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون } [الحشر: 8]، وعلى رأس هؤلاء المهاجرين أبو بكر وعمر وعثمان وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين.
· ففي قوله : {يبتغون فضلاً من الله ورضواناً} : إخلاص النية، وفي قوله: {وينصرون الله ورسوله} : تحقيق العمل، وقوله: {أولئك هم الصادقون}، أي: لم يفعلوا ذلك رياء ولا سمعة، ولكن عن صدق نية.
· ثم قال في الأنصار: {والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة} [الحشر : 9] ، فوصفهم الله بأوصاف ثلاث: {يحبون من هاجر إليهم} ، {ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا} ، {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة}.
· ثم قال تعالى بعد ذلك: {والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ... } الآية، وهم التابعون لهم بإحسان وتابعوهم إلي يوم القيامة، فقد أثنوا عليهم بالأخوة، وبأنهم سبقوهم بالإيمان، وسألوا الله أن يجعل في قلوبهم غلاً لهم، فكل من خالف في ذلك وقدح فيهم ولم يعرف لهم حقهم، فليس من هؤلاء الذين قال الله عنهم: {والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا .. } .
· ولما سئلت عائشة رضي الله عنها عن قوم يسبون الصحابة، قالت: لا تعجبون ! هؤلاء قوم انقطعت أعمالهم بموتهم، فأحب الله أن يجري أجرهم بعد موتهم!!
· وقوله: {ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا} ، ولم يقل: للذين سبقونا بالإيمان، ليشمل هؤلاء السابقين وغيرهم إلي يوم القيامة.
· {ربنا إنك رءوف رحيم} : ولرأفتك ورحمتك نسألك المغفرة لنا ولإخواننا الذين سبقون بالإيمان.
(1) * " طاعة " : معطوف على قوله: " سلامة " ، أي : من أصول أهل السنة والجماعة: طاعة النبي صلى الله عليه وسلم ... إلخ.
(2) * السب: هو القدح والعيب، فإن كان في غيبة الإنسان، فهو غيبة.
أصحابي(1) فو الذي نفسي بيده (2)لو أن أحدكم أنفق مثل أحد (3) ذهباً ما بلغ مد (4) أحدهم ولا نصيفه " (5) .
(1) * أي: الذين صحبوه، وصحبه النبي صلى الله عليه وسلم لا شك أنها تختلف: صحبه قديمة قبل الفتح، وصحبة متأخرة بعد الفتح.
والرسول عليه الصلاة والسلام كان يخاطب خالد بن الوليد حين يصل بينه وبين عبد الرحمن بن عوف ما حصل ما المشاجرة في بني جذيمة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لخالد: ( لا تسبوا أصحابي ) ، والعبرة بعموم اللفظ.
ولا شك أن عبد الرحمن بن عوف وأمثاله أفضل من خالد بن الوليد رضي الله عنه من حيث سبقهم إلي الإسلام، لهذا قال: (لا تسبوا أصحابي)، يخاطب خالد بن الوليد وأمثاله.
وإذا كان هذا بالنسبة لخالد بن الوليد وأمثاله، فما بالك بالنسبة لمن بعدهم.
(2) * أقسم النبي عليه الصلاة والسلام، وهو الصادق البار بدون قسم : (لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً، ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه) (2).
(3) * " أحد " : جبل عظيم كبير معروف في المدينة.
(4) * المد: ربع الصاع.
(5) * " ولا نصيفه " ، أي نصفه. قال بعضهم: م الطعام ، لأن الذي يقدر بالمد والنصيف هو الطعام، أما الذهب فيوزن، وقال بعضهم: من الذهب ، بقرينة السياق، لأنه قال: " لو أنفق مثل أحد ذهباً، ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه" ، يعني : من الذهب.
وعلي كل حال ، فإن قلنا : من الطعام، فمن الطعام، وإن قلنا: من الذهب، فليكن من الذهب، ونسبة المد أو نصف المد من الذهب إلي جيل أحد من الذهب لا شيء.
· فالصحابة رضي الله عنهم إذا أنفق الإنسان مثل أحد ذهباً، ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه، والإنفاق واحد، والمنفق واحد، والمنفق عليه واحد، وكلهم بشر، لكن لا يستوي البشر بعضهم مع بعض، فهؤلاء الصحابة رضي الله عنهم لهم من الفضائل والمناقب والإخلاص والاتباع ما ليس لغيرهم، فإخلاصهم العظيم، واتباعهم الشديد، كانوا أفضل من غيرهم فيما ينفقون.
· وهذا النهي يقتضي التحريم، فلا يحل لأحد أن يسب الصحابة على العموم، ولا أن يسب واحداً منهم على الخصوص، فإن سبهم على العموم ، كان كافراً، بل لا شك في كفر من شك في كفره ، أما إن سبهم على سبيل الخصوص، فينظر في الباعث لذلك، فقد يسبهم من أجل أشياء خلقية أو دينية، ولكل واحد من ذلك حكمه.
***
ويقبلون (1) ما جاء به الكتاب والسنة والإجماع من فضائلهم ومراتبهم(2)..
(1) أي: أهل السنة.
(2) قوله : " ما جاء به الكتاب والسنة والإجماع من فضائهم ومراتبهم":
الفضائل: جمع فضيلة، وهو ما يفضل به المرء غيره ويعد منقبة له.
· والمراتب: الدرجات، لأن الصحابة درجات ومراتب، كما سيذكرهم المؤلف رحمه الله.
· فما جاء من فضائل الصحابة ومراتبهم، فإن أهل السنة والجماعة يقبلون ذلك:
فمثلاً ما جاء عنهم من كثرة صلاة أو صدقة أو صيام أو حج أو جهاد أو غير ذلك من الفضائل.
ويقبلون مثلاً ما جاء في أبي بكر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم حث على الصدقة، فجاء أبو بكر بجميع ماله (3)، وهذه فضيلة.
ويقبلون ما جاء به الكتاب والسنة من أن أبا بكر رضي الله عنه كان وحده صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في هجرته في الغار.
ويقبلون ما جاء به النص من قول الرسول عليه الصلاة والسلام في أبي بكر: (إن من أمن الناس على في ماله وصحبته أبو بكر ) (4).
وكذلك ما جاء في عمر وفي عثمان وفي على رضي الله عنهم وما جاء في غيرهم من الصحابة من الفضائل، يقبلون هذا كله.
وكذلك المراتب، فيقبلون ما جاء في مراتبهم ، فالخلفاء الراشدين هم القمة في هذه الأمة في المرتبة، وأعلاهم مرتبة أبو بكر، ثم عمر ثم عثمان ثم علي، كما سيذكره المؤلف.
(1) * دليل ذلك قول تعالى : {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين الذين أنفقوا وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى } [ الحديد: 10].
فالذين أنفقوا وقاتلوا قبل صلح الحديبية أفضل من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا، وكان صلح الحديبية في السنة السادسة من الهجرة في ذي ا لقعدة، فالذين أسلموا قبل ذلك، وأنفقوا وقاتلوا أفضل من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا.
· فإذا قال قائل: كيف نعرف ذلك؟
فالجواب: أن ذلك يعرف بتاريخ إسلامهم، كأن نرجع إلي " الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر أو " الاستيعاب في معرفة الأصحاب" لابن عبد البر أو غير ذل ك من الكتب المؤلف في الصحابة رضي الله عنهم، ويعرف أ، هذا أسلم من قبل أو أسلم من بعد.
· وقول المؤلف: " وهو صلح الحديبية " :
- هذا أحد القولين في الآية، وهو الصحيح، ودليله قصة خالد مع عبد الرحمن بن عوف، وقول البراء بن عازب: تعدون أنتم الفتح فتح مكة، وقد كان فتح مكة فتحاً، ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية. (5) رواه البخاري.
- وقيل: المراد فتح مكة، وهو قول كثير من المفسرين أو أكثرهم.
(1) المهاجرون: هم الذين هاجروا إلي المدينة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم قبل فتح مكة.
(2) الأنصار: هم الذين هاجر إليهم النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة.
· وأهل السنة يقدمون المهاجرين على الأنصار لأن المهاجرين جمعوا بين الهجرة والنصرة، والأنصار أتوا بالنصر فقط.
- فالمهاجرون تركوا أهلهم وأموالهم، وتركوا أو طانهم، وخرجوا إلي أرض هم فيها غرباء، كل ذلك هجرة إلي الله ورسوله، ونصرة لله ورسوله.
- والأنصار أتاهم النبي صلى الله عليه وسلم في بلادهم، ونصروا صلى الله عليه وسلم ، ولا شك أنهم منعوه مما يمنعون منه أبناءهم ونساءهم.
ودليل تقديم المهاجرين: قوله تعالي: {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين ابتعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه} [ التوبة : 100]، فقدم المهاجرين على الأنصار، وقوله: {لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار} [ التوبة: 117]، فقدم المهاجرين، وقوله في الفيء: {للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم...} [الحشر: 8]، ثم قال: {والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم} [ الحشر: 9].
(1) * أهل بدر مرتبتهم أعلى من مراتب الصحابة.
· وبدر مكان معروف، كانت فيه الغزوة المشهورة، وكانت في السنة الثانية من الهجرة في رمضان ، وسمي الله تعالي يومها يوم الفرقان.
· وسببها أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع أن أبا سفيان قدم بعير من الشام إلي مكة، فندب أصحابه من أجل هذه العير فقط، فانتدب منهم ثلاث مئة وبضعة عشر رجلاً، معهم سبعون بعيراً وفرسان وخرجوا من المدينة لا يريدون قتالاً، لكن الله عز وجل بحكمته جمع بينهم وبين عدوهم.
· فلما سمع أبو سفيان بذلك، وأن الرسول عليه الصلاة والسلام خرج إليه لتلقي العير، أخذ بساحل البحر، وأرسل صارخاً إلي أهل مكة يستنجدهم ، فانتدب أهل مكة لذلك، وخرجوا بأشراف همه وكبرائهم وزعمائهم، خرجوا على الوصف الذي ذكر الله عز وجل: {بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله} [ الأنفال: 47].
· وفي أثناء ذلك جاءهم الخبر أن أبا سفيان نجا باعير، فتأمروا بينهم في الرجوع، لكن أبا جهل قال: والله، لا نرجع حتي نقدم بدراً، فنقيم فيها ننحر الجزور، ونسقي الخمور، وتضرب علينا القيان، وتسمع بنا العرب ، فلا يزالون يهابوننا أبداً.
· وهذا الكلام يدل على الفخر والخيلاء والاعتزاز بالنفس، ولكن ولله الحمد كان الأمر علي عكس ما يقول، سمعت العرب بهزيمتهم النكراء فهانوا في نفوس العرب.
قدموا بدراً، والتقت الطائفتان، وأوحى الله تعالى إلى الملائكة: {إني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان ، ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب، ذلكم فذوقوه وأن للكافرين عذاب النار} [ الأنفال: 12-14] .
حصل اللقاء بين الطائفتين، وكانت الهزيمة- ولله الحمد - على المشركين، والنصر المبين للمؤمنين، انتصروا، وأسروا منهم سبعن رجلاً، وقتلوا سبعين رجلاً، منهم أربعة وعشرون رجلاً من كبرائهم وصناديدهم ، سحبوا، فألقوا في قليب من قلب بدر خبيثة قبيحة.
· ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم بعد أنتهاء الحرب بثلاثة أيام ركب ناقته، ووقف عليهم يدعوهم بأسمائهم وأسماء آبائهم: ( يا فلان ابن فلان! أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله؟ فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقًّا، فهل وجدتم ما وعدكم ربكم حقًّا ) . فقالوا: يا رسول الله! ما تكلم من أجساد لا أرواح لها؟ فقال: (والذي نفسي بيده، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم) (6)، والنبي عليه الصلاة والسلام وقف عليهم توبيخاً وتقريعاً وتندياً ، وهم قد وجدوا ما وعد الله حقًّا ، قال الله تعالى: {ذلكم فذوقوه وأن للكافرين عذاب النار} [ الأنفال:14] ، فوجدوا النار من حين ماتوا وعرفوا أن الرسول حق ، ولكن أني لهم التناوش من مكان بعيد.
· فأهل بدر الذين جعل الله علي أيدهم هذا النصر المبين والفرقان الذي هاب العرب به رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وكان لهم منزلة عظيمة بعد هذا النصر، اطل الله عليهم، وقال: ( اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم) (7)، فكل ما يقع منهم من ذنوب، فإنه مغفور، لهم، بسبب هذه الحسنة العظيمة الكبيرة التي جعلها الله تعالى على أيديهم.
· وفي هذا الحديث دليل على أن ما يقع منهم من الكبائر مهما عظم، فهو مغفور لهم.
- إما أنهم لا يمكن أن يكفروا بعد ذلك.
- وإما أنهم إن قدر أن أحدهم كفر، فسيوفق للتوبة والرجوع وإلي الإسلام.
وإيا كان، ففيه بشارة عظيمة لهم، ولم نعلم أن أحداً منهم كفر بعد ذلك.
(1) * أصحاب الشجرة هم أصحاب بيعة الرضوان (8).
· وسبب هذه البيعة أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة إلي مكة يريد العمرة، ومعه أصحابه والهدي، وكانوا نحو ألف وأربع مئة رجل، لا يريدون إلا العمرة، فلما بلغوا الحديبية، وهي مكان قرب مكة، في طريق جدة الآن، بعضها من الحل وبعضها من الحرم، وعلم بذلك المشركون ، منعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، لأنهم يزعمون أنهم أهل البيت وحماة البيت، {وما كانوا أولياءه إن إولياءه إلا المتقون} [الأنفال: 34]، وجرت بينهم وبينهم مفاوضات.
· وأري الله تعالي من آياته في هذه الغزوة ما يدل على أن الأولي تنازل الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه لما يترتب على ذلك من الخير والمصلحة، فإن ناقة الرسول عليه الصلاة والسلام بركت وأبت أن تسير، حتي قالوا: " خلأت القصواء" ، يعني: حرنت وأبت المسير. فقال النبي صلى الله عليه وسلم مدافعاً عنها: (والله ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل). ثم قال : (والذي نفسي بيده، لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله ، إلا أعطيتهم إياها) (9) .
وجري التفاوض، وأسل النبي صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان، لأن له رهطاً بمكة يحمونه، أرسله إلي أهل مكة، يدعوهم إلي الإسلام، ويخبرهم أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما جاء معتمراً للبيت، فشاع الخبر بأن عثمان قد قتل، وكبر ذلك على المسلمين، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم إلي البيعة، يبايع أصحابه على أن يقاتلوا أهل مكة الذين قتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت الرسل لا تقتل، فبايع الصحابة رضي الله عنهم النبي صلى الله عليه وسلم على أن يقاتلوا ولا يفروا إلي الموت. وكان النبي صلى الله عليه وسلم تحت شجرة يبايع الناس، يمد يده فيبايعونه على هذا البيعة المباركة التي قال الله عنها: {إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم} [ الفتح: 10]، وكان عثمان رضي الله عنه غائباً، فبايع النبي صلى الله عليه وسلم بيده عن يد عثمان، وقال بيده اليمني: " هذه يد عثمان".
ثم تبين أن عثمان لم يقتل، وصارت الرسل تأتي وتروح بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وقريش، حتي انتهي الأمر على الصلح الذي صار فتحاً مبيناً للرسول عليه الصلاة والسلام.
· هؤلاء الذين بايعوا قال الله عنهم: {لقد رضي الله عن المؤمنين إذا يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحاً قريباً ، ومغانم كثيرة يأخذونها وكان الله عزيزا حكيماً} [ الفتح 18-19].
· وكان من جملة المبايعين أبو بكر وعمر وعثمان وعلي.
فوصفهم الله تعالي بالإيمان، وهذه شهادة من الله عز وجل بأن كل من بايع تحت الشجرة، فهو مؤمن مرضي عنه، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: (لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة)، فالرضى ثابت بالقرآن، وانتفاء دخول النار ثبت بالسنة.
· وقوله النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة) ، قد يقول قائل: كيف نجمع بينه وبين قوله تعالي: {وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضياً} [مريم:71]؟
فالجمع من أحد وجهين:
الأول: أن يقال: إن المفسرين اختلفوا في المراد بالورود، فقال بعضهم: هو المرور على الصراط، لأن هذا نوع ورود بلا شك، كما في قوله تعالي: {ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون} [ القصص: 23]، ومعلوم أنه لم ينزل وسط الماء، بل كان حوله وقريباً منه، وبناء على هذا، لا إشكال ولا تعارض أصلاً.
والوجه الثاني: أن من المفسرين من يقول: المراد بالورود الدخول، وأنه ما من إنسان إلا ويدخل النار، وبناء على هذا القول، فيحمل قوله: (لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة). لا يدخلها دخول عذاب وإهانة ، وإنما يدخلها تنفيذاً للقسم: {وإن منكم إلا واردها}، أو يقال: إن هذا من باب العام المخصوص بأهل بيعة الرضوان.
· وقوله: " الشجرة ": الشجرة هذه شجرة سدر، وقيل: شجرة سمر، ولا طائل تحت هذا الخلاف، كانت ذات ظل، فجلس النبي صلى الله عليه وسلم تحتها يبايع الناس، وكانت موجودة في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام وعهد أبي بكر رضي الله عنه وأول خلافه عمر، فلما قيل له: إن الناس يختلفون إليها - أي: يأتونها - يصلون عندها، أمر رضي الله عنه بقطعها، فقطعت.
قال في " الفتح " (10): ( وجدته عند ابن سعد بإسناد صحيح، لكن في " صحيح البخاري" عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: رجعنا من العام المقبل يعني: بعد صلح الحديبية فما اجتمع منا اثنان على الشجرة التي بايعنا تحتها، كانت رحمة من الله. وهكذا قال المسيب والد سعيد: فلما خرجنا من العام المقبل، نسيناها، فلم نقدر عليها) (11).
وهذا لا ينافي ما ذكره ابن حجر عن ابن سعد، لأن نسيانها لا يستلزم عدمها ولا عدم تذكرها بعد والله أعلم.
وهذه من حسنات عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لأننا نظن أن هذه الشجرة لو كانت باقية إلي الآن، لعبدت من دون الله.
(1) أي أهل السنة والجماعة.
· والشهادة بالجنة نوعان: شهادة معلقة بوصف، وشهادة معلقة بالشخص.
- أما المعلقة بالوصف، فأن نشهد لكل مؤمن أنه في الجنة، وكل متق أنه في الجنة، بدون تعيين شخص أو أشخاص.
وهذه شهادة عامة، يجب علينا أن نشهد بها، لأن الله تعالي أخبر به، فقال تعالى: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات النعيم ، خالدين فيها وعد الله حقا وهو العزيز الحكيم} [لقمان 8-9]، وقال: {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين } [ آل عمران: 133].
- وأما الشهادة المعلقة بشخص معين، فأن نشهد لفلان أو لعدد معين أنهم في الجنة.
وهذه شهادة خاصة، فنشهد لمن شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم ، سواء شهد لشخص معين واحد أو لأشخاص معينين.
(1) * مثال ذلك ما ذكره المؤلف بقوله: " كالعشرة "، يعني بهم: العشرة المبشرين بالجنة، لقبوا بهذا الاسم لأن النبي صلى الله عليه وسلم جمعهم في حديث واحد وهم: الخلفاء الأربعة: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وسعيد بن زيد، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف، وطلحة ابن عبيد الله، والزبير بن العوام، وأبو عبيدة عامر ابن الجراح، وانظر تراجمهم في المطولات.
وقد جمع الستة الزائدة عن الخلفاء الأربعة في بيت واحد، فاحفظه:
سعيد وسعد وابن عوف وطلحة ** وعامر فهر والزبير الممدوح
هؤلاء بشرهم النبي صلى الله عليه وسلم في نسق واحد، فقال: ( أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة ...) (12)، ولهذا لقبوا بهذا القلب، فيجب أن نشهد أنهم في الجنة لشهادة النبي صلى الله عليه وسلم بذلك.
(2) ثابت بن قيس رضي الله عنه أحد خطباء النبي صلى الله عليه وسلم ، كان جهوري الصوت، فلما نزل قوله تعالي: { يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون } [ الحجرات:2]، خاف أن يكون عمله وهو لا يشعر، فاحتفي في بيته، ففقده النبي عليه الصلاة والسلام، فبعث إليه رجلاً يسأله عن اختفائه فقال: إن الله أنزل قوله: { يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وآنتم لا تشعرون } ، وأنا الذي أرفع صوتي فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم حبط عملي، أنا من أهل النار !! فأتي الرجل إلي النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بما قال ثابت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( اذهب إليه، فقل له إنك لست من أهل النار، ولكنك من أهل الجنة ) (13)، فبشره النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة.
وغيرهم من الصحابة (1) ويقرون بما تواتر به النقل عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره، من أن خير هذه الأمة بعد نبيها: أبو بكر ثم عمر(2).............
(1) مثل أمهات المؤمنين، لأنهن في درجة الرسول صلى الله عليه وسلم ، ومنهم بلال، وعبد الله بن سلام، وعكاشة بن محصن، وسعد بن معاذ، رضي الله عنهم.
(2) * التواتر: خبر يفيد العلم اليقيني، وهو الذي نقله طائفة لا يمكن تواطؤهم على الكذب.
· ففي " صحيح البخاري " (14) وغيره عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: كنا نخير بين الناس في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، فنخير أبا بكر، ثم عمر بن الخطاب، ثم عثمان بن عفان.
· وفي " صحيح البخاري" (15) أيضاً أن محمد ابن الحنفية قال: قلت لأبي : أي الناس خير بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال: أبو بكر. قلت: ثم من؟ قال: ثم عمر. وخشيت أن يقول: عثمان، قلت: ثم أنت؟ قال: ما أنا إلا رجل من المسلمين.
فإذا كان على رضي الله عنه يقول وهو في زمن خلافته: إن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر، فقد اندحضت حجة الرافضة الذين فضلوه عليهما.
· قوله: " وغيره "، يعني: غير علي من الصحابة والتابعين.
· وهذا متفق عليه بين الأئمة.
- وقال الإمام مالك: ما رأيت أحداً يشك في تقديمهما.
- وقال الشافعي: لم يختلف الصحابة والتابعون في تقديم أبي بكر وعمر.
ومن خرج عن هذا الإجماع، فقد اتبع غير سبيل المؤمنين.
ويثلثون بعثمان (1) ويربعون بعلي (2) رضي الله عنهم كما دلت عليه الآثار وكما أجمع الصحابة على تقديم عثمان في البيعة(3) ............
(1) * " يثلثون " ، يعني: أهل السنة، يجعلون عثمان هو الثالث.
(2) * " ويربعون " بعلي " أي: يجعلون علياً هو الرابع.
· وعلي هذا، فأفضل هذه الأمة هؤلاء الأربعة: أبو بكر ، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي.
(3) * استدل المؤلف لهذا الترتيب بدليلين:
الأول: قوله: " كما دلت عليه الآثار " : وقد سبق ذكر شيء منها.
والثاني: قوله: " وكما أجمع الصحابة على تقديم عثمان في البيعة " :
فصار في تقديم عثمان على علي رضي الله عنهما آثار نقلية، وفيه أيضاً دليل عقلي، وهو إجماع الصحابة على تقديم عثمان في البيعة، فإن إجماعهم على ذلك يستلزم أن عثمان أفضل من علي، وهو كذلك، لأن حكمة الله عز وجل تأبي أن يولي على خير القرون رجلاً وفيه من هو أفضل منه، كما جاء في الأثر: " كما تكونون يولي عليكم، فخير القرون لا يولي الله عليهم إلا من هو خيرهم.
مع أن بعض أهل السنة كانوا قد اختلفوا في عثمان وعلي رضي الله عنهما بعد اتفاقهم على تقديم أبي بكر وعمر أيهما أفضل؟ فقدم قوم عثمان وسكتوا أو ربعوا بعلي (1)، وقدم قوماً علياً (2)، وقوم توقفوا (3).
(1) فيقولون: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ويسكتون، أو يقولون: ثم علي.
(2) فقالوا: أبو بكر، ثم عمر، ثم علي، ثم عثمان. وهذا رأي من آراء أهل السنة.
(3) فقالوا: أبو بكر، ثم عمر. وتوقفوا أيهما أفضل: عثمان أو علي؟ وهذا غير الرأي الأول.
· فالآراء أربعة:
- الرأي المشهور: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي.
- الرأي الثاني: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم السكوت.
- الرأي الثالث: أبو بكر، ثم عمر، ثم علي، ثم عثمان.