البحث
بعض صفات النبي الموعود
بعض صفات النبي الموعود:
أهم صفات النبي الموعود التي جاءت بها البشارات هي:
أولاًـ هو خاتم الأنبياء:فقد كمل عقد سلسلة الأنبياء ولم يبق إلا خاتم الأنبياء حتى يكتمل عقد النبوة: "أحمدك لأنك استجبت لي وصِرْتَ لي خلاصًا، الحجر الذي رفضه البناؤون قد صار رأس الزاوية من قبل الرب كان هذا وهو عجيب في أعيننا"[1]، ويؤكد ذلك عيسى عليه السلام ، "قال لهم يسوع: أما قرأتم قط في الكتب: الحجر الذي رفضه البناؤون هو قد صار رأس الزاوية من قبل الرب كان هذا وهو عجيب في أعيننا... ومن سقط على هذا الحجر يترَضَّضُ، ومن سقط هو عليه يسحقه"[2].
"الحجر الذي رفضه البناؤون": إشارة إلى نسل إسماعيل الذي أبعد من فلسطين وسكن برية فَارَان، "قد صار رأس الزاوية من قبل الرب": قد أصبح أهم لبنات هذا الصرح العظيم لرسالات الله i، وتم به إتمام إرسال الرسل - عليهم السلام -، "وهو عجيب في أعيننا": ولم يتوقع عامة اليهود أن ينتقل منهم الرئاسة إلى ذرية إسماعيل عليه السلام ، زعم بطرس أن عيسى عليه السلام هو صاحب هذه البشارة، وهو الحجر الذي في رأس الزاوية[3]، ولا يمكن بحال أن تنطبق هذه البشارة عليه عليه السلام ، للأسباب التالية:
1ـ خاطب سيدنا عيسى عليه السلام بني إسرائيل وبَيَّنَ لهم أن ملكوت الله تُنزع منهم وهو منهم، فهذا يعني أن الذي يحمل ملكوت الله تعالى ليس من بني إسرائيل.
2ـ إذا كان حجر الزاوية هو عيسى عليه السلام فأي أمر يدعو إلى دهشة بني إسرائيل والنبوة لم تنقطع فيهم، والذي يدعو لدهشتهم هو ظهور النبي الموعود في غيرهم، وهذا ما حمل بولس أن يحقر العرب، فيقول: "ماذا يقول الكتاب؟ اطْرُدِ الجاريةَ وابنَها، لأنه لا يرثُ ابن الجارية مع ابن الحرة، إذًا أيها الإخوة: لسنا أولاد جارية، بل أولادُ الحرةِ"[4].
3ـ يزعم النصارى أن سيدنا عيسى عليه السلام قد تمكن منه أعداؤه فصلبوه، والبشارة تقول عكس ذلك أنهم لن يتمكنوا منه: "ومن سقط على هذا الحجر يترَضَّضُ، ومن سقط هو عليه يسحقه".
هذه البشارة أشار إليها رسول الهدى صلى الله عليه وسلم : عَنْ جَابِرٍ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (مَثَلِي وَمَثَلُ الأَنْبِيَاءِ كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى دَارًا فَأَتَمَّهَا وَأَكْمَلَهَا إِلا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ فَجَعَلَ النَّاسُ يَدْخُلُونَهَا وَيَتَعَجَّبُونَ مِنْهَا وَيَقُولُونَ لَوْلا مَوْضِعُ اللَّبِنَةِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : فَأَنَا مَوْضِعُ اللَّبِنَةِ جِئْتُ فَخَتَمْتُ الأَنْبِيَاءَ)[5].
ثانيًاـصاحب شريعة: يقول سيدنا موسى عليه السلام في بشارته: "أُقيمُ لهم نبيًا من وسطِ إخوتهم مثلك، وأجعلُ كلامي في فمه فيُكَلِّمُهُم بكل ما أوصيه به"[6]، نستخلص أن النبي الذي سيأتي سيكون صاحب شريعة، وهذا لا ينطبق على أحد من أنبياء بني إسرائيل، وعيسى عليه السلام لم يأتِ بشريعة جديدة بل هو على شريعة التوراة، قال السيد المسيح لتلاميذه إنه لم يأتِ بشريعة جديدة: "لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء، ما جئت لأنقض بل لأُكمل"[7]، وعلى هذا فليس هو النبي الموعود.
ثالثًاـ يبشر النبي الموعود بالإسلام:هذه البشارة جاءت على لسان النبي إرْمِيَا وهو يكلم النبي (حَنَنيَّا) أمام الكهنة: "إن الأنبياء الذين قبلي وقبلك منذ القديم وتنبأوا على أراضٍ كثيرة، وعلى ممالك عظيمة بالحرب والشر والوباء، النبي الذي تنبأ بالسلام فعند حصول كلمة النبي عُرِفَ ذلك النبي أن الرب قد أرسله حقًا"[8]، وكلمة (الشالوم) ترجمت إلى بالسلام، يقول عبد الأحد داود: "لكن الحقيقة المسلم بها أن كلمة (شالوم) في العبرية و(شلاما) السريانية، و(إسلام) في العربية كلها من نفس الجذر السامي (شَلَمْ) وتحمل نفس المعنى وهذا أمر معروف لدى جميع علماء اللغات السامية، وفعل (شلم) يدل على الخضوع أو الاستسلام وتحقيق السلام ... ولا يوجد أي نظام ديني في العالم يحمل اسمًا أو وصفًا أفضل وأشمل وأكثر هيبة وسموًا من الإسلام، ولما كان (ال) قبل (شالوم) معناها (عن) أو (فيما يتعلق بـ) فيكون المعنى: أن الرسول الذي يتنبأ بالإسلام، عند حصول كلمة النبي عُرف ذلك النبي أن الرب قد أرسله حقًا[9]، والجملة الأخير تشير إلى دلائل صدق هذا النبي بأنه يُحدّث عن أمور مستقبلية تحصل وفق ما أخبر، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر الأنبياء حديثًا عن أمور مستقبلية.
رابعًاـ أمي لا يعرف القراءة والكتابة:جاء في العهد القديم من صفات هذا النبي أنه لا يقرأ: "أو يُدْفَعُ [أي الله] الكتابُ لمن لا يعرفُ الكتابة، ويُقالُ له اقرأ هذا فيقول: لا أعرف الكتابة"[10]، هذه ترجمة غير صحيحة، وفي النسخة الإنجليزية: "فيجيب لا أعرف القراءة"[11]، وكذا في نسخة (الحياة)، و(اليسوعية الحديثة) و(الكاثوليكية)، وبهذا يستقيم المعنى، وبشارة موسى عليه السلام تؤكد ذلك، "وأجعل كلامي في فمه"، أي يكون نبيًا أميًا لا يقرأ ولا يكتب[12]، بينما نجد في الإنجيل أن عيسى كان كاتبًا وقارئًا[13].
وهذا النص يشير بصراحة إلى ما حصل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غار حراء، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا قَالَتْ: "أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لا يَرَى رُؤْيَا إِلا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلاءُ، وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ - وَهُوَ التَّعَبُّدُ اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ - قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا حَتَّى جَاءَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ، فَجَاءَهُ الْمَلَكُ، فَقَالَ: اقْرَأْ، قَالَ: (مَا أَنَا بِقَارِئٍ) قَالَ: (فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ قُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ، فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي، الثَّالِثَةَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: " اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2)اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) "
[العلق])"[14].
خامسًاـ على كتفه خاتم النبوة:أشار إشَعْيَا إلى أن النبي الخاتم على كتفه خاتم النبوة:"لأنه يُولد لنا ولدٌ ونُعطى ابنًا وتكون الرياسة على كتفيه ويُدعى اسمُهُ عجيبًا مُشيرًا إلهًا قديرًا أبًا أبديًا رئيس السلام"[15].
قوله: "وتكون الرئاسة على كتفيه" إشارة إلى خاتم النبوة الذي كان بين كتفي النبي صلى الله عليه وسلم ، عن عاصم عن عبد الله بن سَرْجِس قال:"رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ، وَأَكَلْتُ مَعَهُ خُبْزًا، وَلَحْمًا، أَوَ قَالَ : ثَرِيدًا، قَالَ، .. قَالَ: ثُمَّ دُرْتُ خَلْفَهُ، فَنَظَرْتُ إِلَى خَاتَمِ النُّبُوَّةِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ عِنْدَ نَاغِضِ[16]كَتِفِهِ الْيُسْرَى جُمْعًا عَلَيْهِ خِيلانٌ كَأَمْثَالِ الثَّآلِيلِ"[17]، ومن الملاحظ أن إشَعْيَا في هذا النص شهد "بصحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، ووصفه بأخص علاماته وأوضحها وهي شامته، فلعمري لم تكن الشامة لسليمان، ولا للمسيح"[18]، وجاء في إنجيل (يُوحَنَّا) ما يؤكد ما جاء في سفر إشَعْيَا من أن ابن الإنسان يكون عليه ختم النبوة: "اعملوا لا للطعام البائد بل للطعام الباقي للحياة الأبدية الذي يعطيكم ابن الإنسان؛ لأن الله الآب قد ختمه"[19]، وقصة سلمان الفارسي وسبب إسلامه يؤكد أن أهل الكتاب كانت لديهم معرفة بأن النبي الموعود على كتفه ختم النبوة، فقد قال له الراهب: "وإن في ظهره خاتم النبوة"[20].
سادسًا ـ ذكره وسلطانه يبقى إلى الأبد:يبقى سلطانه وعزه إلى الأبد: قال داود عليه السلام : "قال الرب لربي اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئًا لقدميك، يرسل الرب قضيب عزك من صهيون، تسلَّط في وسط أعدائك... أقسم الرب ولن يندم أنت كاهن إلى الأبد على رُتبة ملكي صادق"[21]، هذه الترجمة فيها إشكال إذ يوحي التعبير بوجود إلهين وهذا منافي للتوحيد، والكلمة الأولى في العبرية يهوه، والثانية (أدون) التي تعني الآمر والسيد، فيكون المعنى قال الله لسيدي[22]، واستنتج أحبار اليهود ومفسرو العهد القديم أن هذا التعبير يعني المسيح المنتظر المفروض أن ينحدر من نسل داود عليه السلام ، لكن عيسى عليه السلام صحح اعتقادهم، وأفادهم بأنه ليس هو المخلص المنتظر إذ أجابهم بقوله: "فإن كان داود يدعوه ربًا فكيف يكون ابنه، فلم يستطع أحد أن يجيبه بكلمة"[23]، ولما كان النصارى يزعمون أن عيسى عليه السلام من نسل داود[24]فلا يمكن أن يكون هو المسيح الموعود.
سابعًاـ من صفات هذا النبي أنه متواضع فهو لا ينسب نفسه إلى الله تعالى بل هو ابن الإنسان (برناشا): المتصفح لكتب أهل الكتاب يجد أنهم يقولون: نحن أبناء الله تعالى، وهذا ما أكد القرآن الكريم: " وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَىٰ نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ۚ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ ۖ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ ۚ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ ۚ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ۖ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18)[المائدة]، والنبي العظيم صلى الله عليه وسلم في غاية التواضع فلم يقل إني ابن الله تعالى كما قالت اليهود والنصارى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (لا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُهُ، فَقُولُوا: عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ)[25]،
وقد ورد وصف ابن الإنسان في عدة نبوءات والأوصاف لا تنطبق إلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم :
1ـ ابن الإنسان كان نبيًا قبل بدء الخليقة:تشير بشارة (أخنُوخ)[26]- وهو إدريس عليه السلام - إلى أن ابن الإنسان كان نبيًا منذ بدء الخليقة: "رأيت في هذا الموضع ينبوع العدالة الذي لا ينضب أبدًا، محاطًا بالكثير من ينابيع الحكمة، حيث يشرب العطاش كلهم ويمتلئون بالحكمة، ويكون مسكنهم مع الأبرار والقديسين والمختارين، وفي هذه الساعة دُعي ابن الإنسان ليمثل أمام رب الأرواح، ولُفظ اسمه بحضور مبدأ الأيام، قبل أن تُخلق الشمس والإشارات، قبل أن تُصنع نجوم السماء، كان اسمه قد أعلن بحضور رب الأرواح ... ولهذا أصبح المصطفى والذي كان قد أخفي بحضوره ما قبل خلق العالم وحتى نهاية الدهر "[27]، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال: قالوا: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم : متى وَجَبَتْ لَكَ النُّبُوةُ؟ قالَ: (وَآدَمُ بَيْنَ الرُّوحِ َوالجَسَدِ)[28].
2ـ يقيم العدل ويعلم الناس ويحطم الطغاة: يتكلم (أخنُوخ) عن ابن الإنسان فيقول: "فسألت حول ابن الإنسان هذا أحد الملائكة القديسين الذي كان يرافقني ويبين لي الأسرار كلها: من هو ؟ ومن أين جاء؟ ولماذا يرافق مبدأ الأيام؟ فأجابني: إنه ابن الإنسان الذي إليه ينتمي الحق، وقد قام العدل معه، وهو الذي سيكشف كنز الأسرار كله، لأنه هو الذي اختاره رب الأرواح، والذي انتصر نصيبه أمام رب الأرواح، وفق الحق، وللأبد، ابن الإنسان هذا الذي رأيته سيرفع الملوك والجبابرة من مضاجعهم، والأقوياء من مقاعدهم، وسيفصم روابط الأقوياء، ويسحق أسنان الخطأة، سيطرد الملوك من عروشهم ومن ممالكهم، لأنهم لا يسبحونه ولا يمجدونه، ولا يعترفون من أين جاءهم الملك، سيخفض وجوه الأقوياء، ويملؤها بالخجل"[29]، وفي النص السابق إشارة إلى أن ابن الإنسان يقيم العدل ويكشف كنز الأسرار، فرسول الله صلى الله عليه وسلم أرسى قواعد العدل، وانتصار ابن الإنسان على الطغاة هو أن حطمت دولة الإسلام دولة الفرس والرومان.
3ـ يحقق ابن الإنسان الانتصارات على المستوى العالمي:ومن أوصاف ابن الإنسان أنه يحقق الانتصارات على المستوى العالمي: "لقد شعروا بفرح عظيم فباركوا ومجدوا وسبحوا لأن اسم ابن الإنسان هذا كان قد كشف لهم لقد جلس على عرشه المجيد ومجمل القضاء كان قد أعطي لابن الإنسان هذا، سيجعل الخطأة يختفون من على وجه الأرض، ويتركهم للفساد مع الذين أضلوا العالم سيقيدون ويحبسون في سجن انحلالهم، وعملهم كله سيختفي من على وجه الأرض، ومذاك لن يوجد شيء قابل للفساد؛ لأن ابن الإنسان هذا يكون قد ظهر وجلس على عرش مجده، كل شر سيختفي من على وجه الأرض ويذهب عنها سيكلمون ابن الإنسان هذا وسيدوم أمام رب الأرواح"[30]، ومن المعروف أن الدولة الإسلامية أزالت دول الشرك، وأن أتباعه صلى الله عليه وسلم سينشرون هذا الدين في جميع أصقاع العالم حتى أنه عند خروج المهدي ونزول عيسى عليه السلام سيعم العالم السلام.
4ـ ابن الإنسان ما جاء إلا لينقذ الإنسانية:ما يقوم به ابن الإنسان من إنشاء دولة ومحاربة الطغاة ليس مقصده من ذلك مجرد القتل بل لإنقاذ الإنسانية المعذبة: "لأن ابن الإنسان لم يأتِ ليُهلك أنفسَ الناسِ بل لِيُخلِّصَ"[31].
ونلاحظ أن الدلائل كلها تشير إلى أن ابن الإنسان المقصود به هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكن هناك بعض العبارات المفككة في الإنجيل تشير إلى أن عيسى عليه السلام هو المقصود بهذا المصطلح، وهي كلها عبارات مزرية لا تليق بأمل الإنسانية، ومنقذها، مثل أنه جاء ليَخْدم لا ليُخدم "كما أن ابن الإنسان لم يأت لِيُخْدَمَ بل لِيَخْدُمَ، ولبذل نفسه فدية عن كثيرين"[32]، وأنه يُسلم لأحبار اليهود لكي يحكموا عليه بالموت[33]، جاء ليشرب الخمر مع العابثين في الحانات[34]، هل يتحمل النصارى أن يروا قساوستهم ورهبانهم يرتادون الحانات ويشربون الخمر فيها مع الخطاة ولو كان بقصد هدايتهم ؟ فهل يليق ذلك بمنقذ الإنسانية والرسول الخاتم !؟ ومن جهة أخرى فإن المسيح صلى الله عليه وسلم ما جاء إلا لإنقاذ خراف بني إسرائيل لا إنقاذ العالم[35]، ولكنه عجز عن ذلك فاضطر لتأجيل ذلك إلى يوم القيامة.
ثم أليس عيسى عليه السلام وفق عقيدتهم هو ابن الله فكيف يكون ابنُ الله ابنَ إنسان؟ أليس هذا جمعًا بين النقيضين؟! وسيأتي أن مصطلح ابن الإنسان لا يطلق على عيسى عليه السلام .
ثامنا و تاسعاـ تبوَّأ مكانة عالية فأطلق عليه أهل الكتاب المسيح أوالمسيا:أطلق أهل الكتاب على النبي الموعود لقب المسيح، وقد "كان من عادة الكهنة في بني إسرائيل مسح الملوك عند توليهم الرئاسة بدهن، أو زيت مخصوص، وكانوا يمسحون أيضًا العلماء والأنبياء، ويطلقون على الملك الممسوح، أو العالم، أو النبي، لقب (مَسِيَّا) الذي تفسيره المسيح دلالة على أنه هو الذي اختاره واصطفاه ... ولما كان لقب (مسيا) أو (مسيح الله) لقبًا معظمًا في بني إسرائيل يتفاخر بحمله الملوك والعلماء والأنبياء، ولما كانوا ينتظرون نبيًا، يريدون أن يوهموا الناس أنه سيكون من جنسهم، قالوا: إننا ننتظر نبيًا، ولقبوه بلقب (المسيا)، أي المسيح، ويقولون: إن الدليل على انتظارنا للمسيح: هو النبوءات الموجودة في الأسفار الخمسة عن النبي المنتظر"[36].
وتطلق أسفار العهد القديم على النبي الموعود لقب المسيح، أو المسيا، "هذه شهادة يُوحَنَّا حين أرسل اليهودُ من أورشليم كهنة ولاويين ليسألوه من أنت، فاعترف ولم ينكر، وأَقَرَّ أني لست أنا المسيح، فسألوه إذًا ماذا، إيِليَّا أنت، فقال: لست أنا، ألنبيُّ أنت؟ فأجاب لا، فقالوا له: من أنت ؟ لنُعطي جوابًا للذين أرسلونا، ماذا تقول عن نفسك ؟ قال: أنا صوتُ صارخٍ في البرية"[37]، قال أندرواس لأخيه سمعان مبشرًا: "قد وجدنا مسيَّا الذي تفسيره المسيح"[38]، قال عوض سمعان: "إن المتفحصين لعلاقة الرسل الحواريين بالمسيح يجد أنهم لم ينظروا إليه إلا على أنه إنسان ... كانوا ينتظرون المسيا، لكن بالنسبة إلى أفكارهم التي توارثوها عن أجدادهم لم يكن سوى رسول ممتاز يأتي من عند الله"[39]، وقد أطلق على سيدنا عيسى عليه السلام هذا اللقب، ويقول الدكتور أحمد حجازي السقا: "ونحن نعترف أن عيسى عليه السلام هو مسيح كسائر المسحاء في عرف بني إسرائيل، ولكن لا نعترف أنه المسيح الذي تشير إليه نبوءات التوراة"[40]، وقال أيضًا: والمسيَّا النبي القادم، قال السامريون: إنه من سبط يوسف عليه السلام ، وقال اليهود: إنه من نسل داود عليه السلام [41]، وبتحليل نصوص العهد القديم والترجمات اليونانية توصل جمال الدين شرقاوي إلى أن اسم (مسيا) هو اسم عربي إسماعيلي بمعنى الذي اتصل بالإله، فكان رسول الإله إلى البشر، وفي هذا دلالة إلى أنه من ذرية إسماعيل عليه السلام [42].
وحسب نصوص العهدين المسيح المنتظر يبقى إلى الأبد، وأنه ملك يحكم مملكة الله[43]، "فنادى يَسُوعُ وهو يُعلِّمُ في الهيكل قائلاً: تعرفونني وتعرفون من أين أنا ومن نفسي لم آتِ بل الذي أرسلني هو حق، الذي أنتم لستم تعرفُونَه ... فآمن به كثيرون من الجمع، وقالوا: أَلَعَلَّ المسيح متى جاء يعمل آياتٍ أكثرَ من هذه التي عملها هذا"[44]، فالذين آمنوا برسالة عيسى عليه السلام علموا أنه ليس المسيح الموعود، وفي إنجيل متى: "أجاب رئيس الكهنة وقال له: استحلفك بالله الحي أن تقول لنا: هل أنت المسيح ابن الله ؟ قال له يسوع: أنت قلت، وأيضًا أقول لكم: من الآن تبصرون ابن الإنسان جالسًا من يمين القوة وآتيًا على سحاب السماء"[45]، كناية عن سرعة مجيئه، ومؤيدًا من الله تعالى.
لم يزعم المسيح أنه ملك: "فقام كل جمهورهم وجاؤوا به إلى بيلاطس، وابتدؤوا يشتكون عليه قائلين: إننا وجدنا هذا يُفسد الأمة، ويمنع أن نُعطي جزية لقيصر قائلاً إنه هو مسيحٌ ملك، فسأله بيلاطُسُ قائلاً: أنت ملك اليهود، فأجابه وقال: أنت تقول، فقال بيلاطس لرؤساء الكهنة والجموع: إني لا أجد علَّة في هذا الإنسان"[46]، قال الباحث (توم هاربر): "إن دعوة المسيح كانت في شمالي مقاطعة إسرائيل والجليل، وظاهر أن المسيح كان يعتقد أن دعوته موجهة إلى اليهود، لا إلى العالم"[47].
"وفيما كان الفريسيون مجتمعين سألهم يسوع قائلاً ماذا تظنون في المسيح ابن مَنْ هو قالوا له ابن داود، قال لهم: فكيف يدعوه داود بالروح ربًا قائلاً قال الرب لربي اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئًا لقدميك، فإن كان داود يدعوه ربًا فكيف يكون ابنه، فلم يستطع أحد أن يجيبه بكلمة"[48]، والنصارى تزعم أن عيسى عليه السلام من نسل داود عليه السلام [49]، ومن ثم لا يمكن أن يكون المسيح الموعود، يقول شارل جنيبر: "النتيجة الأكيدة لدراسات الباحثين هي: أن المسيح لم يدعِ قط أنه المسيح المنتظر"[50].
نستنتج من خلال تلك النصوص أن المسيا أو المسيح الموعود له صفات هي: (1) أن المسيح الموعود ليس من نسل داود عليه السلام . (2) أن عيسى عليه السلام ليس هو المسيح الموعود. (3) يأتي بآيات كثيرة. (4) يبقى إلى الأبد وهذا دليل على بقاء شرعه ورسالته. (5) رسول عظيم. (6) ملك وصاحب مملكة عظيمة. (7) ينتصر على أعدائه ويسحقهم. (8) يدخل في شريعته جميع الأمم.
فصاحب هذه البشارات هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأنه هو وحده الذي توفرت فيه هذه الصفات والخصال، فعلى يديه كشف معرفة أسرار الكون، والحكمة من خلق الإنسان، وأقام دولة الإسلام، وأنقذ الإنسانية من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، واستمرت حضارة الإسلام، وظل ذكره باقيًا إلى قيام الساعة، ودينه الدين الوحيد الذي ظل باقياً دون تحريف، ومعجزاته فاقت معجزات الأنبياء، ودخل الناس في دينه أفواجًا من كل الأجناس.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] - مزامير، 118: 21 ـ 23.
[2] - متى، 21 : 42 ـ 43 . وراجع ،مرقس، 12 : 10 ـ 11 ، و، لوقا، 20 : 17 ـ 18. و ، رسالة بطرس، 2 : 7، و، أعمال الرسل، 4: 11 .
[3] - راجع أعمال الرسل، 4: 10 ـ 11 .
[4]- غلاطية، 4: 30 ـ 31 .
[5] - رواه مسلم في صحيحه : الفضائل / 7، ح( 2287)، 4/ 1791، و الترمذي في سننه:الأمثال / 2، ح( 2862)،5/ 147 .
[6] - تثنية، 18 : 17 ـ 20 .
[7]- إنجيل متى، 5: 17.
[8] - إرميا، 28: 8ـ 9.
[9] - راجع ، محمد صلى الله عليه وسلم في كما ورد في كتب اليهود والنصارى، ص/ 77.
[10] - إشعياء ، 29 : 12 .
[11] - عامر محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكتب المقدسة، ص/ 305 .
[12]- راجع عبد الحق الإسلامي، الحسام الممدود في الرد على اليهود، ص/ 114.
[13] - راجع يوحنا، 8: 6.
[14] - رواه البخاري في صحيحه: بدء الوحي/ 1، 1/ 3 .
[15] - إشعيا، 9: 6.
[16] - ناغِض: قال الجمهور النغض والناغض أعلى الكتف، وقيل: هو العظم الرقيق الذي على طرفه. صحيح مسلم بشرح النووي، 15/ 98 .
[17] - رواه مسلم في صحيحه: الفضائل / 30، ح(2346) ، 4/ 1823 ـ 1824 .
[18] - ابن تيمية، الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، 3/ 328 .
[19] - 6: 27 .
[20] - رواه عبد الرزاق في (مصنف): ح(15768)، 8/ 418 ـ 420 .
[21] - مزامير، 110: 1ـ4.
[22] - راجع ، عبد الأحد داود، محمد صلى الله عليه وسلم كما ورد في كتب اليهود والنصارى، ص/ 63 ـ 65.
[23] - متى، 22: 41 ـ 45. وراجع، مرقص، 12: 35ـ 37. ولوقا، 20: 41 ـ 44.
[24] - راجع متى 1.
[25] - رواه البخاري في، صحيحه، الأنبياء/48، 4/ 142 .
[26] - جاء في حديث أبي ذر رضي الله عنه ، قال رَسُولَ اللَّهِ: (يَا أَبَا ذَرٍّ أَرْبَعَةٌ سُرْيَانِيُّونَ: آدَمُ، وَشِيثُ، وَأَخْنُوخُ وَهُوَ إِدْرِيسُ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ خَطَّ بِالْقَلَمِ، وَنُوحٌ)، (الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان): كتاب البر والإحسان، ح(363)، 1/ 207ـ209. وهو حديث ضعيف.
[27]- التوراة كتابات ما بين العهدين مخطوطات قمران ـ البحر الميت، الكتب الأسينية، (أسبقية وجود ابن الإنسان) (1ـ 6): 2/ 53 .
[28] - رواه الترمذي في، سننه، المناقب/ 1، ح(3609)، 5/ 585 ، وقا ل: هذا حديث حسن صحيح غريب.
[29] - التوراة كتابات ما بين العهدين مخطوطات قمران ـ البحر الميت، الكتب الأسينية، (رؤيا مبدأ الأيام وابن الإنسان)، 2/ 51 ـ 52 .
[30] - التوراة كتابات ما بين العهدين مخطوطات قمران ـ البحر الميت، الكتب الأسينية، (مديح ابن الإنسان) (26ـ 29)، 2/ 71 ـ 72.
[31] - لوقا، 9: 56 .
[32] - متى، 20: 28 .
[33] - راجع متى، 20 : 18 ـ 19.
[34] - راجع متى، 11/ 19 .
[35] - راجع متى، 18 : 11.
[36] - السقا، التوراة السامرية، ص/ 408 ـ409. وراجع، السقا، البشارة بنبي الإسلام، 1/ 341 ـ 344.
[37] - يوحنا، 1 : 19 ـ 23.
[38] - يوحنا، 1: 41 .
[39] - الطهطاوي، النصرانية في الميزان، ص/ 27 ـ 29 .
[40] - التوراة السامرية، ص/ 412.
[41]- راجع التوراة السامرية، ص/ 411.
[42] - راجع شرقاوي، المسيح والمسيا، ص/ 98.
[43] - راجع يوحنا، 12: 34 .
[44] - يوحنا، 7: 28 ـ 30 .
[45] - متى، 26: 63ـ 64 .
[46] - لوقا، 23 : 1 ـ 4.ص
[47] - عامر، محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكتب المقدسة، ص/ 168، نقلاً عن كتاب ،من أجل المسيح، ص/ 35 .
[48] - متى، 22 : 41 ـ 46 . وراجع مرقس، 12: 37، و لوقا، 20 : 40 ـ 44 .
[49] - راجع، متى، 1 : 1ـ 15 .
[50] - السقار، هل بشر الكتاب المقدس بمحمد صلى الله عليه وسلم ، ص/ 31.