البحث
رعايتُه صلى الله عليه وسلم الفروقَ الفردية في المتعلمين
رعايتُه صلى الله عليه وسلم الفروقَ الفردية في المتعلمين
وكان صلى الله عليه وسلم شديدَ المراعاة للفروقِ الفردية بين المتعلِّمين من المُخاطَبين والسائلين ، فكان يُخاطِبُ كلَّ واحدٍ بقدرِ فَهْمِه وبما يُلائِمُ منزلتَه ، وكان يُحافِظ على قُلوبِ المبتدئين ، فكان لا يُعلِّمُهم ما يُعلِّم المنتهين . وكان يجيب كلَّ سائلٍ عن سؤالِهِ بما يَهُمُّه ويُناسِبُ حالَه .
ـ روى البخاري في كتاب العلم (باب من خصَّ بالعلم قوماً دون قومٍ كراهيةَ أن لا يَفهموا) ، ومسلم في كتاب الإيمان5واللفظ منهما ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه : ((أن نبي الله صلى الله عليه وسلم ـ ومُعاذُ بنُ جَبَلٍ رَديفُه على الرَّحْلِ ـ قال : يا مُعاذ ، قال : لَبَّيك رسول الله وسَعْدَيْكَ ، قال : يا مُعاذ : قال : لَبَّيك رسول الله وسَعْدَيْكَ ، قال : يا مُعاذ ، قال : لَبَّيك رسول الله وسَعْدَيْكَ . قال : ما من عَبْدٍ يَشْهَدُ أن لا إله إلاّ الله ، وأنَّ محمداً عبدُهُ ورسولُه ، صِدْقاً من قلبِه إلاّ حَرَّمه الله على النار ، قال : يا رسول الله ، أفلا أُخبرُ به الناس فيَسْتَبْشِروا؟ قال : لا ، إذاً يَتَّكِلوا6. وأخبَرَ بها مُعاذٌ عند موتِه تأثُّماً))1.
ـ وروى الإمام أحمد في ((مسنده))2عن عبد الله بن عَمْرو بن العاص قال : ((كُنّا عند النبي صلى الله عليه وسلم ، فجاء شابٌّ فقال : يا رسول الله ، أُقَبِّلُ وأنا صائم؟ قال : لا ، فجاء شيخٌ فقال : أقبِّل وأنا صائم؟ قال : نعم ، فنَظَر بعضُنا إلى بعضٍ ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قد علمتُ لِمَ نَظَر بعضُكم إلى بعض ، إن الشيخَ يَملِكُ نفسَه))3.
ـ وروى البخاري ومسلم4عن عبد الله بنِ عَمْرو قال : ((جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم يَستأذِنُه في الجهاد ، فقال : أحيٌّ والدك؟ قال : نعم ، قال: ففيهما فجاهِدْ))5.
ـ وروى مسلمٌ6عن عبد الله بن عَمْرو بن العاص قال : ((أقبلَ رجلٌ إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : أبايعك على الهجرةِ والجهادِ أبتغي الأجرَ من الله ، قال : فهل من والدَيْكَ أحدٌ حيٌّ؟ قال : نعم ، بل كلاهما ، قال : فتَبتَغي الأجرَ من الله؟ قال : نعم ، قال : فارجِعْ إلى والدَيكَ فأحسِنْ صُحبَتَهما)) .
هذا مع ما عُرِف عن النبي صلى الله عليه وسلم من الحضِّ على الجهادِ والهجرةِ والترغيبِ فيهما ، ولكنه صلى الله عليه وسلم لاحظَ حالَ هذا السائِل بخصوصِهِ ، فرأى بِرَّ الوالدينِ أهمَّ وأفضلَ في حقه من الجهاد .
واختلافُ أجوبةِ النبي صلى الله عليه وسلم لاختلاف أحوالِ السائلين وظُروفِهم وقُدْراتِهم : بابٌ واسعٌ له أمثلةٌ كثيرة في كتب السنة المُطهَّرة .
ومن ذلك وصايا النبي صلى الله عليه وسلم المختلِفةُ لأناسٍ طَلَبوا منه الوصيةَ ، فأوصى كلَّ واحدٍ بغير ما أوصى به الأخَرَ ، ووجهُ ذلك يرجِع إلى اختلاف أحوالِ الذين سألوه الوصيةَ .
ـ روى الإمام أحمد ، واللفظُ له ، والترمذي7عن أبي ذر رضي الله عنه قال : ((قلتُ : يا رسول الله ، أوصِني ، قال : اتقِ الله حيثما كنتَ ، وأتْبِعْ السيِّئةَ الحسنة تَمْحُها ، وخالِقْ الناسَ بخلُقٍ حسنٍ)) .
ـ وروى البخاري والترمذي1، واللفظُ منهما ، عن أبي هريرة رضي الله عنه : ((أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم : أوْصِني بشيءٍ ، ولا تُكْثِر عليَّ لَعَلّي أَعيهِ2، قال : لا تَغْضَبْ . فردَّد ذلك مِراراً ، كلُّ ذلك يقول : لا تَغْضَبْ))3.
ـ وروى البخاري ومسلم4، واللفظُ له ، عن أبي هريرة رضي الله عنه : ((أن أعرابياً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله ، دُلَّني على عَمَلٍ إذا عَمِلتُه دخلتُ الجنةَ ، قال : تَعبُدُ الله لا تُشرِكُ به شيئاً ، وتُقيمُ الصلاةَ المكتوبةَ ، وتؤدّي الزكاةَ المفروضةَ ، وتصوم رمضانَ ، قال : والذي نفسي بيده لا أزيدُ على هذا شيئاً أبداً ولا أنقُصُ منه .
فلما وَلّى قال النبي صلى الله عليه وسلم : منْ سرَّه أن يَنظُرَ إلى رجلٍ من اهلِ الجنةِ فليَنْظُرْ إلى هذا))5.
ـ وروى الترمذي ، واللفظُ له ، وابن ماجَهْ6، عن عبد الله بن بُسْرٍ : ((أن رجلاً قال : يا رسول الله ، إن شرائع الإسلام قد كَثُرتْ عليَّ ، فأخبرني بشيءٍ أتَشَبَّثُ به ، قال : لا يَزالُ لسانُك رَطْباً من ذكرِ الله)) .
ـ وروى مسلم والترمذي ، وابن ماجه7عن سُفْيانَ بن عبد الله الثَّقَفي ، قال : ((قلتُ يا رسول الله ، قُلْ لي في الإسلام قولاً لا أسألُ عنه أحداً بعدك ، قال : قُلْ : آمنتُ بالله فاستَقِم))8. هذا لفظ مسلم .
ولفظُ الترمذي وابن ماجه : ((قلتُ : يا رسول الله ، حَدِّثني بأمرٍ أعتصِمُ به ، قال : قُلْ ربي الله ، ثم استَقِمْ ، قلتُ : يا رسول الله ما أكثَرُ ما تَخاف عليَّ؟ فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بلسانِ نفسِه ، ثم قال : هذا)) .
ـ وروى الترمذي9عن عقبة َ بنِ عامِرٍ رضي الله عنه قال : ((قلتُ : يا رسول الله ما النَّجاةُ؟ قال : أَمْلِكْ عليك لِسانَكَ ، ولْيَسَعْكَ بيتُك ، وابْكِ على خَطيئتِك)) .
وأحاديث أخر في هذا الباب ، جاءَتْ فيها وصايا النبي صلى الله عليه وسلم الجامعةُ المختلفةُ مُراعاةً لاختلاف أحوالِ السائلين وحاجاتِهم .
ومن هذا القبيل أيضاً أجوبةُ النبي صلى الله عليه وسلم المختلفةُ حول أفضلِ الأعمال أو أحبِّ الأعمالِ إلى الله تعالى ، فقد أجاب كلَّ سائلٍ بما رآه في حقِّه أو في حينِ سؤالِه أفضلَ وأهمَّ نظراً إلى حاجاتِه وظروفِه .
ـ فقد روى البخاري ومسلم10، واللفظُ له ، عن عبد الله بن عَمْرو رضي الله تعالى عنهما : ((أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أيُّ الإسلامِ خيرٌ11؟ قال : تُطْعِمُ الطعامَ ، وتَقرأُ السلامَ على من عرفتَ ومن لم تَعرِفْ)) .
ـ وروى مسلم12عن عبد الله بن عَمْرو رضي الله تعالى عنهما : ((أنَّ رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : أيُّ المسلمين خير13ٌ؟ فقال : من سَلِم المسلمون من لسانِه ويدِه)) .
ـ وروى البخاري ومسلم1، واللفظ للبخاري ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : ((سُئِل النبي صلى الله عليه وسلم : أيُّ الأعمال أفضَلُ؟ قال : إيمان بالله ورسولِه ، قيل : ثم ماذا؟ قال : جهادٌ في سبيل الله ، قيل : ثم ماذا؟ قال : حجٌّ مَبرور)) .
ـ وروى البخاري ومسلم2، واللفظُ له ، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : ((سألت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم : أيُّ العمل أفضَلُ؟ ـ وفي روايةٍ : أيُّ الأعمالِ أحبُّ إلى الله؟ ـ قال : الصلاةُ لوقتِها ، قال : قلت : ثم أيٌّ؟ قال : برُّ الوالدين ، قال : قلتُ : ثم أيٌّ؟ قال : الجهاد في سبيلِ الله ، فما تركتُ أستزيدُهُ إلا إرْعاءً عليه))3.
ـ وروى أبو يَعْلى4عن رجل من خَثْعَم قال : ((أتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو في نَفَر من أصحابه . فقلتُ : أنت الذي تَزعُمُ أنك رسولُ الله؟ قال : نعم ، قال : قلتُ : يا رسولَ الله ، أيُّ الأعمال أحبُّ إلى الله؟ قال : الإيمانُ بالله ، قال : قلتُ : يا رسولَ الله ، ثم مَهْ5؟ قال : ثم صِلَةُ الرَّحِم ، قال : قلتُ : يا رسولَ الله ، ثم مَهْ؟ قال : ثم الأمرُ بالمعروف ، والنهيُ عن المنكَرِ .
قال : قلتُ : يا رسولَ الله ، أيُّ الأعمالِ أبغَضُ إلى الله؟ قال : الإشراكُ بالله ، قال : قلتُ : يا رسولَ الله ، ثم مَهْ؟ قال : ثم قطيعةُ الرَّحِم ، قال : قلتُ : يا رسولَ الله ، ثم مَهْ؟ قال : ثم الأمرُ بالمنكَرِ والنهيُ عن المعروف))6.
وهناك أحاديثُ أخر من هذا القبيل مما اختَلَفت فيه الأجوبةُ في بيان أفضلِ الأعمال أو أحبِّها ، وإنما يَرجِع الاختلافُ فيها إلى رعايةِ الفروقِ الفردية بين أفرادِ السائلين وجماعاتِهم أو أوقات سُؤالِهم ، فأعلَمَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم كُلاًّ بما يَحتاجُ إليه ، أو بما لم يُكْمِله بعدُ من دعائمِ الإسلام ولا بَلَغَهُ عِلمُه ، أو بما له فيه رغبةٌ ، أو بما هو لائق به .
أو أعلَمَ السائلَ بما كان الأفضَلَ من غيرِه في وقتِ سُؤالِه ، فقد كان الجهادُ في ابتداء الإسلامِ أفضَلَ الاعمال لأنه الوسيلةُ إلى القيامِ بها والتمكُّنِ من أدائها ، وقد تَضافَرَتْ الأدلةُ على أن الصلاةَ أفضَلُ من الصدقة ، ومع ذلك ففي وقت مُؤاساةِ المُضطرِّ تكون الصدقةُ أفضَل7.
والنبي صلى الله عليه وسلم هو المعلِّم المُرشِد والهادي البَصير ، يُبَصِّرُ كلاًّ بما يحتاج إليه وبما يليق به ، صلى الله تعالى عليه وعلى آله وبارَك وسلَّم .
----------------------------------------
5 ـ البخاري 1 :225 ـ 227 ومسلم 1 :240 .
6 ـ أي لا تُبَشِّرهم بذلك فإنهم يَمتَنِعون من العمل اعتماداً على ما يَتَبادَرُ من ظاهرِه من أن مجردَ الشهادةِ بالوحدانية والرسالةِ تكفي للنجاة من النار ، ولا يَنتَبِهون إلى ان المرادَ الإتيانُ بالشهادتين مع أداءِ حقوقهما من إطاعةِ الله وإطاعةِ رسولِه في الشرائعِ والأحكام ِ .
وفي الحديث بيانُ وجوبِ أن يُخَصَّ بالعلم الدَّقيق قومٌ فيهم الضبطُ وصحةُ الفهم ، وأن لا يُبذَل لمن لا يَستأهلُه من الطلبة ومن يُخافُ عليه الترخُّصُ والاتكال لتقصيرِ فهمِه ، قاله البدرُ العيني في ((عمدة القاري شرح صحيح البخاري)) 2 :208 .
وقال الحافظ ابنُ رجب في ((شرح البخاري)) : ((قال العلماء : يُؤخذ من مَنْع معاذ من تبشير الناس لئلا يَتَّكِلوا ، أن أحاديثَ الرُّخَص لا تُشاعُ في عُمومِ الناس ، لئلا يَقْصُر فهمُهم عن المُرادِ بها، وقد سَمِعَها مُعاذ فلم يَزْدَدْ إلاّ اجتهاداً في العمل وخشيةً لله عزَّ وجلَّ ، فأما من لم يَبلُغ منزلتَه فلا يُؤمَنُ أن يُقَصِّر اتكالاً على ظاهر هذا الخبر)) . كذا في ((فتح الملهم شرح صحيح مسلم)) للعلاّمة شَبِّير أحمد العثماني 1 :588 .
وعلى هذا المنوال من تركِ التحديث لكلِّ واحدٍ بكلِّ شيء ، جَرى عملُ الصحابة ، فمن بعدهم من أهل العلم ، فقد روى الإمام البخاري في كتاب العلم ، في الباب السابق الذكر : (باب من خصَّ بالعلم قوماً دون قوم ...) عن على رضي الله تعالى عنه قال : حَدِّثوا الناسَ بما يَعرِفون ، أتُحبّون أن يُكذَّب الله ورسولُه؟ ))
وزاد آدمُ ابنُ أبي إياس في ((كتاب العلم)) له : ((... ودَعوا ما يُنكِرون)) . نقله الحافظ ابن حجر في ((فتح الباري)) 1 :225 .
والمرادُ بقوله (بما يعرفون) أي يَفهَمون ، وقولُه (ما يُنكِرون) أي يَشْتَبِه عليهم فهمُه ، وأما قولُه (... أن يُكذَّب اللهُ ورسولُه) ، فذلك لأن الشخصَ إذا سَمِع ما لا يَفهمُه وما لا يَتَصوَّرُ إمكانَه يَعتقدُ استحالتَه جَهْلاً ، فلا يُصدِّقُ وجودَه ، فإذا ذُكِرَ له مثلُ هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم ، يلزَم منه تكذيبُه ، وفي تكذيبِ النبي صلى الله عليه وسلم تكذيبٌ لله عز وجَل . =
= قال الحافظ ابن حجر في ((فتح الباري)) 1 :225 : ((فيه دليل على أن المُتَشابِه لا ينبَغي أن يُذكَر عند العامة . ومثلُه قولُ ابن مسعودٍ رضي الله تعالى عنه : ما أنت بمُحدِّثٍ قوماً حديثاً لا تَبلُغُه عقولُهم إلاّ كان لبعضِهم فتنةً ، رواه مسلم ـ في مقدمة ((صحيحه)) 1 :76 ـ .
وممن كَرِه التحديث ببعضٍ دون بعضٍ أحمدُ في الأحاديث التي ظاهرُها الخروجُ على السلطان ، ومالكٌ في أحاديث الصفات ، ـ أي التي يوهِمُ ظاهرُها التشبيهَ ـ ، وأبو يوسف في الغرائب ، ومِنْ قبلِهم أبو هُريرة ، وحذيفةُ ...
وضابطُ ذلك أن يكون ظاهرُ الحديث يُقَوّي البدعةَ ، وظاهرُه في الأصل غيرُ مرادٍ ، فالإمساكُ عنه عند من يُخشى عليه الأخذُ بظاهِره مطلوبٌ ، والله أعلم)) . انتهى .
وهذا أصلٌ عظيم في باب التعليم ، أن يُراعي المُعلِّمُ مقدارَ عقلِ الطالب وفهمِه ، فيُعطيه ما يَتحمَّله عقلُه ، ويُمسِك عنه ما وراء ذلك .
قال الإمام الغزالي رحمه الله تعالى في ((إحياء علوم الدين)) 1 :57 ـ 58 : ((من وظائف المُعلِّم أن يَقتَصِر بالمتعلِّم على قدر فهمِه ، فلا يُلقي إليه ما لا يَبلُغُه عقلُه فيُنفِّرُهُ أو يُخَبِّطُ عليه عقله ، اقتداءً في ذلك بسيِّد البَشر صلى الله عليه وسلم ـ فقد كان يُراعي ذلك في تعليمِه وتحديثِه ووعظه ـ ، فليَبُثَّ إليه الحقيقة إذا عَلِم أنه يَستَقِلُّ بفهمِها .
ولا ينبغي أن يُفشيَ العالمُ كلَّ ما يَعلَم إلى كلِّ أحد ، هذا إذا كان يَفهمُه المتعلِّمُ ولم يكن أهلاً للانتفاع به ، فكيف فيما لا يَفهَمُه؟ ولذلك قيل ـ قائله أبو طالب المكي في ((قوت القلوب)) ـ : ((كِلْ لكل عبدٍ بمِعيارِ عقلِه ، وزِنْ له بميزان فهمِه ، حتى تَسلَم منه ويَنتفِعَ بك ، وإلاّ وَقَع الإنكار لتفاوُتِ المِعيارِ .
وقد قال الله تعالى : (ولا تؤتوا السُّفَهاءَ أموالَكم) ، تنبيهاً على أنَّ حفظَ العلم ممن يُفسِدُه ويَضُرُّه أولى ، وليس الظلمُ في إعطاء غيرِ المُستَحقِّ بأقلَّ من الظلمِ في منع المُستَحِق .
قال : والمتعلِّم القاصرُ ينبغي أن يُلقيَ إليه الجَليَّ اللائقَ به ، ولا يَذكرَ له أنَّ وراءَ هذا تدقيقاً وهو يَدَّخِرُه عنه ، فإن ذلك يُفتِّر رغبته في الجَليّ ، ويُشوِّشُ عليه قلبَه ، ويوهِمُ إليه البُخلَ به عنه ، إذ يَظُن كلُّ أحدٍ أنه أهلٌ لكلِّ علمٍ دقيقٍ .
بل لا ينبغي ان يُخاضَ مع العوام في حقائق العلومِ الدقيقةِ ، بل يُقتَصَر معهم على تعليم العباداتِ وتعليم الامانة في الصناعاتِ التي هم بصددِها ، ويَمْلأُ قُلوبَهم من الرغبة والرهبة في الجنة والنار ، كما نَطَق به القرآن ، ولا يُحرِّك عليهم شبهةً فإنه ربما تعلَّقتْ الشبهةُ بقلبه ويَعسُرُ عليه حَلُّها فيَشقى ويَهلِك)) . انتهى مختصراً .
1 ـ قولُه (تأثُّماً) أي تَجنُّباً للإثم ، والمراد الإثم الحاصل من كِتْمانِ العلم .
قال الإمام أبو عَمْرو بنُ الصلاح في ((شرح صحيح مسلم)) ص 185 : ((وإخبارُ مُعاذٍ بذلك عند موتِه مع أن النبي صلى الله عليه وسلم مَنَعه من أن يُخبِر به الناسَ ، وجُهُهُ عندي : أنه مَنَعَه من التبشيرِ العام خوفاً من أن يَسْمَعَ ذلك مَن لا خِبرةَ له ولا علمَ فيغتَرَّ ويَتَّكِلَ .
ومع ذلك أخبر صلى الله عليه وسلم به على الخصوص مَن أَمِنَ عليه الاغترارَ والاتكالَ من أهلِ المعرفةِ بالحقائق ، فإنه أخبَرَ به مُعاذاً ، فسَلَك مُعاذ هذا المَسلَكَ ، وأخبر به من الخاصةِ مَنْ رآه أهلاً لذلك تأثُّماً من أن يَكتُمَ علماً أهلَه ، والله أعلم)) .
2 ـ 2 :180 و 250 . وفي سنده ابنُ لَهيعة ، وهو حسنُ الحديث عند بعض الأئمة ، وللحديث شاهد أبي هريرة عند أبي داود في ((سننه)) 2 :419 .
3 ـ أي فلا يُخشى عليه إفسادُ الصوم بالوقوع في الجماع ، بخلاف الشابِّ فقد يَجرُّه التقبيلُ إلى الجماعِ أو الإنزالِ فيُفسِدُ عليه صومَه . فاختَلَفَ الجوابُ لاختلاف حالِ السائلَينِ .
4 ـ البخاري 6 :140 في كتاب الجهاد (باب الجهاد بإذن الأبوين) ، ومسلم 16 :103 في كتاب البر والصلة (باب بر الوالدين ...) .
5 ـ أي إن كان لك أبوان فأبلِغْ جُهْدَك في برِّهما والإحسانِ إليهما ، فإن ذلك يَقومُ لكَ مقامَ قتالِ العدو والجهاد .
6 ـ 16 :104 .
7 ـ ((مسند أحمد)) 5 :158 والترمذي 3 :239 في أبواب البر والصلة (باب ما جاء في معاشرة الناس) .
1 ـ البخاري 10 :431 في كتاب الأدب (باب الحذر من الغضب) ، والترمذي 4 :371 في كتاب البر والصلة (باب ما جاء في كثرة الغضب) .
2 ـ أي أحفَظُه وأعقِلُه .
3 ـ قولُه (لا تغضَبْ) قال الخطابي : ((معناه : لا تتعرَّض لأسباب الغَضَب ، وللأمور التي تَجْلِبُ الغضب ، إذ نفسُ الغضب مَطبوعٌ في الإنسان لا يُمكِنُ إخراجُه من جِبِلَّتِه ، أو معناه : لا تفعَلْ ما يأمرُك الغَضبُ ويَححمِلُك عليه من الأقوالِ والأفعال)) . كذا في ((عمدة القاري)) للبدر العيني 22 :164 .
4 ـ البخاري 3 :261 في كتاب الزكاة (باب وجوب الزكاة) ، ومسلم 1 :174 في كتاب الإيمان .
5 ـ هذه الجملة المبشِّرة : (من سرَّه أن ينظر .. فلينظُر إلى هذا) يقولُها بعضُ الناس في بعض الصالحين ، ولكن ينبغي التحفُّظُ من قولها ، لأن فيها الجزم والقطع لمن قيلَتْ فيه بانه من أهل الجنة ، وهذا لا يعلمه إلاّ اللهُ ورسولُه بوحي الله له ، فاقتضى التنبيه .
6 ـ الترمذي 5 :126 ـ 127 في كتاب الدعوات (باب ما جاء في فضل الذكر) ، وابن ماجه 2 :1246 في كتاب الأدب (باب فضل الذكر) .
7 ـ مسلم 1 :8 ـ 9 في الإيمان (باب جامع أوصاف الإسلام) ، والترمذي 4 :22 في الزهد (باب ما جاء في حفظ اللسان) ، وابن ماجه 2 :1314 في الفتن (باب كفِّ اللسان في الفتنة) .
8 ـ قال القاضي عياض رحمه الله : ((هذا من جوامع كَلِمه صلى الله عليه وسلم ، وهو مُطابِق لقوله تعالى : (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استَقاموا) أي وَحَّدوا الله وآمنوا به ، ثم استقاموا فلم يَحيدوا عن التوحيد ، والتَزَموا طاعتَه سبحانه وتعالى إلى أن تُوُفّوا على ذلك)) . نَقَله النووي في ((شرح صحيح مسلم)) .
9 ـ 4 :30 ـ 31 في الزهد (باب ما جاء في حفظ اللسان) .
10 ـ البخاري 1 :55 في كتاب الإيمان (باب إطعام الطعام من الإسلام) ، ومسلم 2 :9 في كتاب الإيمان أيضاً (باب بيان تفاضُل الإسلام وأيُّ أمورِه أفضلُ) .
11 ـ أي : أيُّ خِصالِ الإسلام خيرٌ؟
12 ـ 2 :10 في كتاب الإيمان (باب بيان تفاضل الإسلام) .
13 ـ أي من حيث اتِّصافُه بخِصالِ الإسلام .
1 ـ البخاري 3 :381 في كتاب الحج (باب فضل الحج المبرور) ، ومسلم 2 :72 في كتاب الإيمان (باب بيان كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال) .
2 ـ البخاري 2 :9 في كتاب مواقيت الصلاة (باب فضل الصلاة لوقتها) ، ومسلم 2 :73 ـ 74 في كتاب الإيمان (باب بيان كون الإيمان بالله أفضل) .
3 ـ أي لم أزد في السؤالِ عن بقيةِ الاعمال وترتيبِها في الفضل رِفقاً بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وفيه بيانُ رِفقِ المتعلِّم بالمعلِّم ، ومُراعاةُ مَصالِحِه ، والشفقةُ عليه . قاله الإمام النووي في ((شرح صحيح مسلم)) 2 : 79 .
4 ـ قال الحافظ المنذري في ((الترغيب والترهيب)) 3 :336 في كتاب البرّ والصِّلة (باب الترغيب في صلة الرَّحِم وإن قَطَعَتْ والترهيب من قَطْعِها) : ((إسنادُه جيِّد)) .
5 ـ أي ثم ماذا؟
6 ـ وفي هذا الحديث والذي قبله بيانُ صَبْرِ المُفتي والمُعلِّم على من يُفتيه أو يُعلِّمُه ، واحتمالُ كثرةِ مَسائِلِهِ وتقريراتِهِ .
7 ـ وبعضُ هذا الاختلاف في الجواب قد يكون مَرَدُّهُ إلى اختلافِ ألفاظ السّائلين ، وإلى رعايةِ النبي صلى الله عليه وسلم لوُجوهِ الأفضليةِ وشؤون المَزِيَّة ، فإنها لا تنحَصِر في وصفٍ واحدٍ وحيثيةٍ واحدةٍ ، بل إن أصنافَ الفضل متنوعةٌ ، ومراتبَ الفضلِ ومَدارجَ الخير مختلفةٌ ، فيكونُ اختلافُ الجواب في بعض الروايات متفرِّعاً على رعايةِ النبي صلى الله عليه وسلم الفُروقَ الفرديةَ بين وُجوهِ الأفضليةِ وأسبابِ الخيرِ ، ولشَرحِ كلِّ ذلك موضعٌ غيرُ هذا .
وانظر كلامَ أهل العلم على هذه الأحاديث الشريفة في ((شرح صحيح مسلم)) للإمام النووي 2 :77 ـ 78 ، و((فتح الباري)) للحافظ ابن حجر 2 :9 ، و((فتح المُلْهِم بشرح صحيح مسلم)) للعلامة شبّير أحمد العثماني 1 :623 ـ 627 من الطبعة المحققة ، و((فيض الباري شرح صحيح البخاري)) للعلامة الكشميري 1 :80 ـ 81 .