البحث
بَرَكَةُ المَدِيْنَةِ
" بَرَكَةُ المَدِيْنَةِ "
قالَ لي أحدُ الأصحابِ الفضلاءِ - وقدْ سكنَ المدينةَ حديثاً -: هلْ وجدتَ بنفسكَ بركةَ المدينةِ؟ قلتُ له: إيْ وربي كما تَرى الشّمسَ في رابعةِ النهارِ والقمرَ ليلةَ بدرٍ. أما علمتَ أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم دعا ربهُ أنْ يجعلَ فيها ضعفيْ ما في مكةَ منْ البركة كما رواهُ البخاريُ ومسلمٌ في صحيحيهِمَا(صحيح البخاري، باب المدينة تنفي الخبث (2/666)، وصحيح مسلم، (2/994) 1369).
وهذا شاملٌ للبركةِ في كلِّ شيءٍ فيها، وخصَّ محاصيلَها وثمارَها بمزيدٍ منْ الدعاءِ فقالَ صلى الله عليه وسلم:«اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي ثَمَرِنَا، وَبَارِكْ لَنَا فِي مَدِينَتِنَا، وَبَارِكْ لَنَا فِي صَاعِنَا، وَبَارِكْ لَنَا فِي مُدِّنَا، اللَّهُمَّ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ عَبْدُكَ وَخَلِيلُكَ وَنَبِيُّكَ، وَإِنِّي عَبْدُكَ وَنَبِيُّكَ، وَإِنَّهُ دَعَاكَ لِمَكَّةَ، وَإِنِّي أَدْعُوكَ لِلْمَدِينَةِ بِمِثْلِ مَا دَعَاكَ لِمَكَّةَ وَمِثْلِهِ مَعَهُ». رواهُ مسلمٌ(صحيح مسلم، (2/1000) 1373).
بلْ جاءَ الدعاءُ بالبركةِ شاملاً لجميعِ حياتِهِم، فقدْ رَوى أبو بكرِ بنُ خيثمةَ والمزيُّ عن أبي هريرةَ رضيَ اللهُ عنهُ أنَّ النبيَ صلى الله عليه وسلم خرجَ إلى ناحيةٍ منْ المدينةِ يقالُ لها: «بيوتُ السقيا»وخرجتُ معهُ، فاستقبلَ القبلةَ، ورفعَ يديهِ حتى أني أرى بياضَ ما تحتَ منكبيهِ فقالَ:«اللهم إنَّ إبراهيمَ نبيكَ وخليلكَ دعاكَ لأهلِ مكةِ، وأنا نبيُّكَ ورسولُكَ أدعوكَ لأهلِ المدينةِ، اللهمَ باركْ لهمْ في مُدِّهِم وصَاعِهِم وقليلِهِم وكثيِرِهِم ضعفَيْ ما باركتَ لأهلَ مكةَ، اللهمَ ارزقهمْ منْ هَاهُنا وهَاهُنا، وأشارَ إلى نَواحِي الأرضِ كلِهَا، اللهمَ منْ أرادهمْ بسوءٍ فأذِبْهُ كما يذوبُ الملحُ في الماءِ»(أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق (65/303) من طريق ابن أبي خيثمة، والمزي في تهذيب الكمال (8/508). والحديث بنحوه في مسند أحمد (5/309)، وفضائل المدينة للجندي (ص18) من حديث أبي قتادة).
وقدْ عايشَ أهلُ المدينةِ هذهِ البركةَ سنينَ طويلةً وأزمنةً مديدةً أيامَ استقامَتِهِم على دينِ اللهِ تعالى متبعينَ لسنةِ رسولهِ صلى الله عليه وسلم، مراعينَ حرمَتَهُ، قائمينَ بأوامرهِ، مجانبينَ ما نهى عنهُ وزجرَ، ثمَ بدأتْ هذه البركةُ تتقلصُ شيئاً فشيئاً بقدرِ بعدِ الناسِ عنْ دينِهِم وتنكبِهِم طريقَ نبيهِم صلى الله عليه وسلم، تناسبٌ طرديُّ فبقدرِ التساهلِ بأوامرِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يكونُ النقصُ، فغارت العيونُ وجفّتْ الآبارُ وانقطعت الأمطارُ، وماتت البساتينُ والأشجارُ، فأصبحتِ الطيورُ والنباتاتُ تشكو إلى اللهِ تعالى صنيع الناسِ وكثرة ذنوبِهِم. وأصبحَ لا يجدُ بركةَ المدينة إلا نفرٌ يسيرٌ إما منحةً منْ اللهِ تعالى لهمْ أو محنةً.
وهذا ما يفسر ظاهرةُ قلةُ ذاتِ اليدِ لدى جمعٍ منْ أهلِ المدينةِ، وكثرةِ الديونِ على ظهورِهِم، ولو راجَعُوا أنفسَهُم، واستقَامُوا على دينِ ربهِم، واتَّبَعُوا سنةَ نبيهِم صلى الله عليه وسلم لأبدلَ الله حالَهم رخاءً بعدَ الشدةِ، وكثرةً بعدَ القلَّةِ.
قالَ تعالى:{ولو أنَّ أهلَ القرى آمنوا واتّقوا لفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السماءِ والأرضِ}. وقالَ تعالى:{وأنْ لو استَقَامُوا على الطريقةِ لأسقَيْنَاهُمْ ماءً غدقاً}. وهذا في كلِّ القرى، فكيفَ بالمدينةِ؟