البحث
غزوة بني المصطلق ( المريسيع )
7023
2011/10/30
2024/12/21
غزوة بني المصطلق ( المريسيع )
نصران وفتنتان في هذه الغزوة، أما النصر الأول فكان على ذلك النصر العسكري على حققه المسلمون على قبيلة بني المصطلق تلك التي تعاونت مع قريش في حربها على المسلمين يوم أحد، ومن ثم تأتي هذه الغزوة في إطار الغزوات والسرايا التأديبية التي أطلقها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعد معركة أحد .
أما النصر الثاني، هو إسلام تلك القبيلة، بعد أن أطلق المسلمون سراح أسرى بني المصطلق، إذ لما تزوج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من جويرية بنت الحارث بن ضرار زعيمِ بني المصطلق، أطلق المسلمون من في أيديهم وقالوا : أصهار رسول الله ! فكان لهذا الموقف الجماعي أثرٌ نفسيٌ كبير على بني المصطلق أدى لدخولهم في الإسلام.
أما الفتناتان؛ فالأولى؛ تلك الملاحاة التي حدثت بين بعض المهاجرين وبعض الأنصار، وقول المنافقين على إثرها : "َلائِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ".
والثانية، فتنة الإفك، حيث خاض المنافقون ـ لعنهم الله ـ في عرض رسول الله، واتهموا عائشة أم المؤمنين بالزنى مع صحابي جليل .
***
هذا هو الموجز، وهاكم التفصيل ...
....
هزيمة بني المصطلق
وصلت المعلوماتُ إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ تفيد أن الحارث بن ضرار سيد بني المصطلق يجمع العدة والعتاد لغزو المدينة، إذ لم يكتفوا بتلك المشاركة الآثمة مع قريش في معركة أحد، ويبدو أن نتائج أحد قد أغرت هؤلاء لخوض حرب جديدة . ولكن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ باغتهم قبل أن يباغتوه، ونزل بساحتهم قبل أن ينزلوا بساحته، فخرج في شعبان من العام الخامس للهجرة ـ على خلاف مشهور بين العلماء في تاريخ هذه الغزوة ـ، فسار النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بجيشه حتى وصل إلى ماء لهذه القبيلة اسمه ( المريسيع)، وتصافَّ الفريقان للقتال، وأراد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يدعوهم إلى الإسلام قبل القتال كما هو ثابتٌ في سنته الكريمة، فأرسل إليهم عمرَ بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ هو شخصٌ تعرفه العربُ وتعرف مكانته في الجاهلية ـ فلما دنا منهم، نادى فيهم أن قولوا : لا إله إلا الله، تمنعوا بها أنفسكم وأموالكم، فأبوا، فتراشق الجيشانِ بالسهام ساعةً، ثم حملَ عليهم المسلمون حملةً واحدة؛ فهزموهم بإذن الله، فريقًا يقتلون، ويأسرون فريقًا، ومنحهم الله مغانمَ كثيرةً؛ ألفي بعيرٍ، وخمسةَ آلافِ شاةٍ، فضلاً عن السبي، الذي كان في رهطٍ من آل الحارث بن ضرار الذي قصد حرب المسلمين، وكانت جويريةَ ابنته من نصيب رجلٍ من الأنصار، هو ثابت بن قيس، وذلك بعد أن قسّم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذه الغنائم في الجيش.
إسلام بني المصطلق
حدث بعد ذلك أنْ أتت جويريةُ ـ رضي الله عنها ـ إلى النبي ـ صلى الله ُ عليه وسلم ـ تستعين به في فك رقبتها من ثابت بن قيس، فقالت له : "يَا رَسُولَ اللَّهِ ! أَنَا جُوَيْرِيَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي ضِرَارٍ، سَيِّدِ قَوْمِهِ، وَقَدْ أَصَابَنِي مِنْ الْبَلاءِ مَا لَمْ يَخْفَ عَلَيْكَ، فَوَقَعْتُ فِي السَّهْمِ لِثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ الشَّمَّاسِ ـ أَوْ لِابْنِ عَمٍّ لَهُ ـ فَكَاتَبْتُهُ عَلَى نَفْسِي ؛ فَجِئْتُكَ أَسْتَعِينُكَ عَلَى كِتَابَتِي " .
فقال لها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ :
"فَهَلْ لَكِ فِي خَيْرٍ مِنْ ذَلِكَ ؟ "
قَالَتْ : وَمَا هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟
قَالَ : " أَقْضِي كِتَابَتَكِ، وَأَتَزَوَّجُكِ " .
قَالَتْ : "نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ !
قَالَ: "قَدْ فَعَلْتُ"
قَالَتْ عائشة :
"وَخَرَجَ الْخَبَرُ إِلَى النَّاسِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ تَزَوَّجَ جُوَيْرِيَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ، فَقَالَ النَّاسُ : أَصْهَارُ رَسُولِ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ !! فَأَرْسَلُوا مَا بِأَيْدِيهِمْ "
قَالَتْ عائشة : "فَلَقَدْ أَعْتَقَ بِتَزْوِيجِهِ إِيَّاهَا مِائَةَ أَهْلِ بَيْتٍ مِنْ بَنِي الْمُصْطَلِقِ، فَمَا أَعْلَمُ امْرَأَةً كَانَتْ أَعْظَمَ بَرَكَةً عَلَى قَوْمِهَا مِنْهَا ! "[1].
وحدث على إثر ذلك ـ كما هو ثابت في كتب السير ـ أن أسلم بنو المصطلق تأثرًا بأخلاق المسلمين.
ولعلك تلحظ أنهم لم يسلموا لما تصافَّ الجيشان وقد دعاهم عمر للإسلام حقنًا لدمائهم، فرفضوا .
وهَاهُمْ أولاءِ قد أسلموا جراء هذا الموقف الأخلاقي الجماعي من الشعب المسلم .
إنه درسٌ يُعليَ من شأن الترغيب على الترهيب ـ على أهميتهما معًا ـ، ويبين الطريق المثلى للولوج إلى قلوب كثير من الناس؛ بالحكمة والموعظة الحسنة والأخلاق الإسلامية العملية .
ثم إن الحديث عن الأخلاق، يختلف عن العمل بالأخلاق، في التأثير على الناس، فالذي يعمل بأخلاق الإسلام أقوى أثرًا بين الناس من الذي يفرد الخطب الطوال في حث الناس على الأخلاق. لذا كان قولنا : عاملٌ أفضل من ألف قائل، وليس الحكيم يلقن الناس الحكمةً متونًا، إنما هو الذي يفعلها سلوكًا .
وإذ كان فعل الفرد له أثرٌ كبير في جماعة القائلين، فما بالك بأثر الجماعة العاملة ؟ هذا الذي تحقق في هذا الموقف عندما أعتق المسلمون جميعًا ما في أيدهم من أسرى بني المصطلق .
ثم هو موفقٌ يؤكد لك مدى احترامِ المسلمين لنبيهم، وفضلهم في ذلك على الأمم الأخرى التي أهانت أنبياءهم فضلاً عن أنبياء غيرهم .
وهذا التوقير الذي أمرنا الله به، يحتاج منا إلى مزيد من التفعيل في واقعنا المعاصرِ، ومن ذلك توقيرُ منهج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ والاقتداءُ به حكامًا ومحكومين .
وحدث في هذه الغزوة في ثنايا هذين الفتحين الكبيرين، أنْ كانت فتنتين كادتا أن تأتيَ على الشعب المسلم، وتجره إلى حرب أهلية تدمرُ كلَ شيء، لولا اللهُ، ثم حكمةُ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
فتنة جهجاه وسنان :
فَبَيْنَا المسلمون على ماء المريسيع، وَرَدَتْ وَارِدَةُ النّاسِ وَمَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ أَجِيرٌ لَهُ مِنْ بَنِي غِفَارٍ ، يُقَالُ لَهُ جَهْجَاه بْنُ مَسْعُودٍ يَقُودُ فَرَسَهُ فَازْدَحَمَ جَهْجَاه وَسِنَانُ بْنُ وَبَرٍ الْجُهَنِيّ الخزرجي، فَاقْتَتَلَا ، فَصَرَخَ الْجُهَنِيّ : يَا مَعْشَرَ الأنْصَارِ ، وَصَرَخَ جَهْجَاه : يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ فَغَضِبَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُبَيّ ابْنُ سَلُولَ، وقال قولته : أَمَا وَاَللّهِ { لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنّ الْأَعَزّ مِنْهَا الْأَذَلّ ، ثُمّ أَقْبَلَ عَلَى مَنْ حَضَرَهُ مِنْ قَوْمِهِ فَقَالَ لَهُمْ هَذَا مَا فَعَلْتُمْ بِأَنْفُسِكُمْ، أَحْلَلْتُمُوهُمْ بِلادَكُمْ، وَقَاسَمْتُوهُمْ أَمْوَالَكُمْ، أَمَا وَاَللّهِ، لَوْ أَمْسَكْتُمْ عَنْهُمْ مَا بِأَيْدِيكُمْ لَتَحَوّلُوا إلَى غَيْرِ دَارِكُمْ. فَسَمِعَ ذَلِكَ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ فَمَشَى بِهِ إلَى رَسُولِ اللّهِ ـ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ـ وَذَلِكَ عِنْدَ فَرَاغِ رَسُولِ اللّهِ ـ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ـ مِنْ عَدُوّهِ فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ ، وَعِنْدَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ ، فَقَالَ : مُرْ بِهِ عَبّادَ بْنِ بِشْرٍ فَلْيَقْتُلْهُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ ـ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ـ :"فَكَيْفَ يَا عُمَرُ، إذَا تَحَدّثَ النّاسُ أَنّ مُحَمّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ، لا، وَلَكِنْ أَذّنَ بِالرّحِيلِ"، وَذَلِكَ فِي سَاعَةٍ لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللّهِ ـ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ـ يَرْتَحِلُ فِيهَا ، فَارْتَحَلَ النّاسُ [2].
وَقَدْ مَشَى عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُبَيّ ابْنُ سَلُولَ إلَى رَسُولِ اللّهِ ـ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ـ حِينَ بَلَغَهُ أَنّ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ، قَدْ بَلّغَهُ مَا سَمِعَ مِنْهُ فَحَلَفَ بِاَللّهِ مَا قُلْت مَا قَالَ، وَلا تَكَلّمْت بِهِ .ـ وَكَانَ فِي قَوْمِهِ شَرِيفًا عَظِيمًا ـ ، فَقَالَ مَنْ حَضَرَ رَسُولَ اللّهِ ـ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ـ مِنْ الأنْصَارِ مِنْ أَصْحَابِهِ : يَا رَسُولَ اللّهِ، عَسَى أَنْ يَكُونَ الْغُلامُ قَدْ أَوْهَمَ فِي حَدِيثِهِ، وَلَمْ يَحْفَظْ مَا قَالَ الرّجُلُ ـ حَدَبًا عَلَى ابْنِ أُبَيّ ابْنِ سَلُولَ ، وَدَفْعًا عَنْهُ[3].
ولما التقى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأسيد بن حضير، قال لَهُ رَسُولُ اللّهِ ـ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ـ : " أَوْ مَا بَلَغَك مَا قَالَ صَاحِبُكُمْ؟" قَالَ : وَأَيّ صَاحِبٍ يَا رَسُولَ اللّهِ ؟ قَالَ : " عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُبَيّ "؛ قَالَ : وَمَا قَالَ ؟ قَالَ: " زَعَمَ أَنّهُ إنْ رَجَعَ إلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَن الأعَزّ مِنْهَا الْأَذَلّ "، قَالَ: فَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللّهِ، وَاَللّهِ تُخْرِجُهُ مِنْهَا إنْ شِئْت . هُوَ وَاَللّهِ الذّلِيلُ وَأَنْتَ الْعَزِيزُ ! ثُمّ قَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ : اُرْفُقْ بِهِ فَوَاَللّهِ لَقَدْ جَاءَنَا اللّهُ بِك ، وَإِنّ قَوْمَهُ لَيَنْظِمُونَ لَهُ الْخَرَزَ لِيُتَوّجُوهُ، فَإِنّهُ لَيَرَى أَنّك قَدْ اسْتَلَبْته مُلْكًا[4].
ثُمّ مَشَى رَسُولُ اللّهِ ـ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ـ بِالنّاسِ يَوْمَهُمْ ذَلِكَ حَتّى أَمْسَى ، وَلَيْلَتَهُمْ حَتّى أَصْبَحَ، وَصَدْرَ يَوْمِهِمْ ذَلِكَ حَتّى آذَتْهُمْ الشّمْسُ، ثُمّ نَزَلَ بِالنّاسِ، فَلَمْ يَلْبَثُوا أَنْ وَجَدُوا مَسّ الأرْضِ فَوَقَعُوا نِيَامًا ، وَإِنّمَا فَعَلَ ذَلِكَ رَسُولُ اللّهِ ـ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ـ لِيَشْغَلَ النّاسَ عَنْ الْحَدِيثِ الّذِي كَانَ بِالأمْسِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللّهِ ابْنِ أُبَيّ[5] .
وجاء عَبْدُ اللّهِ بن عبد الله بن أُبي إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللّهِ ! إنّهُ بَلَغَنِي أَنّك تُرِيدُ قَتْلَ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أُبَيّ فِيمَا بَلَغَك عَنْهُ، فَإِنْ كُنْت لا بُدّ فَاعِلاً؛ فَمُرْنِي بِهِ فَأَنَا أَحْمِلُ إلَيْك رَأْسَهُ، فَوَاَللّهِ لَقَدْ عَلِمَتْ الْخَزْرَجُ مَا كَانَ لَهَا مِنْ رَجُلٍ أَبَرّ بِوَالِدِهِ مِنّي ، وَإِنّي أَخْشَى أَنْ تَأْمُرَ بِهِ غَيْرِي فَيَقْتُلَهُ فَلا تَدَعُنِي نَفْسِي أَنْظُرُ إلَى قَاتِلِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أُبَيّ يَمْشِي فِي النّاسِ فَأَقْتُلَهُ فَأَقْتُلَ مُؤْمِنًا بِكَافِرِ فَأَدْخُلَ النّارَ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ـ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ـ: " بَلْ نَتَرَفّقُ بِهِ، وَنُحْسِنُ صُحْبَتَهُ، مَا بَقِيَ مَعَنَا ."[6] .
وَجَعَلَ بَعْدَ ذَلِكَ إذَا أَحْدَثَ الْحَدَثَ، كَانَ قَوْمُهُ هُمْ الّذِينَ يُعَاتِبُونَهُ، وَيَأْخُذُونَهُ، وَيُعَنّفُونَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ـ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ـ لِعُمَرِ بْنِ الْخَطّابِ حِينَ بَلَغَهُ ذَلِكَ مِنْ شَأْنِهِمْ : " كَيْفَ تَرَى يَا عُمَرُ ! أَمَا وَاَللّهِ لَوْ قَتَلْته يَوْمَ قُلْتَ لِي اُقْتُلْهُ، لأُرْعِدَتْ لَهُ آنُفٌ لَوْ أَمَرْتهَا الْيَوْمَ بِقَتْلِهِ لَقَتَلْته "؛ قَالَ عمر : قَدْ وَاَللّهِ عَلِمْتُ لَأَمْرُ رَسُولِ اللّهِ ـ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ـ أَعْظَمُ بَرَكَةً مِنْ أَمْرِي [7] .
وهي قصة تظهر لك حكمة منقطعة النظير، بعد نظر، وصبر . فبحكمته ـ صلى الله عليه وسلم ـ جنى تعاطف عشيرة ابن أبي، وفي بعد نظره رأيتَ ما قال عمر، وفي صبره رأيتَ كيف سكتَ حتى تكلم القرآنُ ففُضح عدو الله ابن أبي.
***
فتنة الإفك :
ونتركُ أُمنا الطاهرة عائشة ـ رضي الله عنها ـ تقص القصة ـ والحديث في صحيح البخاري ـ فتقول:
1ـ " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ إِذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ أَزْوَاجِهِ، فَأَيُّهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مَعَهُ .. فَأَقْرَعَ بَيْنَنَا فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا [ هي هذه الغزوة] فَخَرَجَ فِيهَا سَهْمِي، فَخَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بَعْدَ مَا أُنْزِلَ الْحِجَابُ، فَكُنْتُ أُحْمَلُ فِي هَوْدَجِي، وَأُنْزَلُ فِيهِ، فَسِرْنَا..
2ـ " حَتَّى إِذَا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مِنْ غَزْوَتِهِ تِلْكَ، وَقَفَلَ، دَنَوْنَا مِنْ الْمَدِينَةِ قَافِلِينَ؛ آذَنَ لَيْلَةً بِالرَّحِيلِ فَقُمْتُ ـ حِينَ آذَنُوا بِالرَّحِيلِ ـ فَمَشَيْتُ حَتَّى جَاوَزْتُ الْجَيْشَ؛ فَلَمَّا قَضَيْتُ شَأْنِي، أَقْبَلْتُ إِلَى رَحْلِي، فَلَمَسْتُ صَدْرِي، فَإِذَا عِقْدٌ لِي مِنْ (جَزْعِ ظَفَارِ) قَدْ انْقَطَعَ، فَرَجَعْتُ فَالْتَمَسْتُ عِقْدِي فَحَبَسَنِي ابْتِغَاؤُهُ، وَأَقْبَلَ الرَّهْطُ الَّذِينَ كَانُوا يُرَحِّلُونِي فَاحْتَمَلُوا هَوْدَجِي، فَرَحَلُوهُ عَلَى بَعِيرِي الَّذِي كُنْتُ أَرْكَبُ عَلَيْهِ، وَهُمْ يَحْسِبُونَ أَنِّي فِيهِ، وَكَانَ النِّسَاءُ إِذْ ذَاكَ خِفَافًا لَمْ يَهْبُلْنَ[8]، وَلَمْ يَغْشَهُنَّ اللَّحْمُ، إِنَّمَا يَأْكُلْنَ الْعُلْقَةَ[9] مِنْ الطَّعَامِ، فَلَمْ يَسْتَنْكِرْ الْقَوْمُ خِفَّةَ الْهَوْدَجِ حِينَ رَفَعُوهُ وَحَمَلُوهُ، وَكُنْتُ جَارِيَةً حَدِيثَةَ السِّنِّ، فَبَعَثُوا الْجَمَلَ فَسَارُوا، وَوَجَدْتُ عِقْدِي بَعْدَ مَا اسْتَمَرَّ الْجَيْشُ فَجِئْتُ مَنَازِلَهُمْ وَلَيْسَ بِهَا مِنْهُمْ دَاعٍ وَلا مُجِيبٌ، فَتَيَمَّمْتُ مَنْزِلِي[10] الَّذِي كُنْتُ بِهِ، وَظَنَنْتُ أَنَّهُمْ سَيَفْقِدُونِي فَيَرْجِعُونَ إِلَيَّ ..
3ـ " فَبَيْنَا أَنَا جَالِسَةٌ فِي مَنْزِلِي، غَلَبَتْنِي عَيْنِي فَنِمْتُ وَكَانَ صَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطَّلِ السُّلَمِيُّ ثُمَّ الذَّكْوَانِيُّ، مِنْ وَرَاءِ الْجَيْشِ فَأَصْبَحَ عِنْدَ مَنْزِلِي، فَرَأَى سَوَادَ إِنْسَانٍ نَائِمٍ فَعَرَفَنِي حِينَ رَآنِي، وَكَانَ رَآنِي قَبْلَ الْحِجَابِ، فَاسْتَيْقَظْتُ بِاسْتِرْجَاعِهِ[11] حِينَ عَرَفَنِي، فَخَمَّرْتُ وَجْهِي[12] بِجِلْبَابِي وَ وَاللَّهِ مَا تَكَلَّمْنَا بِكَلِمَةٍ، وَلا سَمِعْتُ مِنْهُ كَلِمَةً غَيْرَ اسْتِرْجَاعِهِ، وَهَوَى حَتَّى أَنَاخَ رَاحِلَتَهُ، فَوَطِئَ عَلَى يَدِهَا فَقُمْتُ إِلَيْهَا فَرَكِبْتُهَا فَانْطَلَقَ يَقُودُ بِي الرَّاحِلَةَ حَتَّى أَتَيْنَا الْجَيْشَ مُوغِرِينَ فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ، وَهُمْ نُزُولٌ، فَهَلَكَ مَنْ هَلَكَ، وَكَانَ الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَ الْإِفْكِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ .
4ـ " فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فَاشْتَكَيْتُ حِينَ قَدِمْتُ شَهْرًا، وَالنَّاسُ يُفِيضُونَ فِي قَوْلِ أَصْحَابِ الْإِفْكِ لا أَشْعُرُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ يَرِيبُنِي فِي وَجَعِي أَنِّي لا أَعْرِفُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ اللُّطْفَ الَّذِي كُنْتُ أَرَى مِنْهُ حِينَ أَشْتَكِي، إِنَّمَا يَدْخُلُ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَيُسَلِّمُ، ثُمَّ يَقُولُ :" كَيْفَ تِيكُمْ"[13]، ثُمَّ يَنْصَرِفُ فَذَلِكَ يَرِيبُنِي وَلا أَشْعُرُ بِالشَّرِّ حَتَّى خَرَجْتُ حِينَ نَقَهْتُ فَخَرَجْتُ مَعَ أُمِّ مِسْطَحٍ قِبَلَ الْمَنَاصِعِ وَكَانَ مُتَبَرَّزَنَا، وَكُنَّا لا نَخْرُجُ إِلا لَيْلاً إِلَى لَيْلٍ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ نَتَّخِذَ الْكُنُفَ[14] قَرِيبًا مِنْ بُيُوتِنَا ... فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأُمُّ مِسْطَحٍ (وَهِيَ ابْنَةُ أَبِي رُهْمِ بْنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ وَأُمُّهَا بِنْتُ صَخْرِ بْنِ عَامِرٍ خَالَةُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَابْنُهَا مِسْطَحُ بْنُ أُثَاثَةَ بْنِ عَبَّادِ بْنِ الْمُطَّلِبِ ) فَأَقْبَلْتُ أَنَا وَأُمُّ مِسْطَحٍ قِبَلَ بَيْتِي حِينَ فَرَغْنَا مِنْ شَأْنِنَا فَعَثَرَتْ أُمُّ مِسْطَحٍ فِي مِرْطِهَا[15]، فَقَالَتْ : تَعِسَ مِسْطَحٌ، فَقُلْتُ : لَهَا بِئْسَ مَا قُلْتِ، أَتَسُبِّينَ رَجُلاً شَهِدَ بَدْرًا، فَقَالَتْ: أَيْ هَنْتَاهْ ! وَلَمْ تَسْمَعِي مَا قَالَ ؟ َقُلْتُ : مَا قَالَ ؟ فَأَخْبَرَتْنِي بِقَوْلِ أَهْلِ الْإِفْكِ، فَازْدَدْتُ مَرَضًا عَلَى مَرَضِي..
5ـ " فَلَمَّا رَجَعْتُ إِلَى بَيْتِي دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: "كَيْفَ تِيكُمْ"، فَقُلْتُ لَهُ: أَتَأْذَنُ لِي أَنْ آتِيَ أَبَوَيَّ، فَأَذِنَ لِي رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَقُلْتُ: لأمِّي :يَا أُمَّتَاهُ مَاذَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ ؟ قَالَتْ : يَا بُنَيَّةُ هَوِّنِي عَلَيْكِ فَوَاللَّهِ لَقَلَّمَا كَانَتْ امْرَأَةٌ قَطُّ وَضِيئَةً عِنْدَ رَجُلٍ يُحِبُّهَا لَهَا ضَرَائِرُ إِلَّا كَثَّرْنَ عَلَيْهَا ! فَقُلْتُ : سُبْحَانَ اللَّهِ أَوَلَقَدْ تَحَدَّثَ النَّاسُ بِهَذَا ؟ فَبَكَيْتُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ حَتَّى أَصْبَحْتُ لا يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ، وَلا أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ ثُمَّ أَصْبَحْتُ أَبْكِي ..
6ـ " وَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَأُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ حِينَ اسْتَلْبَثَ الْوَحْيُ يَسْأَلُهُمَا وَيَسْتَشِيرُهُمَا فِي فِرَاقِ أَهْلِهِ، فَأَمَّا أُسَامَةُ فَأَشَارَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِالَّذِي يَعْلَمُ مِنْ بَرَاءَةِ أَهْلِهِ، وَبِالَّذِي يَعْلَمُ لَهُمْ فِي نَفْسِهِ فَقَالَ أُسَامَةُ: أَهْلَكَ وَلا نَعْلَمُ إِلا خَيْرًا، وَأَمَّا عَلِيٌّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَمْ يُضَيِّقْ اللَّهُ عَلَيْكَ، وَالنِّسَاءُ سِوَاهَا كَثِيرٌ، وَسَلْ الْجَارِيَةَ تَصْدُقْكَ، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بَرِيرَةَ فَقَالَ : أَيْ بَرِيرَةُ، هَلْ رَأَيْتِ مِنْ شَيْءٍ يَرِيبُكِ؟ قَالَتْ لَهُ بَرِيرَةُ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا رَأَيْتُ عَلَيْهَا أَمْرًا قَطُّ أَغْمِصُهُ غَيْرَ أَنَّهَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ تَنَامُ عَنْ عَجِينِ أَهْلِهَا فَتَأْتِي الدَّاجِنُ فَتَأْكُلُهُ !
7ـ " فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مِنْ يَوْمِهِ فَاسْتَعْذَرَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ : "يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ ! مَنْ يَعْذِرُنِي مِنْ رَجُلٍ قَدْ بَلَغَنِي عَنْهُ أَذَاهُ فِي أَهْلِي وَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ عَلَى أَهْلِي إِلا خَيْرًا، وَلَقَدْ ذَكَرُوا رَجُلاً مَا عَلِمْتُ عَلَيْهِ إِلاً خَيْرًا، وَمَا يَدْخُلُ عَلَى أَهْلِي إِلا مَعِي، فَقَامَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ الأوسي فَقَالَ : أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْذِرُكَ فَإِنْ كَانَ مِنْ الأوْسِ ضَرَبْتُ عُنُقَهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ إِخْوَانِنَا مِنْ الْخَزْرَجِ أَمَرْتَنَا فَفَعَلْنَا أَمْرَكَ . فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ الْخَزْرَجِ .. وَهُوَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَهُوَ سَيِّدُ الْخَزْرَجِ، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ رَجُلاً صَالِحًا وَلَكِنْ احْتَمَلَتْهُ الْحَمِيَّةُ فَقَالَ لِسَعْدٍ: كَذَبْتَ لَعَمْرُ اللَّهِ لا، تَقْتُلُهُ وَلَا تَقْدِرُ عَلَى قَتْلِهِ، وَلَوْ كَانَ مِنْ رَهْطِكَ مَا أَحْبَبْتَ أَنْ يُقْتَلَ، فَقَامَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ وَهُوَ ابْنُ عَمِّ سَعْدٍ فَقَالَ لِسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ: كَذَبْتَ لَعَمْرُ اللَّهِ لَنَقْتُلَنَّهُ فَإِنَّكَ مُنَافِقٌ تُجَادِلُ عَنْ الْمُنَافِقِينَ، فَثَارَ الْحَيَّانِ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ حَتَّى هَمُّوا أَنْ يَقْتَتِلُوا وَرَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَائِمٌ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يُخَفِّضُهُمْ حَتَّى سَكَتُوا وَسَكَتَ..
8ـ " فَبَكَيْتُ يَوْمِي ذَلِكَ كُلَّهُ لا يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ وَلا أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ، وَأَصْبَحَ أَبَوَايَ عِنْدِي، وَقَدْ بَكَيْتُ لَيْلَتَيْنِ وَيَوْمًا لا يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ، وَلا أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ حَتَّى إِنِّي لأظُنُّ أَنَّ الْبُكَاءَ فَالِقٌ كَبِدِي، فَبَيْنَا أَبَوَايَ جَالِسَانِ عِنْدِي وَأَنَا أَبْكِي، فَاسْتَأْذَنَتْ عَلَيَّ امْرَأَةٌ مِنْ الأنْصَارِ فَأَذِنْتُ لَهَا فَجَلَسَتْ تَبْكِي مَعِي، فَبَيْنَا نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَلَيْنَا فَسَلَّمَ ثُمَّ جَلَسَ، وَلَمْ يَجْلِسْ عِنْدِي مُنْذُ قِيلَ مَا قِيلَ قَبْلَهَا وَقَدْ لَبِثَ شَهْرًا لا يُوحَى إِلَيْهِ فِي شَأْنِي بِشَيْءٍ، فَتَشَهَّدَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ حِينَ جَلَسَ، ثُمَّ قَالَ: "أَمَّا بَعْدُ يَا عَائِشَةُ، إِنَّهُ بَلَغَنِي عَنْكِ كَذَا وَكَذَا، فَإِنْ كُنْتِ بَرِيئَةً فَسَيُبَرِّئُكِ اللَّهُ، وَإِنْ كُنْتِ أَلْمَمْتِ بِذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرِي اللَّهَ وَتُوبِي إِلَيْهِ، فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا اعْتَرَفَ، ثُمَّ تَابَ، تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ".. فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مَقَالَتَهُ، قَلَصَ[16] دَمْعِي، حَتَّى مَا أُحِسُّ مِنْهُ قَطْرَةً، فَقُلْتُ لأبِي أَجِبْ رَسُولَ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَنِّي فِيمَا قَالَ، فَقَالَ أَبِي : وَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ، فَقُلْتُ لأمِّي : أَجِيبِي رَسُولَ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِيمَا قَالَ، قَالَتْ أُمِّي : وَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَقُلْتُ ـ وَأَنَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ لا أَقْرَأُ مِنْ الْقُرْآنِ كَثِيرًا ـ : إِنِّي وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُ لَقَدْ سَمِعْتُمْ هَذَا الْحَدِيثَ حَتَّى اسْتَقَرَّ فِي أَنْفُسِكُمْ وَصَدَّقْتُمْ بِهِ، فَلَئِنْ قُلْتُ لَكُمْ إِنِّي بَرِيئَةٌ لا تُصَدِّقُونِي، وَلَئِنْ اعْتَرَفْتُ لَكُمْ بِأَمْرٍ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي مِنْهُ بَرِيئَةٌ، لَتُصَدِّقُنِّي فَوَاللَّهِ لَا أَجِدُ لِي وَلَكُمْ مَثَلاً إِلَّا أَبَا يُوسُفَ حِينَ قَالَ :{ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ }، ثُمَّ تَحَوَّلْتُ، وَاضْطَجَعْتُ عَلَى فِرَاشِي ..
9ـ "وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي حِينَئِذٍ بَرِيئَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ مُبَرِّئِي بِبَرَاءَتِي، وَلَكِنْ وَاللَّهِ مَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ مُنْزِلٌ فِي شَأْنِي وَحْيًا يُتْلَى، لَشَأْنِي فِي نَفْسِي كَانَ أَحْقَرَ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ اللَّهُ فِيَّ بِأَمْرٍ، وَلَكِنْ كُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَرَى رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي النَّوْمِ رُؤْيَا يُبَرِّئُنِي اللَّهُ بِهَا فَوَاللَّهِ مَا رَامَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مَجْلِسَهُ وَلا خَرَجَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ حَتَّى أُنْزِلَ عَلَيْهِ، فَأَخَذَهُ مَا كَانَ يَأْخُذُهُ مِنْ الْبُرَحَاءِ، حَتَّى إِنَّهُ لَيَتَحَدَّرُ مِنْهُ مِنْ الْعَرَقِ مِثْلُ الْجُمَانِ وَهُوَ فِي يَوْمٍ شَاتٍ مِنْ ثِقَلِ الْقَوْلِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِ، فَسُرِّيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَهُوَ يَضْحَكُ فَكَانَتْ أَوَّلَ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا أَنْ قَالَ يَا عَائِشَةُ : أَمَّا اللَّهُ فَقَدْ بَرَّأَكِ ! " فَقَالَتْ لِي أُمِّي : قُومِي إِلَيْهِ، فَقُلْتُ وَاللَّهِ لا أَقُومُ إِلَيْهِ فَإِنِّي لا أَحْمَدُ إِلا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى
{ إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ }
الْعَشْرَ الْآيَاتِ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ هَذَا فِي بَرَاءَتِي..
10 ـ " قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحِ بْنِ أُثَاثَةَ لِقَرَابَتِهِ مِنْهُ وَفَقْرِهِ : وَاللَّهِ لَا أُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ شَيْئًا أَبَدًا بَعْدَ الَّذِي قَالَ لِعَائِشَةَ مَا قَالَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ:
{ وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ إِلَى قَوْلِهِ غَفُورٌ رَحِيمٌ }
قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ : بَلَى وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لِي فَرَجَعَ إِلَى مِسْطَحٍ النَّفَقَةَ الَّتِي كَانَ يُنْفِقُ عَلَيْهِ، وَقَالَ: وَاللَّهِ لا أَنْزِعُهَا مِنْهُ أَبَدًا .
11ـ " وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ سَأَلَ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ عَنْ أَمْرِي، فَقَالَ لِزَيْنَبَ:" مَاذَا عَلِمْتِ أَوْ رَأَيْتِ "، فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَحْمِي سَمْعِي وَبَصَرِي وَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ إِلاً خَيْرًا ! قَالَتْ عَائِشَةُ وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ تُسَامِينِي مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَعَصَمَهَا اللَّهُ بِالْوَرَعِ، وَطَفِقَتْ أُخْتُهَا حَمْنَةُ تُحَارِبُ لَهَا فَهَلَكَتْ فِيمَنْ هَلَكَ"[17].
***
قَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ يعتذر لعَائِشَةَ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا – بعد أن نزلت براءتها:
حَصَانٌ رَزَانٌ مَا تُزَنّ بِرِيبَةٍ ... وَتُصْبِحُ غَرْثَى مِنْ لُحُومِ الْغَوَافِلِ
عَقِيلَةُ حَيّ مِنْ لُؤَيّ بْنِ غَالِبٍ ... كِرَامِ الْمَسَاعِي مَجْدُهُمْ غَيْرُ زَائِلِ
مُهَذّبَةٌ قَدْ طَيّبَ اللّهُ خِيمَهَا ... وَطَهّرَهَا مِنْ كُلّ سُوءٍ وَبَاطِلِ
فَإِنْ كُنْتُ قَدْ قُلْت الّذِي قَدْ زَعَمْتُمْ ... فَلَا رَفَعَتْ سَوْطِي إلَيّ أَنَامِلِي
وَكَيْفَ وَوُدّي مَا حَيِيتُ وَنُصْرَتِي ... لِآلِ رَسُولِ اللّهِ زَيْنُ الْمَحَافِلِ
لَهُ رَتَبٌ عَالٍ عَلَى النّاسِ كُلّهِمْ ... تَقَاصَرَ عَنْهُ سَوْرَةُ الْمُتَطَاوِلِ
فَإِنّ الّذِي قَدْ قِيلَ لَيْسَ بِلَائِطٍ ... وَلَكِنّهُ قَوْلُ امْرِئٍ بِي مَاحِلِ
***
دروس من القصة :
لقد علا قدر أم المؤمنين بعد هذه المحنة، فنزلت فيها آيات من لدن ربِ العالمين، براءةً وشهادةً وتكريمًا لأم المؤمنين، تتلى آناء الليل وآناء النهار إلى قيام الساعة.
و كَوْنُ القرآنِ يَنزلُ منه شيئًا في هذه القضية لهو دليلٌ واضح وصريح على خطورة التعرض لأمهات المؤمنين، وقد قال الله {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ }النور17، فلا عذر بعد ذلك لمن وقع في عائشة ـ رضي الله عنه ـ، إلى قيام الساعة.
وأبانت هذه القصةُ نبوة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبشريته في موقف واحد، وشُرع على إثر هذه الحادثة حد القذف، ونزلت توصيات عزيزة في أهمية الحرص على سمعة المسلمين ووجوب محاربة الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، والحث على النفقة على الأقارب وإن أساءوا، وهذا كلُّه من بركات أم المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنه ـ .
***
ألا فليعلمَ الذين يحبون أن تشيعَ الفاحشة في المجتمعِ الإسلامي؛ أن الله فاضحهم، وأن الله لاعنهم، ولهم الدمار في الدنيا والآخرة !
{إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ }النور19
ألا فليعلم المسلمون أن في أعناقهم أمانة نحو المسلمات، ألا وهي حماية أعراضهن، وإعفافهن، وأداء حقوقهن !
توصيات عملية :
1ـ مدراسة سورة النور
2ـ مدارسة ترجمة السيدة عائشة رضي الله عنها
3ـ راقب لسانك ما دام فيك، فلا تذكر مسلمًا بما يكره
----------------------------
[1] أخرجه أحمد(26365) وغيره، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود، برقم 3931
[2] ابن هشام 2 / 291
[3] ابن هشام 2 / 291
[4] ابن هشام 2 / 291
[5] ابن هشام 2 / 291
[6] ابن هشام 2 / 291
[7] ابن هشام 2 / 292
[8]يُهبَّلن: - بضم التحتانية وتشديد الموحدة - أي: لم يكثر عليهن اللحم، يقال: هبّله اللحم إذا كثر عليه وركب بعضه بعضاً. [محمد بن محمد العواجي: مرويات الإمام الزهري في المغازي، (1 / 455)]
[9]العُلقة: - بضم المهملة وسكون اللام - من الطعام: أي البلغة منه/ النهاية 3/ 289، والنووي على مسلم 17/ 104.[محمد بن محمد العواجي: مرويات الإمام الزهري في المغازي، (1 / 455)]
[10]أي قصدته
[11]أي: قوله: إنا لله وإنا إليه راجعون
[12] أي سترته، والتخمير: التغطية
[13]تيكم: - بالمثناة المكسورة - وهي للمؤنث مثل ذاكم للمذكر، الفتح 8/ 465، قال الحافظ: واستدلت عائشة بهذه الحالة على أنها استشعرت منه بعض جفاء ولكنها لما لم تكن تدري السبب لم تبالغ في التنقيب عن ذلك حتى عرفته. الفتح 8/ 465. [محمد بن محمد العواجي: مرويات الإمام الزهري في المغازي، (1 / 457)]
[14]الكنف: - بضمتين - جمع كنيف وهو الساتر، والمراد به هنا المكان المتخذ لقضاء الحاجة، الفتح 8/ 465. [محمد بن محمد العواجي: مرويات الإمام الزهري في المغازي، (1 / 457)]
[15]المرط: كساء من صوف
[16]قَلَصَ دمعي: - بفتح القاف واللام ثم المهملة -: أي: استمسك نزوله فانقطع، ومنه قلص الظل، وتقلص إذا شمر.
قال القرطبي: "سببه أن الحزن والغضب إذا أخذ أحدهما فقد الدمع لفرط حرارة المصيبة" الفتح 8/ 475. [محمد بن محمد العواجي: مرويات الإمام الزهري في المغازي، (1 / 465)]
[17] أخرجه البخاري ( 3826)