البحث
إلى الرفيق الأعلى
3771
2012/01/22
2024/11/15
إلى الرفيق الأعلى
بعث أسامة :
فور عودة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من حجة الوداع، أمر المسلمين بالتهيؤ لغزو الرومان في جولة ثالثة ـ بعد مؤتة وتبوك ـ، واختار النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لإمارة هذه الجولة أسامةَ بن زيد ـ رضي الله عنه ـ وكان دون سن العشرين ـ . وقد كان شابًا حدثًا شجاعًا هصورًا، خليقًا بقيادة الجحافل كأبيه " زيد" الذي قُتل في مؤتة .
ولسان الحال : اذهب يا أسامة فقاتل من قتلوا أباك، أو مُت على ما مات عليه !
واستغل المنافقون هذا القرار، وراحوا يطعنون في إمارة أسامة، ويشككون في كفائته وأهليته لهذه المهمة الجسام؛ أنْ يخرج شابٌ صغير بقيادة جيش المسلمين لملاقاة أكبر دولة في العالم !
غير أن التربية النبوية صنعت من عباد الوثن قادة، وجعلت من الصغار سادة !
وفي هذه الأثناء مرض رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مرضه الأخير، وشغله قليلاً عن الناس.
ولما كثرت القالة من المنافقين، ووصل الكلامُ إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن جماعةً من المنافقين يطعنون في إمارة أسامة ـ خرج رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى الناس، وعليه علائم المرض، يعصب رأسه بشيء، ووقف فيهم خطيبًا وواعظًا ، وقال :
"إِنْ تَطْعَنُوا فِي إِمَارَتِهِ فَقَدْ طَعَنْتُمْ فِي إِمَارَةِ أَبِيهِ مِنْ قَبْلِهِ، وَايْمُ اللَّهِ ! لَقَدْ كَانَ خَلِيقًا لِلإمَارَةِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ، وَإِنَّ هَذَا [ يعني أسامة] لَمِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ بَعْدَهُ"[1].
أما أسامة ـ رضي الله عنه ـ فقد عسكر قريبًا من المدينة، ليلحق به المجاهدون حيث التدريب والتجهز والاستعداد للزحف نحو الرومان .
ثم تريث الجيش، لينظر الناسُ ما اللهُ فاعله برسوله، فقد اشتد المرضُ برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
غير أن العبرة التي تستوقف الباحث؛ أن هذا النبي العظيم وهو في هذه السن وفي هذه الحال من المرض؛ لا يزال يُكّتبُ الكتائب ..
لقد مات قائدنا الأعظم ورايتُه للغزو معقودةٌ بالجُرَّف ـ على بُعد ميل من المدينة!
***
إشارات التوديع :
وكانت إرهاصات الموت، وإشارات التوديع، تتضح في أحوال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ؛ شأنه شأن الصالحين، وهو سيد الأنبياء والصالحين.
فنزلت سورة النصر :" إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)" وكانت فيها نعيه، وإشارة قرآنية لقرب الرحيل، فقد جاء النصر، ودخل الناس في دين الله أفواجًا، فسبحْ واستغفرْ وتهىءْ ـ يا محمد ـ للقاء ربك.
واعتكفَ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في رمضان الوداع ـ من العام العاشر ـ عشرين يومًا، وتدارس القرآن مع جبريل مرتين، وقال لمعاذ بن جبل ـ لما بُعث إلى اليمن ـ : "يَا مُعَاذُ إِنَّكَ عَسَى أَنْ لا تَلْقَانِي بَعْدَ عَامِي هَذَا، أَوْ لَعَلَّكَ أَنْ تَمُرَّ بِمَسْجِدِي هَذَا أَوْ قَبْرِي"، فبكى معاذ جشعًا لفراق النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ[2] .
وكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول في الحج : "لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ فَإِنِّي لَا أَدْرِي لَعَلِّي لَا أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتِي هَذِهِ" [3] .
كان يودع الحياة وتودعه .
كان يعيش للأمة، وتعيش فيه .
لم يزل في حرص شديد على أمته، حريصٌ عليهم ! يخشى أن يموتَ ومسلمٌ يفوتُه منسكًا من النسك !
توديع مقابر الشهداء :
وفي أوائل شهر صفر من العام الحادي عشر للهجرة، خرج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى منطقة جبل أُحد ـ حيث كانت المعركة الشهيرة ـ فصلى على الشهداء ـ صَلَاتَهُ عَلَى الْمَيِّتِ ـ ثم انصرف نحو المسجد، وصعد المنبر، وقال : " إِنِّي فَرَطُكُمْ وَأَنَا شَهِيدٌ عَلَيْكُمْ، إِنِّي وَاللَّهِ لَأَنْظُرُ إِلَى حَوْضِي الْآنَ، وَإِنِّي قَدْ أُعْطِيتُ خَزَائِنَ مَفَاتِيحِ الْأَرْضِ، وَإِنِّي وَاللَّهِ مَا أَخَافُ بَعْدِي أَنْ تُشْرِكُوا وَلَكِنْ أَخَافُ أَنْ تَنَافَسُوا فِيهَا"[4].
وصيةٌ تبض ألمًا، وتفيض خوفًا على الأمة التي تعب فيها، وأعدها، وأخرجها للناس؛ رسالةً وحضارةً وجيلاً ـ إنه لا يخشى عليهم الشرك، ولا يخشى عليهم الفقر . إنما يخشى عليهم أن يتنافسوا على الدنيا، وهو الذي ربّاهم على التنافس على الآخرة .."وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ " المطففين26
لها الله مِن وصية ! إنه الجرح بعينه، والمرض الفتاك الذي أتى على المسلمين، فغاب الإيثار، وحضر الطمع، إلا من رُحم .
توديع مقابر البقيع :
كان ذلك في آخر شهر صفر، وفي هذه الزيارة بدأت شدة المرض .
عَنْ أَبِي مُوَيْهِبَةَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ : بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ، فَقَالَ : "يَا أَبَا مُوَيْهِبَةَ ! إِنِّي قَدْ أُمِرْتُ أَنْ أَسْتَغْفِرَ لِأَهْلِ الْبَقِيعِ فَانْطَلِقْ مَعِي" ..
فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ فَلَمَّا، وَقَفَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ قَالَ : " السَّلامُ عَلَيْكُمْ يَا أَهْلَ الْمَقَابِرِ لِيَهْنِ لَكُمْ مَا أَصْبَحْتُمْ فِيهِ مِمَّا أَصْبَحَ فِيهِ النَّاسُ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا نَجَّاكُمْ اللَّهُ مِنْهُ ! أَقْبَلَتْ الْفِتَنُ كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ يَتْبَعُ أَوَّلُهَا آخِرَهَا الْآخِرَةُ، شَرٌّ مِنْ الْأُولَى".
ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيَّ فَقَالَ : " يَا أَبَا مُوَيْهِبَةَ إِنِّي قَدْ أُوتِيتُ مَفَاتِيحَ خَزَائِنِ الدُّنْيَا وَالْخُلْدَ فِيهَا ثُمَّ الْجَنَّةَ وَخُيِّرْتُ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ لِقَاءِ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ وَالْجَنَّةِ " .
قُلْتُ : بِأَبِي وَأُمِّي فَخُذْ مَفَاتِيحَ الدُّنْيَا وَالْخُلْدَ فِيهَا ثُمَّ الْجَنَّةَ !
قَالَ : " لا وَاللَّهِ يَا أَبَا مُوَيْهِبَةَ، لَقَدْ اخْتَرْتُ لِقَاءَ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ وَالْجَنَّةَ"، ثُمَّ اسْتَغْفَرَ لِأَهْلِ الْبَقِيعِ ثُمَّ انْصَرَفَ فَبُدِئَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي وَجَعِهِ الَّذِي قَضَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ...فَمَا لَبِثَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَّا سَبْعًا أَوْ ثَمَانِيًا حَتَّى قُبِضَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ[5]
أعرض رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن هذه الدار . لم يتنعم كما يتنعم الملوك، ولم يمرح كما يمرح الأقيال، إنما أعلنها درسًا ـ وهو سيد الحُكام ـ : « اللَّهُمَّ أَحْيِنِى مِسْكِينًا، وَتَوَفَّنِى مِسْكِينًا، وَاحْشُرْنِى فِى زُمْرَةِ الْمَسَاكِينِ»[6].
وهكذا شاء الله ـ عز وجل ـ أن يعيش محمدٌ مسكينًا وهو الذي أسر الملوك والطغاة، وشاء الله ـ عز وجل ـ كذلك أن يموت مسكينًا، وهو الذي خُير أن يعيش خالدًا مخلدًا ومتاع الدنيا تحت قدميه .
إنه السُنة التي أرادها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأتباعه، من الحُكام والزعماء والقضاة والدعاة؛ سُنة الهدى والتقى، وعفاف القلب، وغنى النفس .
" اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالْعَفَافَ وَالْغِنَى"[7]، و" لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ وَلَكِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ" [8] .
ومن ثم فإن بهرجة القادة التي نراها، وحاشية بعض (العلماء) التي تشبه حاشية الوزراء والأمراء ـ ليست من طريق محمدٍ صلى الله عليه وسلم ـ في شىء !
إلى بيت عائشة :
قَالَتْ عائشة ـ رضي الله عنها ـ :
لَمَّا ثَقُلَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَاشْتَدَّ بِهِ وَجَعُهُ اسْتَأْذَنَ أَزْوَاجَهُ فِي أَنْ يُمَرَّضَ فِي بَيْتِي، فَأَذِنَّ لَهُ فَخَرَجَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بَيْنَ رَجُلَيْنِ تَخُطُّ رِجْلَاهُ فِي الْأَرْضِ بَيْنَ عَبَّاسٍ وَرَجُلٍ آخَرَ[9] [ هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه ].
مشهد مبكٍ ! أن ترى رسولَ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأبي هو وأمي ـ لا تحتمله قدماه، فلم يعد يقوى على السير، فيحمله الرجلين حملاً، ورجلاه المنهكتين تخطو في الأرض خطًا .
آن لهاتين القدمين أن تستريحا . آن لهما ـ ولله درهما ـ أن يروحا إلى الراحة الأبدية، بعدما أنهكهما غبارُ الوغى، وساحات الموت، وخيام القبائل التي طالما تنقل بينها وهو يسوقُ الناسَ بصوته الحزين إلى الله .
------------------------------
[1]البخاري : 3919
[2]أحمد : 22052، السلسلة الصحيحة، برقم : 2497
[3]مسلم : 2286
[4]البخاري : 3329
[5]أخرجه أحمد ( 15997)، وله شاهد في الصحيح .
[6]أخرجه ابن ماجه (4126) وهو في "السلسلة الصحيحة"، برقم: 308
[7]مسلم : 4898
[8]البخاري : 5965
[9]البخاري : 191