البحث
شراب أهل الجنة
10106
2011/12/12
2024/11/15
شراب أهل الجنة :
قال تعالى: (إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً* عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً) {الإنسان :5-6} .
إِنَّ الكرَامَ البَرَرَةَ الذِينَ أَطَاعُوا اللهَ ، يَشْرَبُونَ مِنْ خَمْرٍ كَانَ مَا يُمْزَجُ بِهَا مَاءَ الكَافُورِ .
وَهَذَا المِزَاجُ مِنْ عَيْنٍ يَشْرَبُ بِهَ عِبَادُ اللهِ المُتَّقُونَ ، وَهُمْ فِي الجَنَّاتِ يَتَصَرَّفُونَ فِيهَا كَيْفَ شَاؤُوا ، وَيُجْرُونَها حَيْثُ أَرَادُوا مِنْ دُورِهِمْ وَمَنَازِلِهِمْ وَمَجَالِسِهِمْ .
وقال مقاتل: ليس هو كافور الدنيا,وإنما سمَّى الله ما عنده بما عندكم حتى تهتدي له القلوب .
وقوله(يفجرونها تفجيرا)أي:يشقونها شقاً كما يفجر الرجل النهر هاهنا وهاهنا إلى حيث يريد,وقال مجاهد:يقودونها حيث شاءوا,وتتبعهم حيثما مالوا مالت معهم [1].
وقال تعالى : (وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً* عَيْناً فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً){الإنسان:17-18}
وَيُسْقَى هُؤَلاَءِ الأَبْرَارُ فِي الجَنَّةِ كَأْساً مِنْ خَمْرِ الجَنَّةِ مُزِجَتْ بِالزَّنْجِبِيلِ ( فَهُمْ يُمْزَجُ الشَّرَابُ لَهُمْ مَرَّةً بِالكَافُورِ وَمَرَّةً بِالزَّنْجَبِيلِ فَالكَافُورُ بَارِدٌ وَالزَّنْجَبِيلُ حَارٌّ ) . وَيُسْقَونَ فِي الجَنَّةِ مِنْ عَيْنٍ غَايَةٍ فِي السَّلاَسَةِ وَالاسْتِسَاغَةِ .أي أن أهل الجنة يُسقَوْن كأساً من خمر الجنة ممزوجة بالزنجبيل وكانت العرب تستلذ من الشراب ما يمزج بالزنجبيل لطيب رائحته .وكلمة (سلسبيل) مأخوذة من السلاسة, والسلسبيل: هو الشراب اللذيذ [2].
ونجد مما سـبق أن الله تعالى أخبـر أن شراب أهل الجنة يمزج بشيئين :الكافور والزنجبيل,فيمزج بالكافور لأنه يمتـاز بالبرد وطيب الرائحة, ثم بالزنجـبيل لأنه يمتاز بالحرارة وطيب الرائحة .وقال تعالى : (وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً ){الإنسان:21} ، وَيَسْقِيِهِمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً يُطَهِّرُ بَاطِنَ شَارِبِهِ مِنَ الحَسَدِ ، وَالحِقْدِ ، وَالغِلِّ ، وَرَدِيءِ الأَخْلاَقِ ،فوصف الشراب بأنه طهور وليس بنجس كخمر الدنيا.طيب الرائحة, مما يحدث بذلك أكمل اللذة وأطيبها[3] .
[*]أورد ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه حادي الأرواح عن ابن عباس في قوله تعالى : (وَكَأْسٍ مّن مّعِينٍ) [الواقعة: 18] يقول الخمر ، (لاَ فِيهَا غَوْلٌ) [الصافات: 47] يقول ليس فيها صداع وفي قوله تعالى (وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ) [الصافات: 47] يقول لا تذهب عقولهم ، وقوله تعالى: (وَكَأْساً دِهَاقاً) [النبأ: 34] يقول ممتلئة ، وقوله تعالى: (يُسْقَوْنَ مِن رّحِيقٍ مّخْتُومٍ) [المطففين: 25]
يقول الخمر ختم بالمسك ، وقال علقمة عن أبن مسعود (خِتَامُهُ مِسْكٌ) [المطففين: 26] قال خلطه وليس بخاتم ثم يختم ، والمراد والله أعلم أن أخره مسك يخالطه فهو من الخاتمة ليس من الخاتم . وقال تعالى: (إِنّ الأبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً * عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللّهِ يُفَجّرُونَهَا تَفْجِيراً) [الإنسان: 6]
[*]قال بعض السلف : معهم قضبان الذهب حيثما مالوا مالت معهم وقد اختلف في قوله يشرب بها فقال الكوفيون الباء بمعنى من أي يشرب منها وقال آخرون بل الفعل مضمن ومعنى يشرب بها أي يروى بها فلما ضمنه معناه عداه تعديته وهذا أصح وألطف وأبلغ وقال طائفة الباء للظرفية والعين اسم للمكان كما تقول كنا بمكان كذا وكذا ونظير هذا التضمين قوله تعالى (وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ) [الحج: 25]ضمن معنى يهم فعدى تعديته.
وقال تعالى: (وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً * عَيْناً فِيهَا تُسَمّىَ سَلْسَبِيلاً) [الإنسان 17: 18] فأخبر سبحانه عن العين التي يشرب بها المقربون أن شراب الأبرار يمزج منها لأن أولئك أخلصوا الأعمال كلها لله فأخلص شرابهم وهؤلاء مزجوا فمزج شرابهم ونظير هذا قوله تعالى: (إِنّ الأبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الأرَآئِكِ يَنظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النّعِيمِ* يُسْقَوْنَ مِن رّحِيقٍ مّخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ* وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ * عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرّبُونَ) [المطففين 22: 28]
فأخبر سبحانه عن مزاج شرابهم بشيئين بالكافور في أول السورة والزنجبيل في آخرها فإن في الكافور من البرد وطيب الرائحة وفي الزنجبيل من الحرارة وطيب الرائحة ما يحدث لهم باجتماع الشرابين ومجيء أحدهما على أثر الآخر حالة أخرى أكمل وأطيب وألذ من كل منهما بانفراده ويعدل كيفية كل منهما بكيفية الآخر وما ألطف موقع ذكر الكافور في أول السورة والزنجبيل في آخرها فإن شرابهم مزج أولا بالكافور وفيه من البرد مايجيء الزنجبيل بعده فيعد له والظاهر أن الكأس الثانية غير الأولى وأنهما نوعان لذيذان من الشراب أحدهما مزج بكافور والثاني مزج بزنجبيل
وأيضا فإنه سبحانه أخبر عن مزج شرابهم بالكافور وبرده في مقابلة ما وصفهم به من حرارة الخوف والإيثار والصبر والوفاء بجميع الواجبات التي نبه على وفائهم بأضعفها وهو ما أوجبوه على أنفسهم بالنذر على الوفاء بأعلاها وهو ما أوجبه الله عليهم ولهذا قال تعالى: (وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ جَنّةً وَحَرِيراً) [الإنسان: 12]
فإن في الصبر من الخشونة وحبس النفس عن شهواتها ما اقتضى أن يكون في جزائهم من سعة الجنة ونعومة الحرير ما يقابل ذلك الحبس والخشونة وجمع لهم بين النضرة والسرور وهذا جمال ظواهرهم وهذا حال بواطنهم كما جملوا في الدنيا ظواهرهم بشرائع الإسلام وبواطنهم بحقائق الإيمان ونظيره قوله في آخر السورة: (عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلّوَاْ أَسَاوِرَ مِن فِضّةٍ) [الإنسان: 21] فهذه زينة الظاهر ثم قال تعالى: (وَسَقَاهُمْ رَبّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً) [الإنسان: 21] فهذه زينة الباطن المطهر لهم من كل أذى ونقص ونظيره قوله تعالى لأبيهم آدم عليه السلام: (إِنّ لَكَ أَلاّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَىَ * وَأَنّكَ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا وَلاَ تَضْحَىَ) [طه 118: 119]
فضمن له أن لا يصيبه ذل الباطن بالجوع ولا ذل الظاهر بالعري وأن لا يناله حر الباطن بالظمأ ولا حر الظاهر بالضحى ونظير هذا ما عدده على عباده من نعمة أنه أنزل عليهم لباسا يواري سوآتهم ويزين ظواهرهم ولباسا آخر يزين بواطنهم وقلوبهم وهو لباس التقوى وأخبر أنه خير اللباسين وقريب من هذا إخباره أنه زين السماء الدنيا بزينة الكواكب وحفظا من كل شيطان مارد فزين ظاهرها بالنجوم وباطنها بالحراسة وقريب منه أمره من أراد الحج بالزاد الظاهر ثم أخبر أن خير الزادِ الزادُ الباطن وهو التقوى وقريب منه قول امرأة العزيز عن يوسف قال تعالى: (فَذَلِكُنّ الّذِي لُمْتُنّنِي فِيهِ) [يوسف: 32]
فأرتهن حسنه وجماله ثم قالت (وَلَقَدْ رَاوَدتّهُ عَن نّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ) [يوسف: 32] فأخبرتهن بجمال باطنه وزينته بالعفة وهذا كثير في القرآن لمتأمله.قال تعالى: (وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً * عَيْناً فِيهَا تُسَمّىَ سَلْسَبِيلاً) [الإنسان 17: 18] وقال تعالى:) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ] (محمد:15[
[*]قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه حادي الأرواح :
ذكر سبحانه هذه الأجناس الأربعة, ونفى عن كل واحد منها الآفة التي تعرض له فى الدنيا, وقال:وهذا من آيات الله تعالى:أن تجرى أنهار من أجناس لم تجر العادة في الدنيا بإجرائها وبجريانها في غير أخدود, وينفى عنها الآفات التي تمنع كمال اللذة بها, قال:وتأمل اجتماع هذه الأنهار الأربعة التي هي أفضل أشربة الناس, فهذا لشربهم وطهورهم, وهذا لقوّتهم وغذائهم, وهذا للذّاتهم وسرورهم, وهذا لشفائهم ومتعتهم.
وفصل الخطا بأن هذه النصوص قد تضمنت أن لهم فيها الخبز واللحم والفاكهة والحلوى وأنواع الأشربة من الماء واللبن والخمر وليس في الدنيا مما في الآخرة إلا الأسماء وأما المسميات فبينها من التفاوت ما لا يعلمه البشر .
[*]قال ابن قتيبة:كل ما في الجنة من الأنهار والسرر والفرش والأكواب مخالف لما في الدنيا من صنعة العباد كما قال ابن عباس:ليس في الجنة شيء مما في الدنيا إلا الأسماء.انتهى.
تنبيه:إن أهل الجنة لا يجوعون ولا يشبعون , يجد اللذة في أكلهم, من أولها إلى آخرهــا, بلا تعب ولا معالجة, يستمتع بكل جسده لا بطرف لسانه مثل الدنيا, ثم لا بوْل ولا غائط, إنما هو متاع آخر, ريح المسك الأذفر, وبالطبع ليس من مسك الدنيا, فما بالك بالأشربة؟!
قال تعالى: (إِنّ الْمُتّقِينَ فِي ظِلاَلٍ وَعُيُونٍ * وَفَوَاكِهَ مِمّا يَشْتَهُونَ * كُلُواْ وَاشْرَبُواْ هَنِيـَئاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) [المرسلات 41: 43]
وقال تعالى: (فَأَمّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَآؤُمُ اقْرَؤُاْ كِتَابيَهْ * إِنّي ظَنَنتُ أَنّي مُلاَقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رّاضِيَةٍ * فِي جَنّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُواْ وَاشْرَبُواْ هَنِيئَاً بِمَآ أَسْلَفْتُمْ فِي الأيّامِ الْخَالِيَةِ) [الحاقة 19: 24]
وقال تعالى: (وَتِلْكَ الْجَنّةُ الّتِيَ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مّنْهَا تَأْكُلُونَ) [الزخرف 72: 73]
وقال تعالى: (مّثَلُ الْجَنّةِ الّتِي وُعِدَ الْمُتّقُونَ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلّهَا تِلْكَ) [الرعد: 35]
وقال تعالى: (وَأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مّمّا يَشْتَهُونَ * يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً لاّ لَغْوٌ فِيهَا وَلاَ تَأْثِيمٌ) [الطور 22: 23]
وقال تعالى: (يُسْقَوْنَ مِن رّحِيقٍ مّخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ) [المطففين 25: 26]
( حديث جابر رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم )أنَّ النَّبِيَّ rقَالَ :"يأَكُلُ أَهْلُ الْجَنّةِ فِيهَا وَيَشْرَبُونَ. وَلاَ يَتَغَوّطُونَ وَلاَ يَمْتَخِطُونَ وَلاَ يَبُولُونَ . وَلَكِنْ طَعَامُهُمْ ذَاكَ جُشَاءٌ كَرَشْحِ الْمِسْكِ. يُلْهَمُونَ التّسْبِيحَ والتكبير كَمَا يُلْهَمُونَ النّفَسَ".
الجشاء :تنفس المعدة من الامتلاء .
[*]قال الإمام النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم :
قوله صلى الله عليه وسلم: " يأَكُلُ أَهْلُ الْجَنّةِ فِيهَا وَيَشْرَبُونَ " مذهب أهل السنة وعامة المسلمين أن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون يتنعمون بذلك وبغيره من ملاذ وأنواع نعيمها تنعما دائما لا آخر له ولا انقطاع أبدا، وإن تنعمهم بذلك على هيئة تنعم أهل الدنيا إلا ما بينهما من التفاضل في اللذة والنفاسة التي لا يشارك نعيم الدنيا إلا في التسمية وأصل الهيئة، وإلا في أنهم لا يبولون ولا يتغوطون ولا يتمخطون ولا يبصقون، وقد دلت دلائل القرآن والسنة في هذه الأحاديث التي ذكرها مسلم وغيره أن نعيم الجنة دائم لا انقطاع له أبدا.
( حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع )أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ :إِنَّ الرَجُلَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ لَيُعْطَى قُوةَ مِائَةِ رَجُلٍ فِي الأَكْلِ وَالشُرْبِ وَالشَّهْوةِ وَالجِمَاعِ ، حَاجَةُ أَحَدِهِمْ عَرَقٌ يَفِيْضُ مِنْ جِلْدِهِ فَإِذَا بَطْنُهُ قَدْ ضُمِرَ .
------------------
[1]- تفسير القرطبي (19/96)
[2]- نفس المصدر(19/107)
[3]- حادي الأرواح لابن القيم (175 )