البحث
رحمته صلى الله عليه وسلم بسهيل بن عمرو
المبحث الرابع: رحمته صلى الله عليه وسلم بسهيل بن عمرو
[1]
برغم انتصارات الرسول إلا أنه حافظ على بساطته وتواضعه
كان سهيل بن عمرو من كبار زعماء قريش بل مكة، وكان من الزعماء الذين لهم تاريخ أسود وطويل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان من كبار السن، وله من الأولاد الكثير، وكان معظم هؤلاء الأولاد في جيش المسلمين الفاتح لمكة، وبعد الفتح، فرَّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ودخل بيته، وكما يقول: "فانقحمت في بيتي، وأغلقت عليّ بابي"!!
ثم يقول: "وأرسلتُ إلى ابني عبد الله بن سهيل[2] - وهو من جنود الجيش الإسلامي الفاتح - أن اطلب لي جوارًا من محمد، فإني لا آمن من أن أُقتل، فليس أحد أسوأ أثرًا مني؛ فإني لقيت الرسول صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية بما لم يلقه أحد، وكنت الذي كاتبته، مع حضوري بدرًا وأُحُدًا ضد المسلمين"[3].
إنه لصاحب تاريخ طويل في الصدِّ عن سبيل الله، وكان صارمًا وعنيدًا جدًا يوم الحديبية، ثم إنه رفض انضمام ابنه أبي جندل إلى صف المسلمين برغم شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم أكثر من مرة، ولكنه الآن يقف موقفًا صعبًا خطيرًا يجعل احتمال القتل واردًا جدًا، وتملَّكه الرعب إلى الدرجة التي جعلته لا يتردّد في أن يطلب من ابنه الصغير أن يَتَوَسَّطَ له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ..!!
وفي هذا - كما هو واضح – ما فيه من جُرحٍ عميقٍ لنفس الزعيم الكبير..
يقول سهيل بن عمرو: ذهب عبد الله بن سهيل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقال له: يا رسول الله، أَمّنْه.
فقال صلى الله عليه وسلم دون تردد: "نَعَمْ، هُوَ آمِنٌ بِأَمَانِ اللَّهِ فَلْيَظْهَرْ"[4]!!
ولنقارن هذا التعامل من الرسول صلى الله عليه وسلم مع كبار زُعماء مكة بما يحدث عند احتلال دولةٍ لدولة أخرى..!!
إننا نرى الأمراء والوزراء والكبراء في البلد المغلوب وقد استُهْدِفُوا بالقتل أو النفي أو السجن لفترات طويلة، ولا يخفى على أحد مدى الإهانة التي يتعرضون لها، لكنّ الرسول صلى الله عليه وسلم لا يَكْتَفِي بإعطاء الأمان لزعماء العدو، بل ويَحُضُّ الجميع على احترامهم، وعلى عدم التعرُّض لهم بكلمة جارحة، ولا حتى بنظرة مؤذية، فيقول صلى الله عليه وسلم لأصحابه في رُقِيٍّ عجيبٍ، وفي أدبٍ رفيعٍ: "مَنْ لَقِيَ سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو فَلَا يَشُدَّ النَّظَرَ إِلَيْهِ"[5]!!
إن الرسول صلى الله عليه وسلم يمنع الصحابة من أن يشدّدوا النظر إلى سهيل بن عمرو شماتةً فيه، أو تشفيًّا منه! بل إنه يفعل ما هو أعظم من ذلك، فيمدح سهيلاً، ويُثني عليه، فيقول صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "..فَلَعَمْرِي إِنَّ سُهَيْلاً لَهُ عَقْلٌ وشَرَفٌ، وَمَا مِثْلُ سُهَيْلٍ جَهِلَ الْإِسْلَامً، لَقَدْ رَأَى مَا كَانَ يُوضَعُ فِيهِ أَنّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ بِنَافِعِ"[6].
والكلمات تعجز عن التعليق!!
وانطلق عبد الله بن سهيل إلى أبيه ليخبره بعفو الرسول صلى الله عليه وسلم عنه، فلما ذكر له هذه الكلمات، قال سهيل: كان والله بارًّا صغيرًا وكبيرًا[7]..!!
وتوجه سهيل بن عمرو إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وأسلم بين يديه، وتغَيَّرت حياته كليَّةً بعد هذا اليوم، وكان - كما يقول الرواة - كثير الصلاة والصوم والصدقة، وخرج مجاهدًا في سبيل الله، بل كان أميرًا على إحدى فرق المسلمين في موقعة اليرموك..
فانظر إلى رحمته وجميل فعله صلى الله عليه وسلم ، وكيف كان يحوِّل حياة الناس إلى ما لا يتخيله أحد، وذلك بحسن المعاملة، وسعة الصدر، ونسيان الضغائن والأحقاد.
---------------
[1] واشنجتون إيرفنج (مؤرخ ومستشرق أمريكي): حياة محمد صـ 302.
[2] هو عبد الله بن سهيل بن عمرو القرشي العامري، هاجر إلى الحبشة الهجرة الثانية ولما عاد إلى مكة أخذه أبوه وأوثقه عنده، فأظهر له أن قد عاد مشركًا، ولما خرجت قريش إلى بدر خرج معهم ثم انحاز إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلمًا، وشهد معه بدرًا والمشاهد كلها. استُشْهِدَ يوم اليمامة سنة 12هـ. الاستيعاب 3/ 57، الإصابة، الترجمة (4734).
[3] انظر ابن الأثير: أسد الغابة 2/ 346.
[4] انظر ابن عبد البر: الاستيعاب 3/ 57، وابن حجر: الإصابة 3/ 219.
[5] انظر المصدرين السابقين.
[6] ابن الأثير: أسد الغابة 2/346، ابن عبد البر: الاستيعاب2/229.
[7] ابن عبد البر: الاستيعاب 3/ 57.