البحث
النداء الثالث و الثمانون :التجارة التي لن تبور
2767
2012/12/09
2024/12/22
النداء الثالث و الثمانون :التجارة التي لن تبور
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) } سورة الصف
يَا أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ بِاللهِ ، وَالمُصَدِّقُونَ بِرُسُلِهِ وَكُتُبِهِ وَآيَاتِهِ ، أَلاَ تُرِيدُونَ أَنْ أَدُلِّكُمْ عَلَى صَفَقَةٍ رَابِحَةٍ ، وَتِجَارَةٍ نَافِعَةٍ ، تَفُوزُونَ فِيهَا بِالرِّبْحِ العَظِيمِ ، وَتْنْقِذُكُمْ مِنْ عَذَابِ اللهِ الأَلِيمِ يَوْمَ القِيَامَةِ؟
وَهِذِهِ الصَّفَقَةُ هِيَ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَتَعْبُدُوهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ ، وَتَصَدِّقُوا بِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ ، وَمَا أَنْزَلَهَ عَلَيْهِ مِنَ القُرْآنِ وَتُجَاهِدُوا فِي سَبِيلِ رَفْعِ كَلِمَةِ اللهِ ، وَعِزَّةِ دِينِهِ ، بِأَنْفُسِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ ، فَإِنْ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ ، كَانَ ذَلِكَ خَيْراً لَكُمْ مِنْ كُلِّ شَيءٍ فِي الدُّنْيَا : مِنَ النَّفْسِ وَالمَالِ وَالزَّوْجِ وَالوَلَدِ ، هَذَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ مَا أَعَدَّهُ اللهَ لِعِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ المُخْلِصِينَ المُجَاهِدِينَ فِي الآخِرَةِ مِنْ جَزِيلِ الثَّوَابِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ .
وَإِنْ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ سَتَرَ اللهُ ذُنُوبِكُمْ وَمَحَاهَا ، وَأَدْخَلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي الأَنْهَارُ فِي جَنَبَاتِهَا ، وَأَسْكَنَكُمْ مَسَاكِنَ طَيِبةً تَقَرُّ بِهَا العُيُونَ ، وَهَذا هُوَ مُنْتَهَى ما تَصْبُوا إِليهِ النُّفُوسُ ، وَهُوَ الفَوْزُ الذِي لاَ فَوْزَ أَعْظَمَ مِنْهُ
وَلَكُمْ يَا أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ المُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ تَعَالَى ، مَعَ الفَوْزِ فِي الآخِرَةِ ، الذِي وَعَدَكُمْ اللهُ بِهِ ، نِعْمَةٌ أُخْرَى تُحِبُّونَها ، وَهِيَ نَصْرٌ مِنَ اللهِ ، وَفَتْحٌ قَرِيبٌ ، تَجْنُونَ مَغَانِمَهُ ، وَبَشِّرْ يَا مُحَمَّدُ المُؤْمِنينَ بِهَذَا الجَزَاءِ .
ومن ذا الذي لا يشتاق لأن يدله الله على هذه التجارة؟ وهنا تنتهي هذه الآية ، وتنفصل الجملتان للتشويق بانتظار الجواب المرموق . ثم يجيء الجواب وقد ترقبته القلوب والأسماع : { تؤمنون بالله ورسوله } . . وهم مؤمنون بالله ورسوله . فتشرق قلوبهم عند سماع شطر الجواب هذا المتحقق فيهم! { وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم } . . وهو الموضوع الرئيسي الذي تعالجه السورة ، يجيء في هذا الأسلوب ، ويكرر هذا التكرار ، ويساق في هذا السياق . فقد علم الله أن النفس البشرية في حاجة إلى هذا التكرار ، وهذا التنويع ، وهذه الموحيات ، لتنهض بهذا التكليف الشاق ، الضروري الذي لا مفر منه لإقامة هذا المنهج وحراسته في الأرض . . ثم يعقب على عرض هذه التجارة التي دلهم عليها بالتحسين والتزيين : { ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون } . . فعلم الحقيقة يقود من يعلم إلى ذلك الخير الأكيد . . ثم يفصل بهذا الخير في آية تالية مستقلة ، لأن التفصيل بعد الإجمال يشوق القلب إليه ، ويقره في الحس ويمكن له : { يغفر لكم ذنوبكم } . . وهذه وحدها تكفي . فمن ذا الذي يضمن أن يغفر له ذنبه ثم يتطلع بعدها إلى شيء؟ أو يدخر في سبيلها شيئاً؟ ولكن فضل الله ليست له حدود : { ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن } . . وإنها لأربح تجارة أن يجاهد المؤمن في حياته القصيرة حتى حين يفقد هذه الحياة كلها ثم يعوض عنها تلك الجنات وهذه المساكن في نعيم مقيم . . وحقاً . . { ذلك الفوز العظيم } . .
وكأنما ينتهي هنا حساب التجارة الرابحة . وإنه لربح ضخم هائل أن يعطي المؤمن الدنيا ويأخذ الآخرة .
فالذي يتجر بالدرهم فيكسب عشرة يغبطه كل من في السوق . فكيف بمن يتجر في أيام قليلة معدودة في هذه الأرض ، ومتاع محدود في هذه الدنيا ، فيكسب به خلوداً لا يعلم له نهاية إلا ما شاء الله ، ومتاعاً غير مقطوع ولا ممنوع؟
لقد تمت المبايعة على هذه الصفقة بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن رواحة رضي الله عنه ليلة العقبة . قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : « اشترط لربك ولنفسك ما شئت » . فقال صلى الله عليه وسلم : « أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً ، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم » . . قال : فما لنا إذا فعلنا ذلك؟ قال : « الجنة » قالوا : ربح البيع ولا نقيل ولا نستقيل «
ولكن فضل الله عظيم . وهو يعلم من تلك النفوس أنها تتعلق بشيء قريب في هذه الأرض ، يناسب تركيبها البشري المحدود . وهو يستجيب لها فيبشرها بما قدره في علمه المكنون من إظهار هذا الدين في الأرض ، وتحقيق منهجه وهيمنته على الحياة في ذلك الجيل : { وأخرى تحبونها : نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين } . .
وهنا تبلغ الصفقة ذروة الربح الذي لا يعطيه إلا الله . الله الذي لا تنفد خزائنه ، والذي لا ممسك لرحمته . فهي المغفرة والجنات والمساكن الطيبة والنعيم المقيم في الآخرة . وفوقها . . فوق البيعة الرابحة والصفقة الكاسبة النصر والفتح القريب . . فمن الذي يدله الله على هذه التجارة ثم يتقاعس عنها أو يحيد؟!
وهنا يعن للنفس خاطر أمام هذا الترغيب والتحبيب . . إن المؤمن الذي يدرك حقيقة التصور الإيماني للكون والحياة؛ ويعيش بقلبه في هذا التصور؛ ويطلع على آفاقه وآماده؛ ثم ينظر للحياة بغير إيمان ، في حدودها الضيقة الصغيرة ، وفي مستوياتها الهابطة الواطية ، وفي اهتماماتها الهزيلة الزهيدة . . هذا القلب لا يطيق أن يعيش لحظة واحدة بغير ذلك الإيمان ، ولا يتردد لحظة واحدة في الجهاد لتحقيق ذلك التصور الضخم الوسيع الرفيع في عالم الواقع ، ليعيش فيه ، وليرى الناس من حوله يعيشون فيه كذلك . . ولعله لا يطلب على جهاده هذا أجراً خارجاً عن ذاته . فهو ذاته أجر . . هذا الجهاد . . وما يسكبه في القلب من رضى وارتياح . ثم إنه لا يطيق أن يعيش في عالم بلا إيمان . ولا يطيق أن يقعد بلا جهاد لتحقيق عالم يسوده الإيمان . فهو مدفوع دفعاً إلى الجهاد . كائناً مصيره فيه ما يكون . .
ولكن الله سبحانه يعلم أن النفس تضعف ، وأن الاندفاع يهبط ، وأن الجهد يكل وأن حب السلامة قد يهبط بتلك المشاعر كلها ويقودها إلى الرضى بالواقع الهابط . .
ومن ثم يجاهد القرآن هذه النفس ذلك الجهاد؛ ويعالجها ذلك العلاج ، ويهتف لها بالموحيات والمؤثرات ذلك الهتاف المتكرر المتنوع ، في شتى المناسبات .