البحث
السرايا والبعوث بين أحد والأحزاب
كان لمأساة أحد أثر سيئ على سمعة المؤمنين ، فقد ذهبت ريحهم ، وزالت هيبتهم عن النفوس ، وزادت المتاعب الداخلية والخارجية على المؤمنين وأحاطت الأخطار بالمدينة من كل جانب ، وكاشف اليهود والمنافقون والأعراب بالعداء السافر ، وهمت كل طائفة منهم أن تنال من المؤمنين ، بل طمعت في أن تقضي عليهم وتستأصل شأفتهم .
فلم يمض على هذه المعركة شهران حتى تهيأت بنو أسد للإغارة على المدينة . ثم قامت قبائل عَضَل وقَارَة في شهر صفر سنة 4هـ بمكيدة تسببت في قتل عشرة من الصحابة ، وفي نفس الشهر نفسه قام عامر بن الطُّفَيل العامري بتحريض بعض القبائل حتى قتلوا سبعين من الصحابة ، وتعرف هذه الوقعة بوقعة بئر مَعُونَة ، ولم تزل بنو نضير خلال هذه المدة تجاهر بالعداوة حتى قامت في ربيع الأول سنة 4 هـ بمكيدة تهدف إلى قتل النبي(صلى الله عليه وسلم)، وتجرأت بنو غَطَفَان حتى همت بالغزو على المدينة في جمادي الأولي سنة 4 هـ .
فريح المسلمين التي كانت قد ذهبت في معركة أحد تركت المسلمين ـ إلى حين ـ يهددون بالأخطار ، ولكن تلك هي حكمة محمد
(صلى الله عليه وسلم) التي صرفت وجوه التيارات ، وأعادت للمسلمين هيبتهم المفقودة ، وأكسبتهم العلو والمجد من جديد . وأول ما أقدم عليه بهذا الصدد هي حركة المطاردة التي قام بها إلى حمراء الأسد ، فقد حفظ بها قدراً من سمعة جيشه ، واستعاد بها من مكانته شيئاً مذكوراً ، ثم قام بمناورات أعادت للمسلمين هيبتهم ، بل زادت فيها ، وفي الصفحات الآتية شيء مما جرى بين الطرفين
| |
أول من قام ضد المسلمين بعد نكسة أحد هم بنو أسد بن خزيمة ، فقد نقلت استخبارات المدينة أن طلحة وسلمة ابني خويلد قد سارا في قومهما ومن أطاعهما يدعون بني أسد بن خزيمة إلى حرب رسول الله(صلى الله عليه وسلم) . فسارع رسول الله(صلى الله عليه وسلم) إلى بعث سرية قوامها مائة وخمسون مقاتلاً من المهاجرين والأنصار ، وأمر عليهم أبا سلمة ، وعقد له لواء . وباغت أبو سلمة بني أسد بن خزيمة في ديارهم قبل أن يقوموا بغارتهم ، فتشتتوا في الأمر ، وأصاب المسلمون إبلا وشاء لهم فاستاقوها ، وعادوا إلى المدينة سالمين غانمين لم يلقوا حرباً . كان مبعث هذه السرية حين استهل هلال المحرم سنة 4 هـ . وعاد أبو سلمة وقد نفر عليه جرح كان قد أصابه في أحد، فلم يلبث حتى مات . |
| |
وفي اليوم الخامس من نفس الشهر ـ المحرم سنة 4 هـ ـ نقلت الاستخبارات أن خالد بن سفيان الهذلي يحشد الجموع لحرب المسلمين ، فأرسل إليه النبي(صلى الله عليه وسلم) عبد الله ابن أنيس ليقضي عليه . وظل عبد الله بن أنيس غائباً عن المدينة ثماني عشرة ليلة ، ثم قدم يوم السبت لسبع بقين من المحرم ، وقد قتل خالداً وجاء برأسه ، فوضعه بين يدي النبي(صلى الله عليه وسلم) فأعطاه عصا وقال : " هذه آية بيني وبينك يوم القيامة "، فلما حضرته الوفاة أوصي أن تجعل معه في أكفانه . |
بعث الرجيع |
وفي شهر صفر من نفس السنة ـ أي الرابعة من الهجرة ـ قدم على رسول الله(صلى الله عليه وسلم) قوم من عَضَل وقَارَة ، وذكروا أن فيهم إسلاماً ، وسألوا أن يبعث معهم من يعلمهم الدين ، ويقرئهم القرآن ، فبعث معهم ستة نفر ـ في قول ابن إسحاق ، وفي رواية البخاري أنهم كانوا عشرة ـ وأمر عليهم مَرْثَد بن أبي مَرْثَد الغَنَوِي ـ في قول ابن إسحاق ، وعند البخاري أنه عاصم بن ثابت جد عاصم بن عمر بن الخطاب ـ فذهبوا معهم ، فلما كانوا بالرجيع ـ وهو ماء لهُذَيلِ بناحية الحجاز بين رَابِغ وجُدَّة ـ استصرخوا عليهم حياً من هذيل يقال لهم : بنو لَحْيَان ، فتبعوهم بقريب من مائة رام ، واقتصوا آثارهم حتى لحقوهم ، فأحاطوا بهم ـ وكانوا قد لجأوا إلى فَدْفَد ـ وقالوا : لكم العهد والميثاق إن نزلتم إلينا ألا نقتل منكم رجلاً . فأما عاصم فأبي من النزول وقاتلهم في أصحابه ، فقتل منهم سبعة بالنبل ، وبقي خُبَيب وزيد بن الدَّثِنَّةِ ورجل آخر ، فأعطوهم العهد والميثاق مرة أخرى ، فنزلوا إليهم ولكنهم غدروا بهم وربطوهم بأوتار قِسِيهم ، فقال الرجل الثالث : هذا أول الغدر ، وأبى أن يصحبهم ، فجرروه وعالجوه على أن يصحبهم فلم يفعل فقتلوه ، وانطلقوا بخبيب وزيد فباعوهما بمكة ، وكانا قتلا من رؤوسهم يوم بدر ، فأما خبيب فمكث عندهم مسجوناً ، ثم أجمعوا على قتله ، فخرجوا به من الحرم إلى التنعيم ، فلما أجمعوا على صلبه قال : دعوني حتى أركع ركعتين ، فتركوه فصلاهما ، فلما سلم قال : والله لولا أن تقولوا : إن ما بي جزع لزدت ، ثم قال : اللّهم أحْصِهِمْ عَدَدًا ، واقتلهم بَدَدًا ، ولا تُبْقِ منهم أحداً ، ثم قال :
لقـد أجمع الأحزاب حـولي وألبوا |
|
قبـائـلهـم واستجمعوا كل مجمع |
فقال له أبو سفيان : أيسرك أن محمدا عندنا نضرب عنقه ، وأنك في أهلك ؟ فقال : لا والله ، ما يسرني أني في أهلي وأن محمداً في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه . ثم صلبوه ووكلوا به من يحرس جثته ، فجاء عمرو بن أمية الضمري ، فاحتمله بخدعة ليلاً ، فذهب به فدفنه ، وكان الذي تولى قتل خبيب هو عقبة بن الحارث ، وكان خبيب قد قتل أباه حارثاً يوم بدر .
وفي الصحيح أن خبيباً أول من سن الركعتين عند القتل، وأنه رئي وهو أسير يأكل قِطْفًا من العنب، وما بمكة ثمرة .
وأما زيد بن الدَّثِنَّة فابتاعه صفوان بن أمية فقتله بأبيه .
وبعثت قريش إلى عاصم ليؤتوا بشيء من جسده يعرفونه ـ وكان عاصم قتل عظيماً من عظمائهم يوم بدر ـ فبعث الله عليه مثل الظُّلَّة من الدَّبْر ـ الزنابير ـ فحمته من رسلهم، فلم يقدروا منه على شيء. وكان عاصم أعطي الله عهداً ألا يمسه مشرك ولا يمس مشركاً. وكان عمر لما بلغه خبره يقول: يحفظ الله العبد المؤمن بعد وفاته كما يحفظه في حياته .
مأساة بئر معونة |
وفي نفس الشهر الذي وقعت فيه مأساة الرَّجِيع وقعت مأساة أخرى أشد وأفظع من الأولى ، وهي التي تعرف بوقعة بئر معونة.
وملخصها : أن أبا براء عامر بن مالك المدعو بمُلاَعِب الأسِنَّة قدم على رسول الله(صلى الله عليه وسلم) المدينة ، فدعاه إلى الإسلام فلم يسلم ولم يبعد ، فقال : يا رسول الله ، لو بعثت أصحابك إلى أهل نَجْد يدعونهم إلى دينك لرجوت أن يجيبوهم ، فقال : ( إني أخاف عليهم أهل نجد ) ، فقال أبو بََرَاء : أنا جَارٌ لهم ، فبعث معه أربعين رجلاً ـ في قول ابن إسحاق ، وفي الصحيح أنهم كانوا سبعين ، والذي في الصحيح هو الصحيح ـ وأمر عليهم المنذر بن عمرو أحد بني ساعدة الملقب بالمُعْنِقَ لِيمُوت ، وكانوا من خيار المسلمين وفضلائهم وساداتهم وقرائهم ، فساروا يحتطبون بالنهار ، يشترون به الطعام لأهل الصفة ، ويتدارسون القرآن ويصلون بالليل ، حتى نزلوا بئر معونة ـ وهي أرض بين بني عامر وحَرَّة بني سُلَيْم ـ فنزلوا هناك ، ثم بعثوا حرام بن مِلْحَان أخا أم سليم بكتاب رسول الله(صلى الله عليه وسلم) إلى عدو الله عامر بن الطُّفَيْل ، فلم ينظر فيه ، وأمر رجلاً فطعنه بالحربة من خلفه ، فلما أنفذها فيه ورأى الدم ، قال حرام : الله أكبر ، فُزْتُ ورب الكعبة .
ثم استنفر عدو الله لفوره بني عامر إلى قتال الباقين ، فلم يجيبوه لأجل جوار أبي براء ، فاستنفر بني سليم ، فأجابته عُصَيَّة ورِعْل وذَكَوان ، فجاءوا حتى أحاطوا بأصحاب رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، فقاتلوا حتى قتلوا عن آخرهم إلا كعب بن زيد بن النجار ، فإنه ارْتُثَّ من بين القتلى ، فعاش حتى قتل يوم الخندق .
وكان عمرو بن أمية الضمري والمنذر بن عقبة بن عامر في سرح المسلمين فرأيا الطير تحوم على موضع الوقعة ، فنزل المنذر ، فقاتل المشركين حتى قتل مع أصحابه ، وأسر عمرو بن أمية الضمري ، فلما أخبر أنه من مُضَر جَزَّ عامر ناصيته ، وأعتقه عن رقبة كانت على أمه .
ورجع عمرو بن أمية الضمري إلى النبي(صلى الله عليه وسلم) حاملاً معه أنباء المصاب الفادح ، مصرع سبعين من أفاضل المسلمين ، تذكر نكبتهم الكبيرة بنكبة أحد ، إلا أن هؤلاء ذهبوا في قتال واضح ، وأولئك ذهبوا في غدرة شائنة .
ولما كان عمرو بن أمية في الطريق بالقَرْقَرَة من صدر قناة ، نزل في ظل شجرة ، وجاء رجلان من بني كلاب فنزلا معه ، فلما ناما فتك بهما عمرو ، وهو يرى أنه قد أصاب ثأر أصحابه ، وإذا معهما عهد من رسول الله(صلى الله عليه وسلم) لم يشعر به ، فلما قدم أخبر رسول الله(صلى الله عليه وسلم) بما فعل ، فقال : ( لقد قتلت قتيلين لأدِيَنَّهما ) ، وانشغل بجمع ديتهما من المسلمين ومن حلفائهم اليهود ، وهذا الذي صار سبباً لغزوة بني النضير ، كما سيذكر .
وقد تألم النبي(صلى الله عليه وسلم) لأجل هذه المأساة ، ولأجل مأساة الرجيع اللتين وقعتا خلال أيام معدودة ، تألما شديداً ، وتغلب عليه الحزن والقلق ، حتى دعا على هؤلاء الأقوام والقبائل التي قامت بالغدر والفتك في أصحابه . ففي الصحيح عن أنس قال : دعا النبي(صلى الله عليه وسلم) على الذين قتلوا أصحابه ببئر معونة ثلاثين صباحاً ، يدعو في صلاة الفجر على رِعْل وذَكْوَان ولَحْيَان وعُصَية ، ويقول : ( عُصَية عَصَتْ الله ورسوله ) ، فأنزل الله تعالى على نبيه قرآناً قرأناه حتى نسخ بعد : ( بلغوا عنا قومنا أنا لقينا ربنا فرضي عنا ورضينا عنه ) فترك رسول الله(صلى الله عليه وسلم) قُنُوتَه .
غزوة بني النضير |
قد أسلفنا أن اليهود كانوا يتحرقون على الإسلام والمسلمين إلا أنهم لم يكونوا أصحاب حرب وضرب ، بل كانوا أصحاب دس ومؤامرة ، فكانوا يجاهرون بالحقد والعداوة ، ويختارون أنواعاً من الحيل ، لإيقاع الإيذاء بالمسلمين دون أن يقوموا للقتال مع ما كان بينهم وبين المسلمين من عهود ومواثيق ، وأنهم بعد وقعة بني قينقاع وقتل كعب بن الأشرف خافوا على أنفسهم فاستكانوا والتزموا الهدوء والسكوت .
ولكنهم بعد وقعة أحد تجرأوا ، فكاشفوا بالعداوة والغدر ، وأخذوا يتصلون بالمنافقين وبالمشركين من أهل مكة سراً ، ويعملون لصالحهم ضد المسلمين .
وصبر النبي(صلى الله عليه وسلم) حتى ازدادوا جرأة وجسارة بعد وقعة الرَّجِيع وبئر مَعُونة ، حتى قاموا بمؤامرة تهدف القضاء على النبي(صلى الله عليه وسلم) .
وبيان ذلك : أنه(صلى الله عليه وسلم) خرج إليهم في نفر من أصحابه ، وكلمهم أن يعينوه في دية الكلابيين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضَّمْرِي ـ وكان ذلك يجب عليهم حسب بنود المعاهدة ـ فقالوا : نفعل يا أبا القاسم ، اجلس ها هنا حتى نقضي حاجتك . فجلس إلى جنب جدار من بيوتهم ينتظر وفاءهم بما وعدوا ، وجلس معه أبو بكر وعمر وعلي وطائفة من أصحابه .
وخلا اليهود بعضهم إلى بعض، وسوّل لهم الشيطان الشقاء الذي كتب عليهم ، فتآمروا بقتله(صلى الله عليه وسلم) ، وقالوا : أيكم يأخذ هذه الرحى ، ويصعد فيلقيها على رأسه يشدخه بها ؟... فقال أشقاهم عمرو بن جحاش : أنا . فقال لهم سَلاَّم بن مِشْكَم : لا تفعلوا ، فوالله ليخبرن بما هممتم به ، وإنه لنقض للعهد الذي بيننا وبينه . ولكنهم عزموا على تنفيذ خطتهم .
ونزل جبريل من عند رب العالمين على رسوله(صلى الله عليه وسلم) يعلمه بما هموا به ، فنهض مسرعاً وتوجه إلى المدينة ، ولحقه أصحابه فقالوا : نهضت ولم نشعر بك ، فأخبرهم بما هَمَّتْ به يهود .
وما لبث رسول الله(صلى الله عليه وسلم) أن بعث محمد بن مسلمة إلى بني النضير يقول لهم : ( اخرجوا من المدينة ولا تساكنوني بها ، وقد أجلتكم عشراً ، فمن وجدت بعد ذلك بها ضربت عنقه ) . ولم يجد يهود مناصاً من الخروج ، فأقاموا أياماً يتجهزون للرحيل ، بيد أن رئيس المنافقين ـ عبد الله بن أبي ـ بعث إليهم أن اثبتوا وتَمَنَّعُوا ، ولا تخرجوا من دياركم ، فإن معي ألفين يدخلون معكم حصنكم ، فيموتون دونكم " لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ " [الحشر:11] وتنصركم قريظة وحلفاؤكم من غطفان .
وهناك عادت لليهود ثقتهم ، واستقر رأيهم على المناوأة ، وطمع رئيسهم حيي بن أخطب فيما قاله رأس المنافقين ، فبعث إلى رسول الله(صلى الله عليه وسلم) يقول : إنا لا نخرج من ديارنا ، فاصنع ما بدا لك .
ولا شك أن الموقف كان حرجاً بالنسبة للمسلمين ، فإن اشتباكهم بخصومهم في هذه الفترة المحرجة من تاريخهم لم يكن مأمون العواقب ، وقد رأوا كَلَب العرب عليهم وفتكهم الشنيع ببعوثهم ، ثم إن يهود بني النضير كانوا على درجة من القوة تجعل استسلامهم بعيد الاحتمال ، وتجعل فرض القتال معهم محفوفاً بالمكاره ، إلا أن الحال التي جدت بعد مأساة بئر معونة وما قبلها زادت حساسية المسلمين بجرائم الاغتيال والغدر التي أخذوا يتعرضون لها جماعات وأفراداً ، وضاعفت نقمتهم على مقترفيها ، ومن ثم قرروا أن يقاتلوا بني النضير ـ بعد همهم باغتيال الرسول(صلى الله عليه وسلم) ـ مهما تكن النتائج .
فلما بلغ رسول الله(صلى الله عليه وسلم) جواب حيي بن أخطب كبر وكبر أصحابه ، ثم نهض لمناجزة القوم ، فاستعمل على المدينة ابن أم مكتوم ، وسار إليهم ، وعلي بن أبي طالب يحمل اللواء ، فلما انتهى إليهم فرض عليهم الحصار .
والتجأ بنو النضير إلى حصونهم ، فأقاموا عليها يرمون بالنبل والحجارة، وكانت نخيلهم وبساتينهم عوناً لهم في ذلك ، فأمر بقطعها وتحريقها ، وفي ذلك يقول حسان :
وهان على سَرَاةِ بني لُؤي |
|
المقال السابق
المقال التالى
مقالات في نفس القسم |