البحث
سُنَّة إسقاط جزء من الدَّيْن
من أعظم الهموم التي تُشغل الإنسان همُّ الدَّيْن، وهو ليس همًّا دنيويًّا فقط إنما أخروي كذلك؛ وقد روى مسلم عَنْ أَبِي قَتَادَةَ رضي الله عنه، أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَامَ فِيهِمْ فَذَكَرَ لَهُمْ أَنَّ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالإِيمَانَ بِاللهِ أَفْضَلُ الأَعْمَالِ، فَقَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ قُتِلْتُ فِي سَبِيلِ اللهِ، تُكَفَّرُ عَنِّي خَطَايَايَ؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "نَعَمْ، إِنْ قُتِلْتَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَأَنْتَ صَابِرٌ مُحْتَسِبٌ، مُقْبِلٌ غَيْرُ مُدْبِرٍ". ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "كَيْفَ قُلْتَ؟" قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قُتِلْتُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَتُكَفَّرُ عَنِّي خَطَايَايَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "نَعَمْ، وَأَنْتَ صَابِرٌ مُحْتَسِبٌ، مُقْبِلٌ غَيْرُ مُدْبِرٍ، إِلاَّ الدَّيْنَ؛ فَإِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ قَالَ لِي ذَلِكَ".
فهذه الدرجة السامقة من الشهادة لا تكفي للتكفير عن دَيْنٍ غير مُسَدَّدٍ؛ لذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبُّ لكل مَدِين أن يقضي دَيْنه قبل موته، ولمـَّا كان هذا صعبًا في بعض الأحيان لفقر المدين جاءت هذه السُّنَّة الرحيمة لترفع هذا الحرج؛ وهي سُنَّة إسقاط جزء من الدَّيْن لتمكين المدين من السداد، وهذا ولا شك برضا الدائن؛ فقد روى البخاري عَنْ كَعْبٍ رضي الله عنه، أَنَّهُ تَقَاضَى ابْنَ أَبِي حَدْرَدٍ رضي الله عنه دَيْنًا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ فِي المَسْجِدِ، فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا حَتَّى سَمِعَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِي بَيْتِهِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمَا حَتَّى كَشَفَ سِجْفَ حُجْرَتِهِ، فَنَادَى: "يَا كَعْبُ". قَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: "ضَعْ مِنْ دَيْنِكَ هَذَا". وَأَوْمَأَ إِلَيْهِ: أَيِ الشَّطْرَ، قَالَ: لَقَدْ فَعَلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: "قُمْ فَاقْضِهِ".
وبعض الناس قد يُصِيبُه الضيقُ لهذا الحلِّ؛ لأنه أضاع شيئًا من حقِّ الدائن، ولكن الواقع أن المدين في هذه الحالة كان عاجزًا عن السداد تمامًا؛ ومن ثَمَّ كانت الفائدة لن تتحقَّق لكلاَّ الطرفين؛ الدائن والمدين، وأيُّ عقوبة يُوقعها الحاكم على المدين لن يستفيد الدائن منها؛ لهذا جاءت هذه السُّنَّة العملية لتُحَقِّق شيئًا من الرضا للطرفين، وهو ما يفعله كثير من البنوك اليوم مع المتعسِّرين في السداد، وقد سبق رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الجميع بتقنين هذه السُّنَّة الجميلة؛ بل كان يغضب عندما يرى متعنِّتًا لا يُريد أن يتسامح في جزء من دَيْنه؛ فقد روى البخاري عن عَائِشَةَ رضي الله عنها، تَقُولُ: سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَوْتَ خُصُومٍ بِالْبَابِ عَالِيَةٍ أَصْوَاتُهُمَا، وَإِذَا أَحَدُهُمَا يَسْتَوْضِعُ الآخَرَ، وَيَسْتَرْفِقُهُ فِي شَيْءٍ، وَهُوَ يَقُولُ: وَاللَّهِ لاَ أَفْعَلُ. فَخَرَجَ عَلَيْهِمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "أَيْنَ المُتَأَلِّي عَلَى اللَّهِ لاَ يَفْعَلُ المَعْرُوفَ؟"، فَقَالَ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَهُ أَيُّ ذَلِكَ أَحَبَّ.
أي قَبِل الصحابي رضي الله عنه شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم وقرَّر أن يضع شيئًا من الدَّيْن كما يحبُّ المدين، فلْنجعل هذه السُّنَّة الرحيمة منهجًا لنا في تعاملاتنا مع المتعسِّرين، ولْيحرص كلُّ مدين على السداد قبل موته قدر ما يستطيع.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].