البحث
القواعد العلمية والعملية لسلامة الصدر
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم اهدني وسددني
القواعد العلمية والعملية لسلامة الصدر
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فالعفو وسلامة الصدر على المسلمين شِعار الصالحين الأنقِيَاء ذوِي الحِلم والأناة والنّفس الرضيّة؛ لأنَّ التنازلَ عن الحقِّ نوعُ إيثارٍ للآجلِ على العاجل، وبسطٍ لخُلُقٍ نقيٍّ تقيٍّ ينفُذ بقوّةٍ إلى شِغاف قلوب الآخرين، فلا يملِكون أمامه إلا إبداءَ نظرةِ إجلالٍ وإكبار لمن هذه صفتُه، وهذا ديدَنُه.
إنَّ العفو عن الآخرين، وسلامة الصدر عليهم ليس بالأمرِ الهيِّن؛ إذ له في النّفسِ ثِقلٌ لا يتِمّ التغلُّب عليه إلاّ بمصارعةِ حبِّ الانتصار والانتقامِ للنفس، ولا يكون ذلك إلا للأقوياءِ الذين استعصَوا على حظوظ النّفس ورغباتها وإن كانت حقًّا لهم يجوزُ لهم إمضاؤُه لقوله تعالى: {وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ} [الشورى:41]، غيرَ أنَّ التنازل عن الحقّ وملكةَ النفس عن إنفاذِه لهو دليلٌ على تجاوزِ المألوفِ وخَرق العادات.
وقد يقول قائلٌ كيف السبيلُ إلى العفو وسلامة الصدر والطوية على المسلمين؟ وكيف أهنأ بالعيش بين المسلمين وليس في قلبي لهم ضغينة، ولا يحملُ فؤادي غلاً على أحد منهم؟
فالجواب يكمن في تحقيق قواعد علمية وعملية ليتحقق للمسلم سلامة الصدر والعفو على المسلمين، وهي كالتالي:
أولها: أن تعلم علم اليقين أن هذا كله من الشيطان الرجيم، ونزغةٌ من نزغات ذلك الماردِ الأثيم، فإذا شعرت بذلك فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأعراف:200].
وعن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ» (أخرجه مسلم: [2812]) .
قال الإمام النووي رحمه الله تعالى شارحاً لهذا الحديث: "هذا الحديث من معجزات النبوة ومعنا: أنه أيس أن يعبده أهل جزيرة العرب ولكنه سعى في التحريش بينهم بالخصومات والشحناء والحروب والفتن" (شرح النووي على مسلم: [17/156])>
ثانياً: الإخلاص لله تعالى، فتتركها لله، تبتغي بذلك وجه الله عز وجل، فعن زيد بن ثابت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ثَلاَثٌ لاَ يُغَلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُسْلِمٍ -أي لا يحمل في قلبه حسداً ولا غلاً- إِخْلاَصُ الْعَمَلِ لِله، وَمُنَاصَحَةُ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَلُزُومِ جَمَاعَتِهِمْ فَإِنَّ الدَّعْوَةَ تُحِيطُ مِنْ وَرَائِهِمْ» (أخرجه أحمد: [3/225]، والترمذي: [2658]، وابن ماجه: [230]، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة: [404]).
ثالثاً: تذكر فضيلة العفو والصفح، قال الرحيم الرحمن: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى من الآية:40]، فإذا كان أجرك أيها العافي عن المسلمين على الله تعالى فماذا تريد بعد ذلك!
رابعاً: إن أردت أن يسلم صدرك على من بينَك وبينه شحناء، أو عداوةٌ أو بغضاء فأكثر من الدعاء له، واذكر محاسنه بين النَّاس، فإن هذا من أعظم أسبابِ ذهاب الغل والحقد، وسلامة الصدر على المسلمين، بهذا تكون قد رددت كيد شيطانك، وألجمت نْفسك.
خامساً: ترك الغيبة والنميمة والنيل من أعراض خُصُومِك:
إذا شئت أن تحيا سليمًا من الأذى وحظُكَ موفورٌ وعرضُكَ صينٌ
لسانكَ لا تَذْكُر به عَوْرَة امرئٍ فكُلُكَ عَوْرَاتٍ وللناسِ ألسنُ
وَعيْنَكَ إِن أبدت إليك مساوءً فصنها وقل يا عين للناس أعين
وعاشر بمعروف وسامح من اعتدى وفارق ولكن بالتي هي أحسن
سادساً: ترك المراء والجدال، فعَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا، وَبِبَيْتٍ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ مَازِحًا، وَبِبَيْتٍ فِي أَعْلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ حَسَّنَ خُلُقَهُ» (أخرجه أبو داود: «4800»، وحسنه الألباني في حجة النبي صلى الله عليه وسلم، ص:24).
سابعاً: عدم إساءة الظن، قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات من الآية:12]؛ وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «إياكم والظنَّ، فإنَّ الظنَّ أكذبُ الحديث» (أخرجه البخاري: [5925]، ومسلم: [6488]).
ثامناً: إفشاء السلام، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: «لاَ تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلاَ تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا. أَوَلاَ أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلاَمَ بَينَكُمْ» (أخرجه مسلم: [157]).
وعَنْ أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لاَ يَحِلُّ لِرَجُلٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثِ لَيَالٍ، يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلاَمِ» (أخرجه البخاري: [5727]، ومسلم: [2560]).
وقال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه:"ثَلاثٌ يُصَفِّينَ لَكَ وُدَّ أَخِيكَ: تُسَلِّمُ عَلَيْهِ إِذَا لَقِيتَهُ، وَتُوَسِّعُ لَهُ فِي الْمَجْلِسِ، وَتَدْعُوهُ بِأَحَبِّ أَسْمَائِهِ إِلَيْهِ" (أخرجه ابن المبارك في الزهد: [352]، وابن أبي الدنيا في مكارم الأخلاق: [316]، و ابن عساكر في تاريخ دمشق: [44/359]).
قال ابن العربي رحمه الله تعالى: "من فوائد إفشاء السلام حصول الألفة فتتألف الكلمة وتعم المصلحة وتقع المعاونة على إقامة شرائع الدين وإخزاء الكافرين". (فيض القدير: [2/23]).
تاسعاً: الهدية، فعن أبي هريرة رضيالله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «تَهَادَوْا تَحَابُّوا» (أخرجه البخاري في الأدب المفرد: [594]، والطبراني في الأوسط: [7240]، والبيهقي في الشعب: [6/479]، وحسنه الألباني في الإرواء: [1601]).
عاشراً: الرضا بقضاء الله وقدره، فمن الناس من يعترض على ما قضاه الله وقدره من خير لأخيه المسلم فيَحْسُدُه، ويَدْخُلُ الحقدُ والدغلُ إلى قلبه، قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "إنَّ الرضى يفتح له بابَ السلامة فيجعل قلبه سليماً نقياً من الغش والدغل والغل، ولا ينجو من عذاب الله إلا من أتى الله بقلب سليم" (مدارج السالكين: [2/207]).
الحادي عشر: كثرة الدعاء بأن يُذهبَ اللهُ وحرَ صَدْرِكَ، وسَخِيْمَةَ قَلْبِكَ، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَدْعُو: «وَاسْلُلْ سَخِيمَةَ قَلْبِي» وفي رواية الترمذي: «صَدْرِيْ» ؛ والسخيمة: هي الغل، والحقد، والحسد، ونحوها مما يسكن القلب من مساوئ الأخلاق، ورديء الفعال.
وعن شدادِ بنِ أوسٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ فِي صَلاتِهِ «:اللهمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الثَّباتَ فِي الأَمْرِ، وعَزِيمَةَ الرُّشْدِ، وشُكْرَ نِعْمَتِكَ، وحُسْنَ عِبَادَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ قَلْباً سَلِيماً» (أخرجه أحمد: [4/125]، والنسائي: [1302]، وصححه ابن حبان: [1688])؛ فعلى المسلم أن يلتزم هذا الدعاء لنفسه، وأن يدعو به لإخوانه المسلمين.
أسأل الله أن يرزقنا سلامة الصدر على المسلمين، والعفو عن عباد الله أجمعين.
والحمد لله رب العالمين