البحث
معادلة تحتاج إلى صبر.. وأيّ صبر!
ستحمل خيرًا محضًا، وتقدمه للناس بطيبة، فيرمونك ويتهمونك ويحاصرونك..
ستحاول أن تنقذهم من النار -وأنت تحاول أن تنقذ نفسك منها- فيقتلونك إصرارًا على الدخول فيها..
تريد أن تخرجهم من حياتهم الذليلة وتبعيتهم لعدوهم وتذيلهم ذيل الأمم وسذاجتهم المفرطة وسفاهتهم المطبقة، فينطحون كما الثوْر لا فرق!
تريد عزّتهم فيكذبونك، وتريد أن ترقى بهم فيهبطون في الخصومة، تريد أن تبني مستقبلًا لهم ولأولادهم فيقتلون ولدك..!
حمل إبراهيم الخير لهم فأوقدوا له نيرانًا، وكانت الأم تنذر إن شفى الله ولدها أن تحمل حزمة حطب لتشعل النار على هذا الصابئ! تقربًا إلى الله بحرق خليله! نفس الإعلام الوقح!
حمل الخير لهم يحيى عليه السلام، من شهد الله له أنه كان تقيًا، ولم يهمّ بمعصية أبدًا فذبحوه، ونشروا أباه بالمنشار.. وكم من نبي قُتل! وما أراد إلا الخير لقومه.
لا تتفاجأ.. أجرك ليس هنا، وليس على هؤلاء.. لا تتراجع عن حمل الخير والهدى ولا يتلوث قلبك بحقد نحوهم.. إنك حينما انطلقت بهذا الدين لم تُرد وجوههم لتغضب أن تجهمت في وجهك بل أردت وجه ربك وربهم..
وربك وربهم يعلم عنادهم ونفرتهم، وجهلهم بالحق وبما يصلحهم.
وربك وربهم يعلم تلك المعادلة {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ} [نوح من الآية:7]، نعم أعِدْها {دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ}! {جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا} [نوح من الآية:7]!
وربك يعلم هذه المعادلة {وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ} [غافر:41].
وربك يوصيك أن تكون كهذا الداعية الطيب {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ . أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً} [يس من الآيتين:22-23] الآيات، مستبشعًا الإشراك بالله تعالى، ثم أعلن {إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ}[يس:25] فقتلوه، فلما استشهد دعا قومه مرة ثانية وتمنى لهم الخير {يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ . بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} [يس من الآيتين:26-27].
إن الله أمر نبيه بهذا "ويوجهه إلى إنكار ذاته وعدم المَنّ بما يقدمه من الجهد، أو استكثاره واستعظامه {وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ} [المدثر:6].. وهو سيقدم الكثير، وسيبذل الكثير، وسيلقى الكثير من الجهد والتضحية والعناء. ولكن ربه يريد منه ألا يظل يستعظم ما يقدمه ويستكثره ويمتن به.. وهذه الدعوة لا تستقيم في نفسٍ تحس بما تبذل فيها، فالبذل فيها من الضخامة بحيث لا تحتمله النفس إلا حين تنساه، بل حين لا تستشعره من الأصل، لأنها مستغرقة في الشعور باللّه شاعرة بأن كل ما تقدمه هو من فضله ومن عطاياه، فهو فضل يمنحها إياه، وعطاء يختارها له، ويوفقها لنَيْله. وهو اختيار واصطفاء وتكريم يستحق الشكر للّه، لا المن والاستكثار" (سيد قطب، في ظلال القرآن).