البحث
هل صوم عاشوراء .. يُكفِّر الكبائر ؟!!
هذه المسألة قد تعرضتُ لها، في إحدى كُتبي - يسَّر الله طباعتها -!
وألخّصها على نحوٍ يسير، مما يقتضيه المقام، فأقول :
في هذه المسألة .. قولان لأهل العلم والسُّنّة، وتفصيل !
** القول الأول: أن صوم عاشوراء وما في معناه من النوافل والحسنات؛ يُكفّر فقط الصغائر دون الكبائر، لأن الكبائر تحتاج إلى توبةٍ خاصّة .. وهذا قول جماهير أهل السُّنّة !
واستدلُّوا بعموم الأدلة، التي اشترطَت تكفير الذنوب ما اجتُنبَت الكبائر، وكذلك اشترطوا أن يكون المسلم، مقيمًا للفرائض آتيًا بها !
** والقول الثاني – وهو قِبلتنا ومقصدنا -: أن صوم عاشوراء وما في معناه من الحسنات والطاعات – فرضًا كانت أو نفلًا -؛ يُكفّر الصغائر والكبائر، ولا حَجْر على فضل الله وسعة رحمته !
واستدلوا على ذلك: بعمومات الأدلة التي ورد فيها ذكر الحسنات المُكفرة للذنوب، دون تقييد بصغيرها أو كبيرها !
فمن ذلك: قوله تعالى: { إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ }.
وقوله: { وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ }.
وقوله عليه السلام – كما في [الصحيحين] - :
«من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا، غُفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا، غفر له ما تقدم من ذنبه » .
وكذا قوله عليه السلام – كما في [الصحيحين] «من حجَّ هذا البيت، فلم يرفث، ولم يفسق؛ رجع كيوم ولدته أمه » .
إلى غير ذلك من الأدلة، التي تدل بظاهرها على أن الحسنات تُكفّر عموم الذنوب والسيئات، ولم تُقيَّد بصغيرها أو كبيرها !
** وممّن نصر هذا القول: ابن تيمية رحمه الله – في أحد قوليه -، وكذلك تلميذه ابن القيّم، وهو ظاهر كلام ابن المنذر، وكذلك الإمام البخاريّ، ويدل عليه تفصيل النوويّ رحم الله الجميع!
= أما البخاريّ رحمه الله: فقد بوَّب في صحيحه بابًا، فقال :
( باب الصدقة تُكفّر الخطيئة ) .. هكذا دون التقييد بالصغائر أو الكبائر!
ثم ساق حديث حذيفة مع عمر رضي الله عنهما، وفيه :
« فتنة الرجل في أهله وولده وجارِه ؛ تُكفّرها الصلاةُ والصدقة والمعروف» . ومعلومٌ أن مثل هذه الفتنة، تشتمل على الصغائر والكبائر على حدٍّ سواء !
وهكذا بوَّب البخاريّ أيضًا، قريبًا من ذلك في أبواب الصلاة والصوم !
= وأما ابن المنذر رحمه الله :
فحينما تكلّم في كتابه " الإشراف " على حديث :
«من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا؛ غُفر له ما تقدم من ذنبه » .
فقال هناك : ( قولٌ عامٌّ يُرجى لمن قامها إيمانًا واحتسابًا؛ أن يُغفر له جميع ذنوبه صغيرها وكبيرها ).
هكذا صرّح رحمه الله، بمغفرة الصغائر والكبائر، علاوةً على أن قيام ليلة القدر نافلة لا فريضة !
= وأما ابن تيميّة رحمه الله :
ففي معرض ردّه على الخوارج، الذين يُكفّرون بالكبيرة، قال :
( وسؤالهم على هذا الوجه، أن يقولوا: الحسنات إنما تُكفّر الصغائر فقط، فأما الكبائر فلا تُغفر إلا بالتوبة، كما قد جاء في بعض الأحاديث: " ما اجتنبت الكبائر " !
فيجاب عن هذا بوجوه – ثم ساق خمسة أوجه نكتفي منها باثنين -:
( الأول: أنه قد جاء التصريح في كثير من الأحاديث، بأن المغفرة قد تكون مع الكبائر، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «غُفر له وإن كان فرَّ من الزحف » ، [وفي السُّنن] : «أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، في صاحبٍ لنا قد أوجب، فقال: أعتقوا عنه يُعتق الله بكل عضو منه؛ عضوًا منه من النار » ، [وفي الصحيحين] في حديث أبي ذر: « وإن زنى وإن سرق » .
الثاني: أن قوله لأهل بدر ونحوهم: «اعملوا ما شئتم فقد غَفرت لكم » ؛ إن حُمل على الصغائر، أو على المغفرة مع التوبة؛ لم يكن فرق بينهم وبين غيرهم .. فكما لا يجوز حمل الحديث على الكفر، لما قد عُلم أن الكفر لا يُغفر إلا بالتوبة؛ لا يجوز حمله على مجرد الصغائر المُكفرة باجتناب الكبائر ). الفتاوى
= وأما ابن القيّم رحمه الله :
فقد قال في " زاد المعاد " – بتصرّف -: ( الكبيرة العظيمة مما دون الشرك، قد تُكفَّر بالحسنة الكبيرة الماحية ... فإن ما اشتملت عليه الحسنة العظيمة من المصلحة، وتضمنته من محبة الله لها ورضاه بها وفرحه بها، ومباهاته للملائكة بفاعلها؛ أعظم مما اشتملت عليه السيئة من المفسدة، وتضمنته من بُغض الله لها، فغلَب الأقوى على الأضعف، فأزاله وأبطل مقتضاه، وهذه حكمة الله في الصحة والمرض، الناشئين من الحسنات والسيئات، الموجبين لصحة القلب ومرضه، وهي نظير حكمته تعالى في الصحة والمرض، اللاحقين للبدن !
فإن الأقوى منهما يقهر المغلوب ويصير الحكم له، حتى يذهب أثر الأضعف .. فهذه حكمته في خلقه وقضائه، وتلك حكمته في شرعه وأمره ... !
-ثم ذكر بعض الأدلة التي تدل على العكس، وهو أن السيئة بعد الحسنة قد تحبطها، كقوله تعالى: { لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى }. حتى قال رحمه الله :
( إلى غير ذلك من النصوص والآثار، الدالة على تدافع الحسنات والسيئات، وإبطال بعضها بعضًا، وذهاب أثر القويّ منها بما دونه، وعلى هذا مَبنى الموازنة والإحباط ).
قلتُ :
ويشهد لكلام ابن القيّم رحمه الله، في مسألة تدافع الحسنات والسيئات، وكون الغلبة للأقوى: حديث المرأة البغيّ من بني إسرائيل .. حيث أنها كانت بغيًّا، مرتكبةً لكبائر عظام، ومع ذلك غَفر الله لها، لإحسانها إلى كلبٍ سَقته بخُفّها !
= وأما تفصيل النوويّ رحمه الله – وهو تفصيلٌ حسَن -، فقد قال في "المجموع" : ( صوم يوم عرفة كفّارة سنتين، ويوم عاشوراء كفارة سنة ... وكل واحد من هذه المذكورات صالح للتكفير، فإن وجد ما يُكفّره من الصغائر كفَّره، وإن لم يصادف صغيرةً ولا كبيرة؛ كُتبت به حسنات، ورُفعت له به درجات .. وإن صادف كبيرة أو كبائر، ولم يصادف صغائر؛ رجونا أن تُخفّف من الكبائر ).
وختامًـــــا :
ثِق في عظيم فضل الله، وأحسن الظنّ برحماتِه، وأقبِل عليه راجيًا مُنيبًا .. فوَالله .. لو كان عليك من الذنوب، أمثال الجبال والقِلال؛ لجعلها الكريم هباءً منثورًا !
ولك فُسحةٌ وأُنسٌ في بُشراه .. بعد أن عدَّد الكبائر، من قتلٍ وزنا ... إلخ، ثم قال مُبشِّرًا :
{ إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا }.
فالمطلوب: توبة خاصّة من كلّ كبيرة + إتقان صوم عاشوراء وكلّ حسنة وطاعة + التحلّل من المظالم وردّها إلى أهلها ما استطعتَ + الإحسان فيما هو آت = كيوم ولدته أمّه لا صغائر ولا كبائر!
وكلّ عام أنتم بخير .. يا وجوه الخير !