البحث
تأملات في ظاهرة التوقف عن مجالس العلم
عن الهروبية المقنعة
حينما نتأمل في حكمة تحرّيم الله تعالى للمُسْكِرات نجد أنها تذهب بتكريم الإنسان وتاجه؛ العقل، فالمُسكِر هو كل ما يُسْكِرُ، أَيْ يُحْدِثُ دَوَرَانًا فِي الرَّأْسِ وَيُفْقِدُ شَارِبِهِ الوَعْيَ والإدراك، ومن هنا سمّيت الخمر خمرًا لأنها تَخْمُر العقل أي تغطيه وتطمسه.
وما هو ذاك العقل الذي كرّمنا الله به؟ والذي ذكر في عدة مواضع في القرآن الكريم، فوردت لفظة {تَعْقِلُونَ} في القرآن 24 مرة، منها 13 مرة بصيغة {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} وهي صيغة استنكارية لإهمال تشغيل هذه النعمة العظيمة، وأما {يَتَفَكَّرُونَ} فقد ذكرت في 10 مواضع، و{يَتَدَبَّرُونَ} في موضعين.
هل خطر لك أنك قد لا تكون شاربًا للخمر فعليًا، لكنك غارق في السُّكْر حقيقة؟ إن كل محاولة "لتنسى"، "لتسلو"، "لتغفل"، "لئلا تفكر"، "لئلا تتذكر"، "لئلا تعلم"، "لئلا تعقل"، وما شاكلها، كلها من صور السُكر: لأنك تغرق فيما يُغيّب عقلك عن الحاضر أو يعطّله عن مواجهة مسؤولياته. قد يتخذ ذلك السُكر صورة الإغراق في مشاهدة فيلم بعد فيلم أو مسلسل وراء مسلسل، في الدوران العبثي في الفيسبوك وتقليب الصفحات الإنترنت بلا طائل، في الدردشات والمحادثات المسموعة والمكتوبة عن السفاسف والتوافه، في البطء المستميت في الحركة وإنجاز المهام الروتينية حتى ينقضي اليوم والسلام، في الانغماس في دوامات لقمة العيش حتى يتسرب العيش نفسه من بين أصابعك، في النوم الكثير والخمول الممتد بلا أمد.
إننا حين نتأمل توجيهات الله تعالى عن أعدى أعداء بني آدم من كيد الشيطان واتباع الهوى وخواطر النفس الأمّارة بالسوء، لا نجد فيها توجيهًا يدعو للهرب أو الفرار أو الخوف، لم يأمرنا الله بالخوف إلا منه، ولم يدعو للفرار إلا إليه؛ أما أولئك فكانت الأوامر بصددهم دائمًا تقوم على فعل إيجابي لا تولٍّ سلبي: استعذ، استعن، قاوم، استغفر، تب، أصلح.
قمة السَّكر هو أن تعيش حياتك هاربًا من حياتك، غير أنه سَكَر مقنّع مادتّه النفوس لا الكؤوس، وما تفر منه لا مفر منه، وهو لابد ملاقيك، فإن سَكِرت عنه هنا عَقِلته هناك، حيث لا ينفع إبصار بعد أن اختار صاحبه العمى، {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [قّ:22].
عن مفهوم قيام الحجة
ليس من ديننا الهروب من مواجهة مسؤولية الحياة ومسؤولية العقل ومسؤولية الاختيار، إن هذه المسؤوليات هي ما تجعل منك إنسانًا، فلا أنت حيوان ولا ملاك ولا شيطان، وإنما تكوينك الفريد من جماع خصائصهم هو عين الامتحان وحكمة الاختبار، وطالما أنك موجود فأنت ممتحن شئت أم أبيت.
إن عدم الحرص على معرفة الواجب لا يسقط وجوبه، وليس كل جاهل يعذر بجهله، فمن بلغ الستين ليس كمن توفاه الله في العشرين، وفي الحديث: «أعْذَرَ الله إلى امرئ أخّر أجله حتى بلَّغه ستين سنة» (صحيح البخاري [6419])، أي لم يبق له عذر يعتذر به كأن يقول: لو مُد لي في الأجل لفعلت ما أمرت به.
كذلك من يملك اليوم مفاتح العلم وإجابة المسائل بضغطة زر، ليس كمن كان يقطع البوادي بالراوحل ليحصّل حديثًا واحدًا! كما قد تتغير الفتوى بتغير الأزمان، كذلك تتسع المسؤولية بما يفتح الله من سعة في أدواتها، فلا يستوي الأعمى والبصير، والقادر والمقعد، والمقتدر والفقير، إن مسألة الاستطاعة شيء واختيار إهدار هذه الاستطاعة شيء آخر تمامًا، وتوقفك عن طلب العلم أو وسائل تحصيله خشية أن تزيد الحجة لا يسقط أصلها، فالحجة قامت عليك بعقلك واستطاعتك.
ثم إن خشية الحجة لا يحلها الهرب منها! لماذا لا ننتبه أن الهروب ليس حلًا؟ وأن تولية الظهر لأمر لا يلغي وجوده؟ يقول ابن كثير رحمه الله تعالى، في تفسير آية {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44]: "ليس المراد ذمهم على أمرهم بالبر، بل على تركهم له، فكل من الأمر بالمعروف وفعله واجب، لا يسقط أحدهما بترك الآخر على أصح قولي العلماء من السلف والخلف" ا.هـ
فإذن مجرد ترك البر خشية مسؤوليته، أو اختيار الهروب من المواجهة لا يحل الإشكال الذي تركته أو هربت منه، بل لعلك بذلك تضاعف على نفسك تبعة التقصير والتفريط، عدم العمل بالعلم إشكال يتطلب العمل لا التوقف، ولعل العمل المطلوب يكون في تغيير نوع العلم الذي طلبته أو درجته أو كيفيته، إن صم أذنيك عن سماع أنفاسك التي تتردد إلى انقضاء، أو إغماض عينيك عن تتابع الليل والنهار إلى ختام، لن يغير من حقائق الأمور شيئًا، والحجة قائمة قمت بها أم قعدت دونها.
عن مفهوم الدوام والتجديد
ما قولك فيمن بذر بذرة شجرة، واستمر في تعهدها بضعة أيام أو أسابيع، ثم ملّ الانتظار واستبطأ نمو الشجرة، فتركها متذمرًا أنها غير ذات جدوى؟!
إن العقيدة التي يؤمن بها المرء هي بذور من القناعات، تُغرس في فكره وتُورِق في وجدانه فتثمر في حركته، فالذي يستعجل صور الحركة قبل وقر البذرة كمن يريد أكل العجين قبل أن يختمر، ولذلك السر في بهتان أفعالنا وتذبذبها أننا لا نتعاهد عقيدتنا قناعة ومفاهيمًا ووعيًا وعقلًا وتدبرًا، وبالتالي يكون الجيشان الشعوري دائمًا فورة مؤقتة بحسب السياق الذي هيجها ثم تخمد.
إن الذي يبتغي الوصول لثمرة اليقين لابد أن يعتصم بالصبر ويتسلح بدوام التذكرة، لأن في التكرار عبرة، وفي كل عبرة جَدَّة، وفي كل تأمل وتدبر فرع جديد يورق في الوجدان، بذلك فقط تصير العقيدة حية في نفس صاحبها، ويغدو إيمانه مزهرًا متجددًا. ولذلك كم من شباب في العمر شاخ إيمانهم لعدم تعهده أو تعجل ثماره قبل حسن غراسه.
عن مفهوم العمل
قبل أن تتعجل العمل بالعلم، تأكد أنك علمت حقيقة وليس فقط عرفت، وأن هذا العلم رسخ في فكرك قناعة وأثمر في وجدانك تدبرًا وتفكرًا فيه، هذه حقيقة العمل بالعلم، أما صور الحركة التي تنشأ بعد ذلك فهي تنشأ تَبْعًا وانعكاسًا بالضرورة ليس إلا، لما وقر في القلب بداية فكرًا ووجدانًا.
هل سمعت عن دواء مهما بلغت قوته يدوم أثره من مرة واحدة؟ أو عن بقعة في قماش زالت بمجرد غمسها غمسة يسيرة في الماء ثم رفعها؟ لابد من النقع: لابد من الدوام ولابد من الصبر والمصابرة، ثابر على حلق العلم ومجالس التذكرة بهدف تجديد يقظتك وتعميق قناعاتك ووصل إيمانك بأسباب الحياة، العمل الذي تنشده والحركة التي تتعجلها تولد بالفعل في رحم تلك المثابرة لا خارجها.
العمل تصديق، ولا تصديق بغير صدق، ورأس الصدق دوام الاستعانة بالله ودوام الصبر على أمر الله، وكم ندّعي الاستعانة بالله ثم نغفل حقيقة أن الأمر كله بيد الله وأنه هو الذي يحول بين المرء وقلبه أو يهديه من الظلمات إلى النور، لا حول ولا قوة إلا بالله تعني أنه لا انتقال من حال إلا حال إلا بالله، ولا قدرة على تلك النقلة إلا بالله.
مثابرتك وصبرك ودعاؤك وتوسلك لله أن يعينك ويصلحك؛ هذا عين العمل الذي نغفله، وبالتالي لا نحن فقهنا العلم ولا رزقنا العمل، فالله لا يعاتبنا على ضعفنا وهو الذي خلقنا {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء:28]، لكن على استغنائنا عنه مع فقرنا إليه، وإعراضنا عنه مع ضعفننا دونه، واتكالنا على عملنا وأنفسنا وإرادتنا مع أنه لا قوة إلا به.
في المرة القادمة التي تهم فيها بالفرار، فر إلى الله لا منه.