الحمد لله وكفى، وصلاة وسلام على عباده الذين اصطفى، ونخص بصلاته وسلامه نبيه المصطفى، وعلى آله وصحبه ومن بهديهم اقتفى، أما بعد:
فإن المساجد أحب البقاع إلى الله سبحانه وتعالى ولقد أذن جل وعلا أن ترفع: أي تبنى ويعظَّم شأنها، وتطهر من الأدناس والقاذورات، ومن تعظيم بيوت الله التي هي من شعائره سبحانه مراعاة تجنيب المساجد الروائح الكريهة، سواء أكانت من آثار الأطعمة أو غيرها.
وقد ترجم الإمام البخاري رحمه الله لذلك بقوله: (باب ما جاء في الثوم النيئ والبصل والكراث..)، وأورد حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في غزوة خيبر: «من أكل من هذه الشجرة -يعني الثوم- فلا يقربن مسجدنا» [صحيح مسلم: 562]، وهذا تصريح ينهى من أكل الثوم ونحوه عن دخول كل مسجد، وهو مذهب العلماء كافة إلا ما حكاه القاضي عياض عن بعض العلماء: أن النهي خاص في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم لقوله صلى الله عليه وسلم.
وحجة الجمهور: "فلا يقربن المساجد"، ثم إن هذا النهي إنما هو عن حضور المسجد، لا عن أكل الثوم والبصل ونحوهما، فهذه البقول حلال بإجماع من يعتد به، وحكى القاضي عياض عن أهل الظاهر تحريمها؛ لأنها تمنع عن حضور الجماعة وهي عندهم فرض عين، وحجة الجمهور: قوله صلى الله عليه وسلم في أحاديث الباب: «كُلْ، فإني أناجي من لا تناجي» [صحيح البخاري: 7395].
وقوله صلى الله عليه وسلم: «أيها الناس إنه ليس لي تحريم ما أحل الله لي» [صحيح مسلم: 877]. ومن الروايات في ذلك ما رواه مسلم عن جابر رضي الله عنه قال: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَكْلِ الْبَصَلِ وَالْكُرَّاثِ فَغَلَبَتْنَا الْحَاجَةُ فَأَكَلْنَا مِنْهَا فَقَالَ: «مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ الْمُنْتِنَةِ فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ الْإِنْسُ» [صحيح مسلم: 874].
وروى مسلم من حديث طويل عن عمر رضي الله عنه أنه خطب الناس يوم الجمعة وفيه: «ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ تَأْكُلُونَ شَجَرَتَيْنِ لَا أَرَاهُمَا إِلَّا خَبِيثَتَيْنِ، هَذَا الْبَصَلَ وَالثُّومَ لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا وَجَدَ رِيحَهُمَا مِنْ الرَّجُلِ فِي الْمَسْجِدِ أَمَرَ بِهِ فَأُخْرِجَ إِلَى الْبَقِيعِ فَمَنْ أَكَلَهُمَا فَلْيُمِتْهُمَا طَبْخًا» [صحيح مسلم: 879]، ويلحق به من أكل فجلًا وكان يتجشأ، وقال بعض العلماء: ويلحق به من به بخر في فيه أو به جرح له رائحة.
وقاس العلماء على هذا مجامع الصلاة غير المسجد، كمصلى العيد والجنائز ونحوها من مجامع العبادات، وكذا مجامع العلم والذكر والولائم ونحوها، ولا يلتحق بها الأسواق ونحوها.
فينبغي للعبد المسلم أن يتحرى في طاعته لله التزود من الخيرات والبحث عن المكملات، وأن يتجنب كل ما يكره سبحانه وينقص في الثواب، وينبغي الابتعاد عما يسبب روائح كريهة خاصة في شهر رمضان حيث يكون العبد حريصًا على الصلاة في المسجد مع المسلمين صلاة التراويح والقيام؛ ليقترب من ربه، وتجمع الناس في هذا الموسم أكثر من غيره فلا يؤذي المسلم إخوانه بروائح الثوم والبصل ونحوهما، وعليه أن يخرج إلى المسجد نظيفًا متطيبًا ما أمكن؛ حتى يرتاح له إخوانه ويتجنب أذيتهم بما تكرهه النفس من الروائح العفنة، وفي ذلك احترام لبيوت الله وبعدًا عن أذية المؤمنين والملائكة المقربين، والتزام ذلك كله من تعظيم شعائر الله، ومن يعظم شعائر الله فإن ذلك دليل تقواه وحرصه على الخير، كما قال تعالى: {وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32].
وفق الله الجميع إلى مرضاته، وتقبل منَّا صالح الأعمال، وغفر لنا ولوالدينا وللمؤمنين. والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.