البحث
الرضا عن الله
الرِّضا عن الله عبادةٌ قلبيَّة رفيعة الشَّأن، ودرجة إيمانيَّة عظيمة، ولكِنْ قليلٌ من يَصل إلى تلك الدَّرجة السامية السامقة، وما ذاك إلاَّ بسبب الجهل بالله تعالى؛ فلو عرف المرءُ ربَّه سبحانه وتعالى كما يجِب، لظهَر منه التَّعظيمُ والتَّقوى، ولما كان منه إلاَّ الأدب الجمُّ مع مولاه تبارك وتعالى؛ إذعانًا وتسليمًا، وخضوعًا وانقيادًا، بمعاني الحبِّ والشَّوق إلى لقائه، والتشوُّف والتطلُّع إلى رضوانه.
ففي كلِّ صباحٍ ومساء، وبعد كلِّ تأذين للصَّلاة، يقرُّ المسلِم بهذا المعنى العظيم: ((رضِيتُ بالله ربًّا، وبالإسلامِ دينًا، وبمحمدٍ صلى الله عليه وسلم نبيًّا))، ولكن السؤال الأهم: هل أقرَّ الجَنانُ وسلَّم؟! وهل انقادَت الجوارِح وأذعنَتْ؟! أم أنه لفظٌ باللِّسان فحَسْب؟!
حريٌّ بكل موحِّد أن يتلمَّس قولَه وعمله، ويتفقَّد قلبَه كلَّ حين؛ قال تعالى: ﴿ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [النساء: 65]، لنتأمل كلمة (حَرَجًا) في الآية الكريمة، قال الإمام القرطبي: أي: ضيقًا وشكًّا[1]، وقال الطَّبري: "لا يجدوا في أنفسهم ضِيقًا ممَّا قضيتَ"[2]، ولذلك قال بعضُ السَّلَف: الرِّضا بابُ الله الأعظم[3].
ففي أي شيءٍ يكون الرِّضا عن الله، وكيف يكون؟
الجواب: أن ذلك من جانبين:
فيكون بالرِّضا عن أَقدار الله تعالى المختلِفة، مهما تعاظمَت أو كانت كبيرةً على نفس المرء، قال صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ عِظَمَ الجزاءِ مع عِظَمِ البلاءِ، وإنَّ الله تعالى إذا أحبَّ قومًا ابتلاهم، فمن رضِي فله الرِّضا، ومن سخطَ فله السُّخْطُ))[4].
فالقضاء نافِذ لا مَحالة، و((لا يردُّ القدرَ إلاَّ الدُّعاءُ))؛ كما أخبر النبيُّ صلى الله عليه وسلم، هذه سُنَّة إلهيَّة، والسؤال المهمُّ حيالها: كيف يَستقبل المؤمنُ هذا القضاء؟ أبالرِّضا الذي هو مقتضى الإيمان الحق بالله تعالى وأسمائه وصفاته، أم بالجزَع الذي هو طَبعُ النَّفس الهلوعة؟ قال تعالى: ﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلَّا الْمُصَلِّينَ ﴾ [المعارج: 19 - 22].
ثمَّ الصَّبرُ عند الصَّدمةِ الأولى، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: مرَّ النبيُّ صلَّى الله عليه وسلم بامرأةٍ تبكي عند قبرٍ، فقال: ((اتَّقي اللهَ واصبري))، قالت: إليكَ عَنِّي؛ فإنكَ لم تُصَب بمصيبتي؛ ولم تعرِفْه، فقيل لها: إنَّه النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فأتَت باب النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم، فلم تجد عندَه بوَّابِين، فقالت: لم أعرفْكَ! فقال: ((إنما الصَّبرُ عند الصدمةِ الأولى))[5].
وكما يذكر ابن القيِّم رحمه الله تعالى، فإنَّ الرِّضا عن الله تعالى يتحقَّق بثلاثة أمور: "باستواء الحالات عند العَبد، وسقوطِ الخصومة مع الخَلق، والخلاص من المسألة والإلحاح...؛ فإنَّ الرِّضا الموافق تستَوي عنده الحالات - من النِّعمة والبليَّة - في رِضاه بحسنِ اختيار الله له"[6].
قال أبو الدَّرداء رضي الله عنه: "إنَّ الله إذا قضى قضاءً، أحبَّ أن يُرضَى به"[7].
فإذا وصل العبدُ إلى تلك الدَّرجة السَّامقة، وهي الرِّضا عن الله تعالى، حصَّل ونال أشرفَ الثِّمار، يقول ابن القيم رحمه الله: "رِضاه عن ربِّه سبحانه وتعالى في جميع الحالات يُثمر رِضا ربِّه عنه؛ فإذا رَضِي عنه بالقليل من الرِّزق، رضي ربُّه عنه بالقليلِ من العمَل، وإذا رضِي عنه في جميعِ الحالات واستوَت عنده، وجَدَه أَسرع شيء إلى رِضاه إذا ترضَّاه وتملَّقه"[8]، فهذهِ أعظم ثمرةٍ؛ أن يرضى الله تعالى عنه إن هو رَضِي عن الله.
وأمَّا الجانِب الآخر الذي يكون فيه الرِّضـا عن الله تعالى، فهو الرِّضا عن شَرْعه وحُكمه عزَّ وجل، بأن لا يَسخط شيئًا ممَّا أنزل الله تعالى أو ممَّا جاءت بِه الشريعةُ؛ بل الانقياد والتَّسليم والخضوع والطَّاعة هي دَيْدنه وصِفته كلَّ حين، آخذًا بكلِّ الشريعة دون انتقاءٍ واختيار بحسَب أهواء النَّفس ورغباتها، قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾ [البقرة: 208].
فلا مجال لإساءةِ الأدب مع الربِّ عزَّ وجل، بزَعْم حريَّة الرَّأي أو التَّعبير! أو التسخُّط على شيء من الشريعة أو انتقادها بزَعْم الشعارات الزَّائفة البرَّاقة التي هي كلماتُ حقٍّ أُريد بها بَاطل، كمَزَاعم المساوَاة والحريَّة والحقوقيَّة!
فبشأنِ الأولى يُقال لهم: بربِّكم، أليس تجدون في كتابِ الله خلاف مزاعمكم؟! إذ يقول ربُّ العزَّة سبحانه: ﴿ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى ﴾ [آل عمران: 36]، إنَّها كلمة إلهيَّة حاسِمة فاصلة، تكفِي المؤمنَ الموحِّد المحبَّ لربِّه تعالى لترسخ قدم الإيمان عنده، فيدحض بها كلَّ شُبهة مُثارة، ظاهرها الخَير وباطنها السُّمُّ الزعاف.
﴿ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى ﴾ [آل عمران: 36]؛ ردٌّ فَصلٌ فاصل على جميع سجلاَّت المرجِفين من البشر أدعياء الشِّعارات الكاذبة.
وأما الثانية، فهل في كتاب ربِّنا عز وجل مفرَدة (حُريَّة)؟! لو استعرضنَاه من الدَّفَّة للدَّفَّة، ما وجدنا هذه المُفردة؛ لأنها نقيضُ العبوديَّة الواجبة للربِّ تعالى، والتي هي مُطلق التسليم والانقياد والخضوع والطاعة، ولكنَّها مفردة شُوِّهَت دلالتها لتخدم أغراضًا لا تقلُّ تشويهًا عن الفِكر الذي أنجبها.
وأما الثالثة، ففي خضَمِّ حروب الحقوقيَّة الطاحنة بين البشر، وكلٌّ ينظر بعين السخط إلى حاله وحياته - إلاَّ من رحم الله - نسُوا أو تغافَلوا عن الحقِّ الأعظم، وهو حقُّ الله تعالى، الذي لو أَتوا به على أكمل وَجْه لاستقامَت حياتُهم ومعيشتهم، وحصلَت لهم حقوقهم بلا نزاعاتٍ أو صراعات، كلمةُ حقٍّ أُريد بها باطلٌ أيضًا.
فهل رضينا عن الله تعالى؟!
في مجلسٍ من المجالس، كانت إِحدى الأخوات تتحدَّثُ عن الحياة الزوجيَّة، فكان مما تناولَت شريعةُ التعدُّد في الإسلام، فثارَت النِّسوة وتنافرَت قلوبهنَّ للأسف الشديد! ولو علِمْن أنها شِرعة الرَّحمن نالَتها أيدي السُّوء بالتشويه؛ بَدْءًا من المستشرقين الطاعنين في دين الإسلام، وانتهاءً بالإعلام المغرِض الذي سار على خُطى الاستشراق والأقلام الآثمة، لاختلفَت ردود أفعالهنَّ، بل لو علمنَ أن الرِّضـا عن الله تعالى مستلزمٌ للرِّضا بشرعِه وأمرِه ونهيِه عزَّ وجل وجميع أحكامه الإلهية، لرضينَ وسلَّمنَ، ولكنَّه الجهل بالله تعالى.
قال ابن القيم: "إنَّ السخط يوجب تلوُّن العبد، وعدم ثباتِه مع الله؛ فإنَّه لا يرضى إلاَّ بما يلائم طبعَه ونفسه، والمقادير تجري دائمًا بما يلائمه وبما لا يلائمه، وكلَّما جرى عليه منها ما لا يلائِمُه أسخطه، فلا تثبُت له قدَم على العبودية، فإذا رَضِي عن ربِّه في جميع الحالات، استقرَّت قدمُه في مقام العبوديَّة، فلا يزيل التلوُّنَ عن العبد شيءٌ مثل الرِّضا"[9].
الرضا وأهل الجنة:
يقول ابن القيم: "وليس الرِّضا والمحبة كالرجاء والخوف؛ فإنَّ الرِّضا والمحبَّة حالان من أحوال أهل الجنَّة لا يفارقان المتلبِّس بهما في الدنيا، ولا في البَرْزخ، ولا في الآخرة، بخلاف الخَوف والرجاء؛ فإنَّهما يفارقان أهل الجنَّة بحصول ما كانوا يرجونه، وأَمْنهم ممَّا كانوا يخافونه، وإن كان رجاؤهم لِما ينالون من كرامته دائمًا، لكنَّه ليس رجاء مشوبًا بشكٍّ؛ بل هو رجاءُ واثِقٍ بوعد صادق مِن حبيب قادر، فهذا لون، ورجاؤهم في الدنيا لون"[10].
فهل الرضا جنة الدنيا العاجلة؟!
يقول صاحب المدارج رحمه الله: "الرِّضا مَعْقد نِظام الدِّين ظاهره وباطنه؛ فإنَّ القضايا لا تخلو من خمسة أنواع: فتنقسم قسمين: دينية، وكونية؛ وهي: مأمورات، ومنهيَّات، ومباحات، ونِعَم مُلذَّة، وبلايا مؤلِمَة، فإذا استعمل العبدُ الرِّضا في ذلك كلِّه، فقد أخذ بالحظِّ الوافر من الإسلام، وفاز بالقِدْح المعلَّى"[11].
ومَن فاز بالقِدْح المعلَّى، فقد دخل جنَّة الدنيا، التي هي مقدِّمة جنة الآخرة إن شاء الله تعالى.
قالوا في الرضا:
• هو تَرك الخِلاف على الربِّ فيما يجريه على العبد[12].
• الرِّضا يُثمر الشُّكر، الذي هو من أعلى مقامات الإيمان.
• الرِّضا يفرِّغ القلب لله، والسخط يفرغ القلبَ من الله.
• الرِّضا بالقضاء مِن أسباب السعادة، والتسخُّط على القضاء من أسباب الشقاوة[13].
وأخيرًا: قال صلى الله عليه وسلم: ((ذاقَ طعمَ الإيمان: مَن رضِي باللَّه ربًّا، وبالإسلامِ دينًا، وبمحمَّدٍ رسولاً))[14].
رضينا بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمدٍ صلى الله عليه وسلم نبيًّا ورسولاً.
[1] الجامع لأحكام القرآن، ج5، ص232.
[2] تفسير الطبري، ج8، ص518.
[3] مدارج السالكين، ج2، ص172.
[4] حسَّنه الألباني.
[5] رواه البخاري.
[6] مدارج السالكين، ج2، ص198 - 199.
[7] جامع العلوم والحكم؛ لابن رجب الحنبلي، ج1، ص486.
[8] المرجع السابق، ج2، ص200.
[9] المرجع السابق، ج2، ص201.
[10] مدارج السالكين، ج2، ص173.
[11] ج2، ص204.
[12] مدارج السالكين، ج2، ص215.
[13] دارج السالكين، ج2، ص202
[14] رواهُ مسلم.